الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَإذا قِيلَ لَهم تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكم رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهم ورَأيْتَهم يَصُدُّونَ وهم مُسْتَكْبِرُونَ﴾ ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أسْتَغْفَرْتَ لَهم أمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهم لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهم إنَّ اللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾ ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَن عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتّى يَنْفَضُّوا ولِلَّهِ خَزائِنُ السَماواتِ والأرْضِ ولَكِنَّ المُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ﴾ ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ ولَكِنَّ المُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ كانَ أمْرُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ أنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ في غَزْوَةِ بَنِي المُصْطَلِقِ، فَبَلَغَ الناسُ إلى ماءٍ سَبَقَ إلَيْهِ المُهاجِرُونَ، وكَأنَّهم غَلَبُوا الأنْصارَ عَلَيْهِ بَعْضَ الغَلَبَةِ، فَقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ لِأصْحابِهِ: قَدْ كُنْتُ قُلْتُ لَكم في هَؤُلاءِ الجَلابِيبِ ما قُلْتُ فَلَمْ تَسْمَعُوا مِنِّي، وكانَ المُنافِقُونَ ومَن لا يَتَحَرّى، يُسَمُّونَ المُهاجِرِينَ رَضِيَ اللهُ عنهُمُ الجَلابِيبَ، ومِنهُ «قَوْلُ حَسّانَ بْنِ ثابِتٍ: ؎ أرى الجَلابِيبَ قَدْ عَزُّوا وقَدْ كَثُرُوا وابْنُ القُرَيْعَةِ أمْسى بَيْضَةَ البَلَدِ (p-٣١١)فَقالَ النَبِيُّ ﷺ: أتَحُضُّ عَلَيْنا يا حَسّانُ ؟» ثُمَّ «إنَّ الجَهْجاهَ الغِفارِيَّ، كانَ أجِيرًا لِعُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، ورَدَ الماءَ بِفَرَسٍ لِعُمَرَ، فازْدَحَمَ هو وسِنانُ بْنُ وبْرَةَ الجُهَنِيُّ -وَكانَ حَلِيفًا لِلْأوسِ-، فَكَسَعَ الجَهْجاهُ سِنانًا، فَغَضِبَ سِنانُ فَتَأثَّرُوا، ودَعا الجِهْجاهُ بِالمُهاجِرِينَ، ودَعا سِنانُ بِالأنْصارِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقالَ: "ما بالُ دَعْوى الجاهِلِيَّةِ"، فَلَمّا أخْبَرَ بِالقِصَّةِ قالَ: "دَعُوها فَإنَّها مُنْتِنَةٌ"، واجْتَمَعَ في الأمْرِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ في قَوْمٍ مِنَ المُنافِقِينَ، وكانَ فِيهِمْ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ فَتًى صَغِيرًا لَمْ يَتَحَفَّظْ مِنهُ-، فَقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ: أوَقَدْ تَداعَوْا عَلَيْنا؟ واللهِ ما مَثَلُنا ومَثَلُهم إلّا كَما قالَ الأوَّلُ: "سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلُكَ"، وقالَ لَهُمْ: لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجْنَ الأعَزُّ مِنها الأذَلُّ، وقالَ لَهُمْ: إنَّما يُقِيمُ هَؤُلاءِ المُهاجِرُونَ مَعَ مُحَمَّدٍ بِسَبَبِ مَعُونَتِكم لَهم وإنْفاقِكم عَلَيْهِمْ، ولَوْ قَطَعْتُمْ ذَلِكَ عنهم لَفَرُّوا، فَذَهَبَ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ إلى عَمِّهِ- وكانَ في حِجْرِهِ- وأخْبَرَهُ، فَأتى بِهِ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَأخْبَرَهُ، وقالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "يا زَيْدُ، غَضِبْتَ عَلى الرَجُلِ، أو لَعَلَّكَ وُهِمْتَ"؟، فَأقْسَمَ زَيْدٌ ما كانَ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ، ولَقَدْ سَمِعَ مِن عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ (p-٣١٢)ما حَكى، فَعاتَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ عِنْدَ رِجالٍ مِنَ الأنْصارِ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَجاءَ وحَلَفَ ما قالَ، وكَذَّبَ زَيْدًا، وحَلَفَ مَعَهُ قَوْمٌ مِنَ المُنافِقِينَ، فَكَذَّبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ زَيْدًا وصَدَّقَ أيْمانَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَبَقِيَ زَيْدٌ في مَنزِلِهِ لا يَتَصَرَّفُ حَياءً مِنَ الناسِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُورَةُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِيزَيْدٍ وقالَ: لَقَدْ صَدَّقَكَ اللهُ يا زَيْدُ ووَفَتْ أُذُنُكَ، فَخَزِيَ عِنْدَ ذَلِكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ، ومَقَتَهُ الناسُ، ولامَهُ المُؤْمِنُونَ مَن قَوْمِهِ، وقالَ بَعْضٌ مِنهُمْ: امْضِ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ واعْتَرِفْ بِذَنْبِكَ فَيَسْتَغْفِرُ لَكَ، فَلَوّى رَأْسَهُ إنْكارًا لِهَذا الرَأْيِ وقالَ لَهُمْ: لَقَدْ أشَرْتُمْ عَلَيَّ بِالإيمانِ فَآمَنتُ، وأشَرْتُمْ عَلَيَّ بِأنْ أُعْطِيَ زَكاةَ مالِي فَفَعَلْتُ، ولَمْ يَبْقَ لَكم إلّا أنْ تَأْمُرُونِي بِالسُجُودِ لِمُحَمَّدٍ.» قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَهَذا هو قَصَصُ هَذِهِ السُورَةِ مُوجَزًا. و"تَعالَ" نِداءٌ يَقْتَضِي لَفْظَهُ أنَّهُ دُعاءُ الأعْلى لِلْأسْفَلِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ في كُلِّ داعٍ لِما فِيهِ مِن حُسْنِ الأدَبِ. وقَرَأ نافِعٌ، والمُفَضَّلُ عن عاصِمٍ: "لَوَوْا" بِتَخْفِيفِ الواوِ، وهي قِراءَةُ الحَسَنِ -بِخِلافٍ-، ومُجاهِدٌ، وأهْلُ المَدِينَةِ، وقَرَأ الباقُونَ، وأبُو جَعْفَرٍ، والأعْمَشُ: "لوَّوْا" بِشَدِّ الواوِ عَلى تَضْعِيفِ المُبالَغَةِ، وهي قِراءَةُ طَلْحَةَ، وعِيسى، وأبِي رَجاءٍ، وزِرٍّ، والأعْرَجِ، وقَرَأ بَعْضُ القُرّاءِ هُنا: "يَصُدُّونَ" بِكَسْرِ الصادِ، والجُمْهُورُ بِضَمِّها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾ الآيَةُ. رُوِيَ «أنَّهُ لَمّا نَزَلَتْ: ﴿إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهم سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٨٠] قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "لَأزِيدَنَّ عَلى السَبْعِينَ"»، وفي حَدِيثٍ آخَرَ « "لَوْ عَلِمْتُ أنِّي إنْ زِدْتُ غُفِرَ لَهم لَزِدْتُ"»، فَكَأنَّهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ رَجا أنَّ هَذا (p-٣١٣)الحَدَّ لَيْسَ عَلى جِهَةِ الحَتْمِ جُمْلَةً، بَلْ عَلى أنَّ ما يُجاوِزُهُ يَخْرُجُ عن حُكْمِهِ، فَلَمّا فَعَلَ ابْنُ أُبَيٍّ وأصْحابُهُ ما فَعَلُوا شَدَّدَ الله تَعالى عَلَيْهِمْ في هَذِهِ السُورَةِ، وأعْلَمُ أنَّهُ لَنْ يَغْفِرَ لَهم دُونَ حَدٍّ في الِاسْتِغْفارِ، وفي قَوْلِ النَبِيِّ ﷺ: « "لَوْ أعْلَمُ أنِّي إنْ زِدْتُ غُفِرَ لَهُمْ"» نَصَّ عَلى رَفْضِ دَلِيلِ الخِطابِ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "أسْتَغْفَرْتُ" بِالقَطْعِ وألِفِ الِاسْتِفْهامِ، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ بْنُ القَعْقاعِ: "اسْتَغْفَرْتُ" بِمَدٍّ عَلى الهَمْزَةِ، وهي ألِفُ التَسْوِيَةِ، وقَرَأ أيْضًا بِوَصْلِ الألِفِ دُونَ هَمْزٍ عَلى الخَبَرِ، وفي هَذا كُلِّهِ ضَعْفٌ؛ لِأنَّهُ في الأُولى أثْبَتَ هَمْزَةَ الوَصْلِ وقَدْ أغْنَتْ عنها هَمْزَةُ الِاسْتِفْهامِ، وفي الثانِيَةِ حَذْفُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ وهو يُرِيدُها، وهَذا مِمّا لا يُسْتَعْمَلُ إلّا في الشِعْرِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ﴾ أشارَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ ومَن قالَ بِقَوْلِهِ، قالَهُ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمانَ، ثُمَّ سَفَّهَ تَعالى أحْلامَهم في أنْ ظَنُّوا إنْفاقَهم هو سَبَبُ رِزْقِ المُهاجِرِينَ، ونَسُوا أنَّ حِرْمانَ الرِزْقِ بِيَدِ اللهِ تَعالى، إذا انْسَدَّ بابٌ انْفَتَحَ غَيْرُهُ. وقَرَأ الفَضْلُ بْنُ عِيسى الرُقاشِيُّ: "حَتّى يُنْفَضُوا" بِضَمِّ الياءِ وتَخْفِيف الضادِ، يُقالُ: "أنْفَضَ" الرَجُلُ إذا فَنِيَ طَعامُهُ فَنَفَضَ وِعاءَهُ. و"الخَزائِنُ" مَوْضِعُ الإعْدادِ، ونَجِدُ القُرْآنَ قَدْ نَطَقَ في غَيْرِ مَوْضِعٍ بِالخَزائِنِ، ونَجِدُ في الحَدِيثِ: « "خَزَنَةُ الرِبْحِ"،» وفي القُرْآنِ ﴿مِن جِبالٍ فِيها (p-٣١٤)مِن بَرَدٍ﴾ [النور: ٤٣]، فَجائِزٌ أنَّ تَكُونَ هَذِهِ عِبارَةٌ عَنِ القُدْرَةِ، وأنَّ هَذِهِ الأشْياءَ إيجادُها عِنْدَ ظُهُورِها، وجائِزٌ -وَهُوَ الأظْهَرُ- أنَّ مِنها أشْياءَ مَخْلُوقَةً مَوْجُودَةً يَصْرِفُها اللهُ تَعالى حَيْثُ شاءَ، وظَواهِرُ ألْفاظِ الشَرِيعَةِ تُعْطِي هَذا، ومَعْناهُ في التَفْسِيرِ قالَ: عَتَتْ عَلى الخُزّانِ، وفي الحَدِيثِ: « "ما انْفَتَحَ مِن خَزائِنِ الرِبْحِ عَلى قَوْمِ عادٍ إلّا قَدْرَ حَلْقَةِ الخاتَمِ، ولَوِ انْفَتَحَ مِن خَزائِنِ الرِيحِ عَلى قَوْمِ عادٍ إلّا قَدْرَ حَلْقَةِ الخاتَمِ، ولَوِ انْفَتَحَ مِن خَزائِنِ الرِيحِ عَلى قَدْرِ مِنخَرِ الثَوْرِ لَهَلَكَتِ الدُنْيا"»، وقالَ رَجُلٌ لِحاتِمٍ الأصَمِّ: مِن أيْنَ تَأْكُلُ؟ فَقَرَأ: "وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَماواتِ والأرْضِ"، وقالَ الجُنَيْدُ: "خَزائِنُ السَماءِ الغُيُوبُ، وخَزائِنُ الأرْضِ القُلُوبُ". وقَرَأ الجُمْهُورُ: "لِيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ"" بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ الراءِ بِمَعْنى أنَّ العَزِيزَ يُخْرِجُ الذَلِيلَ ويُبْعِدُهُ، وقالَ أبُو حاتِمٍ: "لِنُخْرِجَنَّ" بِنُونِ الجَماعَةِ مَفْتُوحَةً وضَمِّ الراءِ "الأعَزَّ" نَصْبًا "مِنها الأذَلُّ" أيْضًا نَصْبًا عَلى الحالِ، وذَكَرَها أبُو عُمَرَ الدانِيُّ عَنِ الحَسَنِ، ورُوِيَتْ هَذِهِ القِراءَةُ: "لِنُخْرِجَنَّ" بِضَمِّ النُونِ وكَسْرِ الراءِ، وقَرَأ قَوْمٌ فِيما حَكى الفَرّاءُ والكِسائِيُّ، وذَكَرَها المَهْدَوِيُّ-: "لِيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلُّ" بِفَتْحِ الياءِ وضَمِّ الراءِ. (p-٣١٥)وَنُصِبَ "الأذَلَّ" عَلى الحالِ، بِمَعْنى أنَّ نَحْنُ الَّذِينَ كُنّا أعِزَّةً سَنَخْرُجُ أذِلّاءَ، وجاءَتْ هَذِهِ الحالُ مَعْرِفَةً، وفِيها شُذُوذٌ، وحَكى سِيبَوَيْهِ: "ادْخُلُوا الأوَّلَ فالأوَّلَ". ثُمَّ أعْلَمَ تَعالى أنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ سُبْحانَهُ، ولِلرَّسُولِ ﷺ، ولِلْمُؤْمِنِينَ، وفي ذَلِكَ وعِيدٌ، ورُوِيَ «أنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ، -وَكانَ رَجُلًا صالِحًا- لَمّا سَمِعَ الآيَةَ جاءَ إلى أبِيهِ وقالَ لَهُ: أنْتَ واللهِ يا أبَتِ الذَلِيلُ ورَسُولُ اللهِ ﷺ العَزِيزُ، فَلَمّا وصَلَ الناسُ إلى المَدِينَةِ وقَفَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ عَلى بابِ السِكَّةِ الَّتِي يَسْلُكُها أبُوهُ، وجَرَّدَ السَيْفَ ومَنَعَهُ الوُصُولَ، وقالَ: واللهِ لا دَخَلْتَ إلى مَنزِلِكَ إلّا أنْ يَأْذَنَ في ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وعَبْدُ اللهِ ابْنُ أُبَيٍّ في أذَلِّ حالٍ، وبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَبَعَثَ إلَيْهِ أنَّ خَلِّهِ يَمْضِي إلى مَنزِلِهِ، فَقالَ: أمّا الآنَ فَنَعَمْ.»
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب