الباحث القرآني

(p-٢٩٩)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ الجُمْعَةَ وهِيَ مَدَنِيَّةٌ وذَكَرَ النَقّاشُ قَوْلًا إنَّها مَكِّيَّةٌ، وذَلِكَ خَطَأٌ مِمَّنْ قالَهُ؛ لِأنَّ أمْرَ اليَهُودِ لَمْ يَكُنْ إلّا بِالمَدِينَةِ، وكَذَلِكَ أمْرُ الجُمْعَةِ لَمْ يَكُنْ قَطُّ بِمَكَّةَ، أعْنِي إقامَتَها وصِلاتَها، وأمّا أمْرُ الِانْفِضاضِ فَلا مِرْيَةَ في كَوْنِهِ بِالمَدِينَةِ، وذَكَرَ النَقّاشُ عن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ إنَّما أسْلَمَ أيّامَ خَيْبَرَ. قوله عزّ وجلّ: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما في السَماواتِ وما في الأرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ﴾ ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنهم يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ وإنْ كانُوا مِن قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ﴿وَآخَرِينَ مِنهم لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ تَقَدَّمَ القَوْلُ في مِثْلِ ألْفاظِ الآيَةِ الأُولى بَأجْمَعِهِا، واخْتَلَفَتِ القِراءَةُ في إعْرابِ الصِفاتِ في آخِرِها، فَقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "المَلِكِ" بِالخَفْضِ نَعْتًا لِلَّهِ، وكَذَلِكَ (p-٣٠٠)ما بَعْدَهُ، وقَرَأ أبُو وائِلٍ شَقِيقُ، ومُسْلِمَةُ وأبُو الدِينارِ: "المَلِكُ" بِالرَفْعِ عَلى القَطْعِ، وكَذَلِكَ ما بَعْدَهُ، وفَتَحَ أبُو الدِينارِ القافَ مِنَ القُدُّوسِ". و"الأُمِّيِّونُ" يُرادُ بِهِمُ العَرَبُ، والأُمِّيُّ في اللُغَةِ: الَّذِي لا يَكْتُبُ ولا يَقْرَأُ، مَنسُوبٌ إلى "أُمِّ القُرى" وهى مَكَّة، وهَذا ضَعِيفلإٌ؛ لِأنَّ الوَصْفَ بِالأُمِّيِّينَ -عَلى هَذا- يَقِفُ عَلى قُرَيْشٍ. وإنَّما المُرادُ جَمِيعُ العَرَبِ، وفِيهِمْ قالَ النَبِيُّ ﷺ: « "إنّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نَحْسِبُ ولا نَكْتُبُ، الشَهْرُ هَكَذا وهَكَذا"،» وهَذِهِ الآيَةُ تَعْدِيدُ نِعْمَةِ اللهِ تَعالى عَلَيْهِمْ فِيما أولاهُمْ، و"الآياتُ المَتْلُوَّةُ": القُرْآنُ و"يُزَكِّيهِمْ" مَعْناهُ: يُطَهِّرُهم مِنَ الشِرْكِ، ويُمَنِّي الخَيْرَ فِيهِمْ، و"الكِتابُ": الوَحْيُ المَتْلُوُّ، و"الحِكْمَةُ": السُنَّةُ الَّتِي هي عَلى لِسانِهِ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ. ثُمَّ أظْهَرَ تَعالى تَأْكِيدَ النِعْمَةِ بِذِكْرِ حالِهِمُ الَّتِي كانَتْ في الضِدِّ مِنَ الهِدايَةِ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإنْ كانُوا مِن قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾، و"آخَرِينَ" في مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا عَلى "الأُمِّيِّينَ"، وفي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفًا عَلى الضَمائِرِ المُتَقَدِّمَةِ، واخْتَلَفَ الناسُ في المَعْنَيَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعالى: "وَآخَرِينَ" فَقالَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ وغَيْرُهُ: أرادَ فارِسَ، وقَدْ «سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: مَنِ الآخَرُونَ؟ فَأخَذَ بِيَدِ سَلْمانَ الفارِسِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ وقالَ: "لَوْ كانَ الدِينُ في الثُرَيّا لَنالَهُ رِجالٌ مِن هَؤُلاءِ".» أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، ومُجاهِدٌ: أرادَ الرُومَ والعَجَمَ، فَقَوْلُهُ تَعالى: "مِنهُمْ" -عَلى هَذَيْنَ القَوْلَيْنِ- إنَّما يُرِيدُ بِهِ في البَشَرِيَّةِ والإيمانِ، كَأنَّهُ قالَ: وفي آخَرِينَ مِنَ الناسِ، وقالَ مُجاهِدٌ أيْضًا، وعِكْرِمَةُ، ومُقاتِلٌ: أرادَ التابِعِينَ مِن أبْناءِ العَرَبِ، فَقَوْلُهُ تَعالى: "مِنهُمْ" يُرِيدُ (p-٣٠١)بِهِ النَسَبَ والإيمانَ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ ومُجاهِدٌ والضَحّاكُ وابْنُ حِبّانَ: أرادَ بِقَوْلِهِ تَعالى: "وَآخَرِينَ" جَمِيعُ طَوائِفِ الناسِ ويَكُونُ "مِنهُمْ" في البَشَرِيَّةِ والإيمانِ عَلى ما قُلْناهُ، وذَلِكَ أنّا نَجِدُ بَعَثَهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ إلى جَمِيعِ الخَلائِقِ، وقالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما لِأهْلِ اليَمَنِ: أنْتُمْ هم. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَمّا يَلْحَقُوا﴾ نَفْيٌ لِما قَرُبَ مِنَ الحالِ، والمَعْنى أنَّهم مُزْمِعُونَ أنْ يُلْحِقُوا بِهِمْ، "لَمْ" زِيدَتْ عَلَيْها "ما" تَأْكِيدًا، قالَ سِيبَوَيْهِ: "لَمّا" نَفْيُ قَوْلِكَ: "قَدْ فَعَلَ"، و"لَمْ" نَفْيُ قَوْلِكَ: "فَعَلَ" دُونَ "قَدْ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ﴾ الآيَةُ... تَبْيِينٌ لِمَوْقِعِ النِعْمَةِ وتَخْصِيصُهُ إيّاهم بِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب