الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أنْفُسَكم وأهْلِيكم نارًا وقُودُها الناسُ والحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا (p-٣٤٥)يَعْصُونَ اللهَ ما أمَرَهم ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا اليَوْمَ إنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسى رَبُّكم أنْ يُكَفِّرَ عنكم سَيِّئاتِكم ويُدْخِلَكم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهِ النَبِيَّ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهم يَسْعى بَيْنَ أيْدِيهِمْ وبِأيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أتْمِمْ لَنا نُورَنا واغْفِرْ لَنا إنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُوا أنْفُسَكم وأهْلِيكُمْ﴾ مَعْناهُ: اجْعَلُوا وِقايَةَ بَيْنِكم وبَيْنَ النارِ، وقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةِ تَعْلِيلُ اللَفْظَةِ، وقَوْلُهُ تَعالى: "وَأهْلِيكُمْ" مَعْناهُ: بِالوَصِيَّةِ لَهم والتَقْدِيمِ والحَمْلِ عَلى طاعَةِ اللهِ تَعالى، وفي حَدِيثِ: « "لا تَزْنِي فَيَزْنِي أهْلُكَ"»، وفي حَدِيثٍ آخَرَ « "رَحِمَ اللهُ رَجُلًا قالَ: يا أهْلاهُ، صَلاتَكُمْ، صِيامَكُمْ، مِسْكِينَكُمْ، يَتِيمَكُمْ"،» وقَرَأ الجُمْهُورُ: "وَقُودُها" بِفَتْحِ الواوِ، وقَرَأ مُجاهِدٌ، والحَسَنُ، وطَلْحَةُ، وعِيسى، والفَيّاضُ بْنُ غَزَوانَ، وأبُو حَيْوَةَ بِضَمِّها، وقِيلَ: هُما بِمَعْنى، وقِيلَ: الضَمُّ مَصْدَرٌ والفَتْحُ اسْمٌ، ويُرْوى أنَّ الحِجارَةَ هي حِجارَةُ الكِبْرِيتِ وقَدْ تَقَدَّمَ في البَقَرَةِ، ويُرْوى أنَّها جَمِيعُ أنْواعِ الحِجارَةِ، وفي بَعْضِ الحَدِيثِ «أنَّ عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَلامُ سَمِعَ أنِينًا بِفَلاةٍ مِنَ الأرْضِ، فَتَبِعَهُ حَتّى بَلَغَ إلى حَجَرٍ يَئِنُّ ويَحْزَنُ، فَقالَ لَهُ: ما لَكَ أيُّها الحَجَرُ؟ قالَ: يا رُوحَ اللهِ إنِّي سَمِعْتُ اللهَ يَقُولُ: ﴿وَقُودُها الناسُ والحِجارَةُ﴾ فَخِفْتُ أنْ أكُونَ مِن تِلْكَ الحِجارَةِ، فَعَجِبَ مِنهُ عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ وانْصَرَفَ،» ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ هَذا المَعْنى في التَوْراةِ أو في الإنْجِيلِ، فَذَلِكَ الَّذِي سَمِعَ الحَجَرَ إذا عُبِّرَ عنهُ بِالعَرَبِيَّةِ كانَ هَذا اللَفْظُ. ووَصْفُ المَلائِكَةِ بِالغِلْظَةِ مَعْناهُ في القُلُوبِ والبَطْشِ الشَدِيدِ والفَظاظَةِ، كَما قالَ تَعالى لِنَبِيِّهِ ﷺ: "وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِن حَوْلِكَ"، و"الشِدَّةُ": القُوَّةُ، وقِيلَ: المُرادُ شِدَّتُهم عَلى الكَفّارِ فَهي بِمَعْنى الغِلْظَةِ. ثُمَّ وصَفَهم تَعالى بِالطَواعِيَةِ لِرَبِّهِمْ، وكَرَّرَ المَعْنى تَأْكِيدًا بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ وفي قَوْلِهِ تَعالى: (p-٣٤٦)﴿وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ ما يَقْتَضِي أنَّهم يَدْخُلُونَ الكَفّارَ النارَ بِجِدٍّ واخْتِيارٍ ويُغْلِظُونَ عَلَيْهِمْ، فَكَأنَّهُ قالَ بَعْدَ تَقْرِيرِ هَذا المَعْنى: فَيُقالُ لِلْكُفّارِ: "لا تَعْتَذِرُوا اليَوْمَ"، أيْ: إنَّ المَعْذِرَةَ لا تَنْفَعُكُمْ، وإنَّما تُجْزَوْنَ بِأعْمالِكُمْ، فَلا تَلُومُوا إلّا أنْفُسَكم. ثُمَّ أمَرَ عِبادَهُ بِالتَوْبَةِ، والتَوْبَةُ فَرْضٌ عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ، و"تابَ" مَعْناهُ: رَجَعَ، فَتَوْبَةُ العَبْدِ: رُجُوعُهُ مِنَ المَعْصِيَةِ إلى الطاعَةِ، وتَوْبَةُ اللهِ تَعالى عَلى العَبْدِ إظْهارُ صَلاحِهِ ونِعْمَتِهِ عَلَيْهِ في الهِدايَةِ لِلطّاعَةِ، وقَبُولُ تَوْبَةِ الكَفّارِ يَقْطَعُ بِها عَلى اللهِ تَعالى إجْماعًا مِنَ الأُمَّةِ، واخْتَلَفَ الناسُ في تَوْبَةِ العاصِي، فَجُمْهُورُ أهْلِ السُنَّةِ عَلى أنَّهُ لا يَقْطَعُ بِقَبُولِها ولا ذَلِكَ عَلى اللهِ بِواجِبٍ، والدَلِيلُ عَلى ذَلِكَ دُعاءُ كُلِّ واحِدٍ مِنَ التائِبِينَ في قَبُولِ التَوْبَةِ، ولَوْ كانَ مَقْطُوعًا بِهِ لَما كانَ مَعْنًى لِلدُّعاءِ في قَبُولِها، وظَواهِرُ القُرْآنِ في ذَلِكَ هي كُلُّها بِمَعْنى المَشِيئَةِ، ورُوِيَ عن أبِي الحَسَنِ الأشْعَرِيِّ أنَّهُ قالَ: التَوْبَةُ إذا تَوافَرَتْ شُرُوطُها قَطَعَ عَلى اللهِ تَعالى بِقَبُولِهِ لِأنَّهُ أخْبَرَ بِذَلِكَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا تَمَسُّكٌ بِظَواهِرِ القُرْآنِ، وعَلى هَذا القَوْلِ أطْبَقَتِ المُعْتَزِلَةُ، والتَوْبَةُ: النَدَمُ عَلى فارِطِ مَعْصِيَةٍ، والعَزْمُ عَلى تَرْكِ مِثْلِها في المُسْتَقْبَلِ، وهَذا مِنَ المُتَمَكِّنِ، وأمّا غَيْرُ المُتَمَكِّنِ كالمَجْبُوبِ في الزِنا فالنَدَمُ وحْدَهُ يَكْفِيهِ، والتَوْبَةُ عِبادَةٌ كالصَلاةِ وغَيْرِها، فَإذا تابَ العَبْدُ وحَصَلَتْ تَوْبَتُهُ بِشُرُوطِها وقُبِلَتْ ثُمَّ عاوَدَ الذَنْبَ فَتَوْبَتُهُ الأُولى لا تُفْسِدُها عَوْدَةٌ، بَلْ هي كَسائِرِ ما يَحْصُلُ مِنَ العِباداتِ. و"النَصُوحُ" بِناءُ مُبالَغَةٍ مِنَ النُصْحِ، أيْ: تَوْبَةٌ نَصَحَتْ صاحِبَها وأرْشَدَتْهُ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "نَصُوحًا" بِفَتْحِ النُونِ، وقَرَأ أبُو بَكْرٍ عن عاصِمٍ، وخارِجَةَ عن نافِعٍ، والحَسَنِ، والأعْرَجِ، وعِيسى: "نَصُوحًا" بِضَمِّ النُونِ، وهو مَصْدَرٌ، يُقالُ: نَصَحَ يَنْصَحُ، نَصاحَةً ونُصُوحًا قالَهُ الزَجّاجُ، فَوَصَفَ التَوْبَةَ بِالمَصْدَرِ كالعَدْلِ والزُورِ ونَحْوِهِ، وقالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ: التَوْبَةُ النَصُوحُ هي أنْ يَتُوبَ ثُمَّ لا يَعُودُ ولا يُرِيدُ أنْ يَعُودَ، وقالَ أبُو بَكْرٍ الوَرّاقُ: هي أنْ تَضِيقَ عَلَيْكَ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ كَتَوْبَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا. وقَوْلُهُ تَعالى: "عَسى رَبُّكُمْ" الآيَةُ، تَرْجِيَةٌ، وقَدْ رُوِيَ أنَّ "عَسى" مِنَ اللهِ تَعالى واجِبَةٌ، والعامِلِ في "يَوْمَ" هو "يُدْخِلُكُمْ"، ورُوِيَ في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ (p-٣٤٧)النَبِيَّ﴾ أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ تَضْرَّعَ في أمْرِ أُمَّتِهِ فَأوحى اللهُ تَعالى إلَيْهِ: إنْ شِئْتَ جَعَلْتَ حِسابَهم إلَيْكَ، فَقالَ: يا رَبِّ أنْتَ أرْحَمُ بِهِمْ، فَقالَ اللهُ تَعالى: إذًا لا أُخْزِيكَ فِيهِمْ، فَهَذا مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَبِيَّ﴾، والخِزْيُ المَكْرُوهُ الَّذِي يَتْرُكُ الإنْسانَ حَيْرانَ خَجِلًا مَهْمُومًا بِأنْ يَرى نَقْصَهُ أو سُوءَ مَنزِلَتِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى "النَبِيِّ" فَيَخْرُجُ المُؤْمِنُونَ مِنَ الخِزْيِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ابْتِداءً، و"نُورُهم يَسْعى" جُمْلَةٌ هي خَبَرُهُ، ويَبْقى النَبِيُّ ﷺ مَخْصُوصًا مُفَضَّلًا بِأنَّهُ لا يَخْزى، وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في نَظِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿نُورُهم يَسْعى بَيْنَ أيْدِيهِمْ وبِأيْمانِهِمْ﴾، وقَرَأ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ: "بِإيمانِهِمْ"، بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، وقَوْلُهُمْ: "أتْمِمْ لَنا نُورَنا" قالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: هو عِنْدَما يَرَوْنَ مِنِ انْطِفاءِ نُورِ المُنافِقِينَ حَسَبَما تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وقِيلَ: يَقُولُ مَن أُعْطِيَ مِنَ النُورِ بِقَدْرِ ما يَرى مِن مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ فَقَطْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب