الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿أمْ تَسْألُهم أجْرًا فَهم مِن مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ﴾ ﴿أمْ عِنْدَهُمُ الغَيْبُ فَهم يَكْتُبُونَ﴾ ﴿فاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ولا تَكُنْ كَصاحِبِ الحُوتِ إذْ نادى وهو مَكْظُومٌ﴾ ﴿لَوْلا أنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِن رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالعَراءِ وهو مَذْمُومٌ﴾ ﴿فاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصالِحِينَ﴾ ﴿وَإنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأبْصارِهِمْ لَمّا سَمِعُوا الذِكْرَ ويَقُولُونَ إنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾ ﴿وَما هو إلا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ﴾
هَذِهِ "أمْ" الَّتِي تَتَضَمَّنُ الإضْرابَ عَنِ الكَلامِ الأوَّلِ لا عَلى جِهَةِ الرَفْضِ لَهُ، لَكِنَّ عَلى جِهَةِ التَرْكِ والإقْبالِ عَلى سِواهُ، وهَذا التَوْقِيفُ هو لِمُحَمَّدٍ ﷺ، والمُرادُ بِهِ تَوْبِيخُ الكُفّارِ؛ لِأنَّهُ لَوْ سَألَهم أجْرًا فَأثْقَلَهم عَدَمُ ذَلِكَ لَكانَ لَهم بَعْضُ العُذْرِ في إعْراضِهِمْ وقَرارِهِمْ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمْ عِنْدَهُمُ الغَيْبُ فَهم يَكْتُبُونَ﴾ مَعْناهُ: هَلْ لَهم عِلْمٌ بِما يَكُونُ فَيَدَّعُونَ مَعَ ذَلِكَ أنَّ الأمْرَ عَلى اخْتِيارِهِمْ جارٍ؟
ثُمَّ أمَرَ تَعالى نَبِيَّهُ ﷺ بِالصَبْرِ لِحُكْمِهِ، وأنْ يَمْضِيَ لِما أمَرَ بِهِ مِنَ التَبْلِيغِ واحْتِمالِ الأذى والمَشَقَّةِ، ونَهى عَنِ الضَجَرِ والعَجَلَةِ الَّتِي وقَعَ فِيها يُونُسُ عَلَيْهِ السَلامُ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى القِصَّةَ بِاقْتِضابٍ وذَكَرَ ما وقَعَ في آخِرِها مِن نِدائِهِ مِن بَطْنِ الحُوتِ وهو مَكْظُومٌ، أيْ: غَيْظُهُ في صَدْرِهِ، وحَقِيقَةُ "الكَظْمِ" هو الغَيْظُ والحُزْنُ والنَدَمُ، فَحَمَلَ المَكْظُومَ عَلَيْهِ تَجَوُّزًا، وهو في الحَقِيقَةِ كاظِمٌ، ونَحْوُ هَذا قَوْلُ ذِي الرُمَّةِ: (p-٣٨٢)
؎ وأنْتَ مِن حُبِّ مَيٍّ مُضْمِرٌ حَزَنًا عانِي الفُؤادِ قَرِيحُ القَلْبِ مَكْظُومُ
وقالَ النَقّاشُ: المَكْظُومُ الَّذِي أخَذَ بِكَظْمِهِ وهو مُجارِي القَلْبِ، ومِنهُ سُمِّيَتْ "الكاظِمَةُ" وهي القَناةُ في جَوْفِ الأرْضِ.
وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "لَوْلا أنْ تَدارَكَهُ" أسْنَدَ الفِعْلَ دُونَ عَلامَةِ تَأْنِيثٍ لِأنَّ تَأْنِيثَ النِعْمَةِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، وأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وابْنُ عَبّاسٍ: "لَوْلا أنْ تَدارَكَتْهُ" عَلى إظْهارِ العَلامَةِ، وقَرَأ ابْنُ هُرْمُزَ: "لَوْلا أنْ تَدارَكَهُ" بِشَدِّ الدالِ عَلى مَعْنى: تَتَدارَكَهُ، وهي حِكايَةُ حالٍ تَأتِي فَلِذَلِكَ جاءَ بِالفِعْلِ مُسْتَقْبَلًا. بِمَعْنى: لَوْلا أنْ يُقالَ فِيهِ: تَتَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِن رَبِّهِ، ونَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ( فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَلانِ )، فَهَذا وجْهُ هَذِهِ القِراءَةِ، ثُمَّ أُدْغِمَتِ التاءُ في الدالِ. و"النِعْمَةُ" هي الصَفْحُ والتَوْبُ، والِاجْتِباءُ الَّذِي سَبَقَ لَهُ عِنْدَهُ، و"العَراءُ": الأرْضُ الواسِعَةُ الَّتِي لَيْسَ فِيها شَيْءٌ يُوارى مِن بِناءٍ أو نَباتٍ أو غَيْرِهِ مِن جَبَلٍ ونَحْوِهِ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ فَرَفَعْتُ رِجْلًا لا أخافُ عِثارَها ∗∗∗ ونَبَذْتُ بِالأرْضِ العَراءَ ثِيابِي
وقَدْ نَبَذَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَلامُ بِالأرْضِ العَراءَ غَيْرَ مَذْمُومٍ. و"اجْتَباهُ" مَعْناهُ: اخْتارَهُ واصْطَفاهُ. (p-٣٨٣)ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى نَبِيَّهُ ﷺ بِحالِ نَظَرِ الكُفّارِ إلَيْهِ، وأنَّهم يَكادُونَ مِنَ الغَيْظِ والعَداوَةِ يَزْلِقُونَهُ فَيُذْهِبُونَ قَدَمَهُ مِن مَكانِها ويُسْقِطُونَهُ. وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ: "لَيَزْلِقُونَكَ" بِضَمِّ الياءِ، مِن "أزَلَقَ"، وقَرَأ نافِعٌ وحْدَهُ: "لَيَزْلِقُونَكَ" بِفَتْحِ الياءِ مِن "زَلِقَتِ الرِجْلُ"، يُقالُ: زَلِقَتِ الرِجْلُ -بِكَسْرِ اللامِ- وزَلَقَتْهُ بِفَتْحِها-، مِثْلُ: "حَزَنَ" و"حَزَنَتْهُ"، و"شَتَرَتِ العَيْنُ" و"شَتَرَتْها"، وفي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "لَيَزْهِقُونَكَ" بِالهاءِ، ورَوى النَخْعِيُّ أنَّ في قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "لَيَنْفِدُونَكَ"، وفي هَذا المَعْنى الَّذِي في نَظَرِهِمْ مِنَ الغَيْظِ والعَداوَةِ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ يَتَقارَضُونَ إذا التَقَوْا في مَجْلِسٍ ∗∗∗ نَظَرًا يُزِيلُ مَواطِئَ الأقْدامِ
وذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ وذَكَرَهُ الفَرّاءُ - إلى أنَّ المَعْنى: يَأْخُذُونَكَ بِالعَيْنِ، وذَكَرَ أنَّ اللَقْعَ بِالعَيْنِ كانَ في بَنِي إسْرائِيلَ، قالَ ابْنُ الكَلْبِيِّ: كانَ رَجُلٌ يَتَجَوَّعُ ثَلاثَةَ أيّامٍ ثُمَّ لا يَتَكَلَّمُ عَلى شَيْءٍ إلّا أصابَهُ بِالعَيْنِ، فَسَألَهُ الكُفّارُ أنْ يُصِيبَ النَبِيَّ ﷺ فَأجابَهم إلى ذَلِكَ لَكِنْ عَصَمَ اللهُ تَعالى نَبِيَّهُ ﷺ، وقالَ الزَجّاجُ: كانَتِ العَرَبُ إذا أرادَ أحَدُهم أنْ يَعْتانَ أحَدًا تَجَوَّعَ ثَلاثَةَ أيّامٍ، وقالَ الحَسَنُ: دَواءُ مَن أصابَتْهُ العَيْنُ أنْ يَقْرَأ هَذِهِ الآيَةَ، و"الذِكْرُ" في الآيَةِ القُرْآنُ، ثُمَّ قَرَّرَ تَعالى أنَّ هَذا القُرْآنَ العَزِيزَ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ، ووَعْظٌ لَهُمْ، وحَجَّةٌ عَلَيْهِمْ، فالحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أنْعَمَ عَلَيْنا بِهِ، وجَعَلَنا أهْلَهُ وحَمَلَتَهُ، لا رَبَّ غَيْرُهُ.
تَمَّ تَفْسِيرُ سُورَةِ [القَلَمِ] والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ
{"ayahs_start":46,"ayahs":["أَمۡ تَسۡـَٔلُهُمۡ أَجۡرࣰا فَهُم مِّن مَّغۡرَمࣲ مُّثۡقَلُونَ","أَمۡ عِندَهُمُ ٱلۡغَیۡبُ فَهُمۡ یَكۡتُبُونَ","فَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ ٱلۡحُوتِ إِذۡ نَادَىٰ وَهُوَ مَكۡظُومࣱ","لَّوۡلَاۤ أَن تَدَ ٰرَكَهُۥ نِعۡمَةࣱ مِّن رَّبِّهِۦ لَنُبِذَ بِٱلۡعَرَاۤءِ وَهُوَ مَذۡمُومࣱ","فَٱجۡتَبَـٰهُ رَبُّهُۥ فَجَعَلَهُۥ مِنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ","وَإِن یَكَادُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَیُزۡلِقُونَكَ بِأَبۡصَـٰرِهِمۡ لَمَّا سَمِعُوا۟ ٱلذِّكۡرَ وَیَقُولُونَ إِنَّهُۥ لَمَجۡنُونࣱ","وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكۡرࣱ لِّلۡعَـٰلَمِینَ"],"ayah":"فَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ ٱلۡحُوتِ إِذۡ نَادَىٰ وَهُوَ مَكۡظُومࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق