الباحث القرآني
(p-٣٥٠)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ
تَفْسِيرُ سُورَةِ المُلْكِ
وهِيَ مَكِّيَّةٌ بِإجْماعٍ، «وَكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَقْرَؤُها كُلَّ لَيْلَةٍ عِنْدَ أخْذِ مَضْجَعِهِ،» رَواهُ جَماعَةٌ مَرْفُوعًا إلى جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عنهُ، ورُوِيَ عنهُ أنَّهُ قالَ: « "إنَّها لِتُنْجِي مِن عَذابِ القَبْرِ، وتُجادِلُ عن حافِظِها حَتّى لا يُعَذَّبَ"،» ويُرْوى أنَّ في التَوْراةِ سُورَةَ المُلْكِ، مَن قَرَأها في لَيْلَةٍ فَقَدْ أجادَ وأطْيَبَ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أنَّ النَبِيَّ ﷺ قالَ: « "وَدِدْتُ أنَّ سُورَةَ ﴿ [تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ]﴾ في قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ".»
قوله عزّ وجلّ:
﴿تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ﴿الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والحَياةَ لِيَبْلُوَكم أيُّكم أحْسَنُ عَمَلا وهو العَزِيزُ الغَفُورُ﴾ ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا ما تَرى في خَلَقَ الرَحْمَنِ مِن تَفاوُتٍ فارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرى مِن فُطُورٍ﴾ ﴿ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرَ خاسِئًا وهو حَسِيرٌ﴾
"تَبارَكَ" تَفاعَلَ، مِنَ البَرَكَةِ، وهي التَزَيُّدُ في الخَيْراتِ، ولَمْ يُسْتَعْمَلْ "يَتَبارَكَ" (p-٣٥١)وَلا "مُتَبارِكَ". وقَوْلُهُ تَعالى: "بِيَدِهِ المَلِكُ" عِبارَةٌ عن تَحْقِيقِ المُلْكِ، وذَلِكَ أنَّ اليَدَ في عُرْفِ الآدَمِيِّينَ هي آلَةُ التَمَلُّكِ، فَهي مُسْتَعارَةٌ لِذَلِكَ، و"المُلْكُ" عَلى الإطْلاقِ هو الَّذِي لا يَبِيدُ ولا يَخْتَلُّ مِنهُ شَيْءٌ، وذَلِكَ هو مُلْكُ اللهِ تَعالى، والمُرادُ في هَذِهِ الآيَةِ: مَلِكُ المُلُوكِ، فَهو بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلِ اللهُمَّ مالِكَ المُلْكِ﴾ [آل عمران: ٢٦] ذَكَرَهُ الثَعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التحريم: ٨] عُمُومٌ، فالشَيْءُ مَعْناهُ في اللُغَةِ: المَوْجُودُ.
و"المَوْتَ والحَياةَ" مَعْنَيانِ يَتَعاقَبانِ جِسْمَ الحَيَوانِ، يَرْتَفِعُ أحَدُهُما بِحُلُولِ الآخَرِ، وما جاءَ في الحَدِيثِ مِن قَوْلِهِ ﷺ: « "يُؤْتى بِالمَوْتِ يَوْمَ القِيامَةِ في صُورَةِ كَبْشٍ أمْلَحَ فَيُذْبَحُ عَلى الصِراطِ"،» فَقالَ أهْلُ العِلْمِ: ذَلِكَ تِمْثالُ كَبْشٍ يُوَقِّعُ الله تَعالى عَلَيْهِ العِلْمَ الضَرُورِيَّ لِأهْلِ الدارَيْنِ إنَّهُ المَوْتُ الَّذِي خافُوهُ في الدُنْيا، ويَكُونُ ذَلِكَ التِمْثالُ حامِلًا لِلْمَوْتِ عَلى أنَّهُ يُحِلُّ المَوْتَ فِيهِ، فَتَذْهَبُ عنهُ حَياتُهُ، ثُمَّ يَقْرِنُ اللهُ تَعالى بِذَبْحِ ذَلِكَ التِمْثالِ إعْدامُ المَوْتِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿خَلَقَ المَوْتَ والحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ﴾، أيْ: لِيَخْتَبِرَكم في حالِ الحَياةِ ويُجازِيَكم بَعْدَ المَوْتِ، وقالَ أبُو قَتادَةَ -وَنَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -: «قُلْتُ يا رَسُولَ اللهِ، ما مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِيَبْلُوَكم أيُّكم أحْسَنُ عَمَلا﴾ ؟ فَقالَ: "يَقُولُ تَعالى: أيُّكم أحْسَنُ عَقْلًا، وأشَدُّ لِلَّهِ تَعالى خَوْفًا، وأحْسَنُكم في أمْرِهِ ونَهْيِهِ نَظَرًا وإنْ كانُوا أقَلَّكم تَطَوُّعًا،» وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وسُفْيانُ الثَوْرِيُّ، والحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: أيُّكم أحْسَنُ عَمَلًا: أزْهَدُكم في الدُنْيا. وقَوْلُهُ تَعالى: "لِيَبْلُوَكُمْ" دالٌّ عَلى فِعْلٍ، تَقْدِيرُهُ: فَيَنْظُرُ أو يَعْلَمُ أيُّكُمْ، وقالَ جَماعَةٌ مِنَ المُتَأوِّلِينَ: المَوْتُ والحَياةُ عِبارَةٌ عَنِ الدُنْيا والآخِرَةِ، سَمّى هَذِهِ مَوْتًا مِن حَيْثُ إنَّ فِيها المَوْتَ، وسَمّى تِلْكَ حَياةَ مِن حَيْثُ (p-٣٥٢)لا مَوْتَ فِيها، فَوَصَفَهُما بِالمَصْدَرَيْنِ عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضافٍ كَعَدْلٍ وزُورٍ، وقَدَّمَ المَوْتَ في اللَفْظِ لِأنَّهُ مُتَقَدِّمٌ في النَفْسِ هَيْبَةً وغِلْظَةً.
و"طِباقًا" قالَ الزَجّاجُ: هو مَصْدَرٌ، وقِيلَ: هو جَمْعُ طَبَقَةٍ أو جَمْعُ طَبَقٍ مِثْلُ رَحْبَةٍ ورِحابٍ أو جَبَلٍ وجِبالٍ، والمَعْنى: بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، وقالَ أبانُ بْنُ تَغْلِبَ: سَمِعْتُ أعْرابِيًّا يَذُمُّ رَجُلًا فَقالَ: شَرُّهُ طِباقٌ، وخَيْرُهُ غَيْرُ باقٍ، وما ذَكَرَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ في السَماواتِ أنَّ بَعْضَها مِن ذَهَبٍ وفِضَّةٍ وياقُوتٍ ونَحْوِ هَذا ضَعِيفٌ كُلُّهُ ولَمْ يَثْبُتْ بِذَلِكَ حَدِيثٌ، ولا يَعْلَمُ أحَدٌ مِنَ البَشَرِ حَقِيقَةً لِهَذا.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما تَرى في خَلْقِ الرَحْمَنِ مِن تَفاوُتٍ﴾ مَعْناهُ: مِن قِلَّةٍ تُناسِبُ، ومِن خُرُوجٍ عَنِ الِاتِّفاقِ، والأمْرُ المُتَفاوِتُ هو الَّذِي يُجاوِزُ الحُدُودَ الَّتِي لَهُ زِيادَةً أو نَقْصًا، وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ: "مِن تَفاوُتٍ"، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وعَلْقَمَةُ، والأُسُودُ، وابْنُ جُبَيْرٍ، وطَلْحَةُ، والأعْمَشُ: "مِن تَفَوُّتٍ" وهُما بِمَعْنًى واحِدٍ، وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: "فِي خَلْقِ الرَحْمَنِ" يَعْنِي بِهِ السَماواتِ فَقَطْ، وهي الَّتِي تَتَضَمَّنُ اللَفْظَ، وإيّاها أرادَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿هَلْ تَرى مِن فُطُورٍ﴾، وإيّاها أرادَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ﴾ الآيَةُ، قالُوا: وإلّا فَفي الأرْضِ فُطُورٌ، وقالَ آخَرُونَ: "فِي خَلْقِ الرَحْمَنِ" مَعْنِيٌّ بِهِ جَمِيعَ ما خَلَقَ اللهُ تَعالى مِنَ الأشْياءِ فَإنَّها لا تَفاوُتَ فِيها ولا فُطُورَ جارِيَةً عَلى غَيْرِ إتْقانٍ، ومَتى كانَتْ فُطُورٌ لا تُفْسِدُ الشَيْءَ المَخْلُوقَ مِن حَيْثُ هو ذَلِكَ الشَيْءُ بَلْ هي إتْقانٌ فِيهِ فَلَيْسَتْ تِلْكَ المُرادَةَ في الآيَةِ، وقالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: أمَرَ اللهُ تَعالى بِالنَظَرِ إلى السَماءِ وخَلْقَها ثُمَّ أمَرَ تَعالى بِالتَكْرِيرِ في النَظَرِ، وكَذَلِكَ جَمِيعُ المَخْلُوقاتِ مَتى نَظَرَها ناظِرٌ لِيَرى فِيها خَلَلًا أو نَقْصًا فَإنَّ بَصَرَهُ يَنْقَلِبُ خاسِئًا حَسِيرًا، "وَرَجْعُ البَصَرِ" تَرْدِيدُهُ في الشَيْءِ المُبْصَرِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "كَرَّتَيْنِ" مَعْناهُ: مَرَّتَيْنِ، ونَصْبُهُ عَلى المَصْدَرِ، و"الخاسِئُ": المُبْعَدُ بِذُلٍّ عن شَيْءٍ أرادَهُ وعُرِضَ عَلَيْهِ، ومِنهُ الكَلْبُ الخاسِئُ، ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ لِابْنِ صَيّادٍ: « "اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ"،» ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى في الكُفّارِ (p-٣٥٣)الحَرِيصِينَ عَلى الخُرُوجِ مِن جَهَنَّمَ: "اخْسَئُوا فِيها"، وكَذَلِكَ هُنا البَصَرُ يَحْرِصُ عَلى رَوِيَّةٍ فَطَوْرٍ أو تَفاوُتٍ فَلا يَجِدُ ذَلِكَ، فَيَنْقَلِبُ خاسِئًا، و"الحَسِيرُ": العَيِيُّ الكالُّ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ لَهُنَّ الوَجى أنْ كُنَّ عَوْنًا عَلى النَوى ولا زالَ مِنها ظالِعٌ وحَسِيرُ
{"ayahs_start":1,"ayahs":["تَبَـٰرَكَ ٱلَّذِی بِیَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ","ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَیَوٰةَ لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡغَفُورُ","ٱلَّذِی خَلَقَ سَبۡعَ سَمَـٰوَ ٰتࣲ طِبَاقࣰاۖ مَّا تَرَىٰ فِی خَلۡقِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ مِن تَفَـٰوُتࣲۖ فَٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ هَلۡ تَرَىٰ مِن فُطُورࣲ","ثُمَّ ٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ كَرَّتَیۡنِ یَنقَلِبۡ إِلَیۡكَ ٱلۡبَصَرُ خَاسِئࣰا وَهُوَ حَسِیرࣱ"],"ayah":"ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَیَوٰةَ لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡغَفُورُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق