الباحث القرآني

(p-٣٥٦)قوله عزّ وجلّ: ﴿وَقالُوا لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أو نَعْقِلُ ما كُنّا في أصْحابِ السَعِيرِ﴾ ﴿فاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحابِ السَعِيرِ﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهم بِالغَيْبِ لَهم مَغْفِرَةٌ وأجْرٌ كَبِيرٌ﴾ ﴿وَأسِرُّوا قَوْلَكم أوِ اجْهَرُوا بِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُدُورِ﴾ ﴿ألا يَعْلَمُ مَن خَلَقَ وهو اللَطِيفُ الخَبِيرُ﴾ ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فامْشُوا في مَناكِبِها وكُلُوا مِن رِزْقِهِ وإلَيْهِ النُشُورُ﴾ المَعْنى وقالَ الكُفّارُ لِلْخَزَنَةِ في مُحاوَرَتِهِمْ: لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أو نَعْقِلُ سَمْعًا أو عَقْلًا يَنْتَفِعُ بِهِ ويُغْنِي شَيْئًا لَآمَنّا ولَمْ نَسْتَوْجِبِ الخُلُودَ في السَعِيرِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى مُحَمَّدًا ﷺ أنَّهُمُ اعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ في وقْتٍ لا يَنْفَعُ فِيهِ الِاعْتِرافُ، وقَوْلُهُ تَعالى: "فَسُحْقًا" نُصِبَ عَلى جِهَةِ الدُعاءِ عَلَيْهِمْ، وجازَ ذَلِكَ فِيهِ وهو مِن قِبَلِ اللهِ تَعالى مِن حَيْثُ هَذا القَوْلُ مُسْتَقِرٌّ أزَلًا وُجُودُهُ لَمْ يَقَعْ ولا يَقَعْ إلّا في الآخِرَةِ، فَكَأنَّهُ لِذَلِكَ في حَيِّزِ المُتَوَقَّعِ الَّذِي يُدْعى فِيهِ، كَما تَقُولُ: سُحْقًا لِزَيْدٍ وبُعْدًا، وتُنْصَبٌ في هَذا كُلِّهِ بِإضْمارِ فِعْلٍ، وأمّا ما وقَعَ وثَبَتَ فالوَجْهُ فِيهِ الرَفْعُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿ "وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ"﴾ [المطففين: ١] و﴿ "سَلامٌ عَلَيْكُمْ"،﴾ [الرعد: ٢٤] وغَيْرُ هَذا مِنَ الأمْثِلَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "فَسَحْقًا" بِسُكُونِ الحاءِ، وقَرَأ الكِسائِيُّ: "فَسَحُقًا" بِضَمِّ الحاءِ وهُما لُغَتانِ. ثُمَّ وصَفَ تَعالى أهْلَ الإيمانِ وهُمُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، وقَوْلُهُ تَعالى:"بِالغَيْبِ" يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: بِالغَيْبِ الَّذِي أخْبَرُوا بِهِ مِنَ الحَشْرِ والصِراطِ والمِيزانِ والجَنَّةِ والنارِ، فَآمَنُوا بِذَلِكَ وخَشُوا رَبَّهم فِيهِ، ونَحا إلى هَذا قَتادَةُ، والمَعْنى الثانِي: أنَّهم يَخْشَوْنَ رَبَّهم إذا غابُوا عن أعْيُنِ الناسِ، أيْ: في خَلَواتِهِمْ، ومِنهُ تَقَوُّلُ العَرَبِ: "فُلانٌ سالِمُ الغَيْبِ"، أيْ: لا يَضُرُّ، فالمَعْنى: يَعْمَلُونَ بِحَسَبِ الخَشْيَةِ في صَلاتِهِمْ وعِباداتِهِمْ وانْفِرادِهِمْ، فالِاحْتِمالُ الأوَّلُ مَدْحٌ بِالإخْلاصِ والإيمانِ، والثانِي مَدْحٌ بِالأعْمالِ الصالِحَةِ في الخَلَواتِ، وذَلِكَ أحْرى أنْ يَفْعَلُوها عَلانِيَةً. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأسِرُّوا قَوْلَكم أوِ اجْهَرُوا بِهِ﴾ مُخاطَبَةٌ لِجَمِيعِ الخَلْقِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ (p-٣٥٧)رَضِيَ اللهُ عنهُما: سَبَبُها أنَّ المُشْرِكِينَ قالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: أسِرُّوا قَوْلَكم لا يَسْمَعُكم إلّا مُحَمَّدٌ، فالمَعْنى: أنَّ الأمْرَ سَواءٌ عِنْدَ اللهِ تَعالى لِأنَّهُ يَعْلَمُ ما هَجَسَ في الصَدْرِ دُونَ أنْ يَنْطِقَ بِهِ، فَكَيْفَ إذا نَطَقَ بِهِ سِرًّا أو جَهْرًا، و"ذاتُ الصُدُورِ": ما فِيها، وهَذا كَما يُقالُ: "الذِئْبُ مَغْبُوطٌ بِذِي بَطْنِهِ"، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألا يَعْلَمُ مَن خَلَقَ﴾ اخْتَلَفَ الناسُ في إعْرابِ "مَن" فَقالَ بَعْضُ النُحاةِ: إعْرابُها رَفْعٌ، كَأنَّهُ تَعالى قالَ: ألا يَعْلَمُ الخالِقُ خَلْقَهُ؟ فالمَفْعُولُ عَلى هَذا مَحْذُوفٌ، ومِنهم مَن قالَ: إعْرابُها نَصْبٌ، كَأنَّهُ تَعالى قالَ: ألا يَعْلَمُ اللهُ مَن خَلَقَ؟ وقالَ مَكِّيٌّ: وتَعَلَّقَ أهْلُ الزَيْغِ بِهَذا التَأْوِيلِ؛ لِأنَّهُ يُعْطِي أنَّ الَّذِينَ خَلَقَهُمُ اللهُ تَعالى هُمُ العِبادُ مِن حَيْثُ قالَ: "مَن"، فَتَخْرُجُ الأعْمالُ عن ذَلِكَ، لِأنَّ المُعْتَزِلَةَ تَقُولُ: العِبادُ يَخْلُقُونَ أعْمالَهُمْ، وتَعَلُّقُهم بِهَذا التَأْوِيلِ ضَعِيفٌ، والكَلامُ مَعَ المُعْتَزِلَةِ في مَسْألَةِ خَلْقِ الأعْمالِ مَأْخَذُهُ غَيْرُ هَذا؛ لِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ حُجَّةٌ فِيها لَهم ولا عَلَيْهِمْ. و"الذَلُولُ" فَعُولٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، أيْ: مَذْلُولَةٍ، فَهي كَرَكُوبٍ وحَلُوبٍ، يُقالُ: ذَلُولٌ بَيِّنُ الذِلِّ، بِكَسْرِ الذالِ، وذَلِيلٌ بَيِّنُ الذُلِّ، بِضَمِّ الذالِ. واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في مَعْنى "المَناكِبِ"، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: مَناكِبُها: أطْرافُها، وهي الجِبالُ، وقالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: جَوانِبُها، وهي النَواحِي، وقالَ مُجاهِدٌ: هي الطُرَفُ والفِجاجُ، وهَذا قَوْلٌ جارٍ مَعَ اللُغَةِ؛ لِأنَّها تَنْكَبُّ يَمْنَةً ويَسْرَةً، ويَنْكَبُّ الماشِي فِيها، في مَناكِبَ. وهَذِهِ الآيَةُ تَعْدِيدُ نِعَمٍ في تَقْرِيبِ التَصَرُّفِ لِلنّاسِ، وفي التَمَتُّعِ في رِزْقِ اللهِ تَعالى، و"النُشُورُ": الحَياةُ بَعْدَ المَوْتِ. (p-٣٥٨)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب