الباحث القرآني
(p-٢٩١)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ
تَفْسِيرُ سُورَةِ الصَفِّ
وهِيَ مَدَنِيَّةٌ في قَوْلِ الجُمْهُورِ، وقالَ مَكِّيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، والمَهْدَوِيُّ عن عَطاءٍ ومُجاهِدٌ: إنَّها مَكِّيَّةٌ، والأوَّلُ أصَحُّ لِأنَّ مَعانِيَ السُورَةِ تُعَضِّدُهُ، ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ فِيها المَكِّيُّ.
قوله عزّ وجلّ:
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ ما في السَماواتِ وما في الأرْضِ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾ ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾ ﴿إنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأنَّهم بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ﴾ ﴿وَإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وقَدْ تَعْلَمُونَ أنِّي رَسُولُ اللهِ إلَيْكم فَلَمّا زاغُوا أزاغَ اللهِ قُلُوبَهم واللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾
قَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ غَيْرَ مَرَّةٍ في تَسْبِيحِ الجَماداتِ، و"العَزِيزُ" في سُلْطانِهِ وقُدْرَتِهِ، و"الحَكِيمُ" في أفْعالِهِ وتَدْبِيرِهِ، واخْتَلَفَ الناسُ في السَبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو صالِحٍ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ أنَّ جَماعَةً قالُوا: لَوَدِدْنا أنْ نَعْرِفَ أحَبَّ الأعْمالِ إلى رَبِّنا حَتّى نَعْتَنِيَ بِهِ، فَفَرَضَ اللهُ الجِهادَ، وأعْلَمَهم بِفَضْلِهِ لَدَيْهِ، وأنَّهُ يُحِبُّ المُقاتِلِينَ في سَبِيلِهِ كالبُنْيانِ المَرْصُوصِ، وكانَ إذْ فَرَضَ قَدْ تَكَرَّهَهُ قَوْمٌ مِنهُمْ، وفَرَّ مَن فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ، فَعاتَبَهُمُ اللهُ تَعالى بِهَذِهِ الآيَةِ، وقالَ قَتادَةُ والضَحّاكُ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ أنَّ جَماعَةً مِن شَبابِ المُسْلِمِينَ كانُوا يَتَحَدَّثُونَ عن أنْفُسِهِمْ في الغَزْوِ بِما لَمْ يَفْعَلُوا، ويَقُولُونَ فَعَلْنا وصَنَعْنا، وذَلِكَ كَذِبٌ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ في ذَلِكَ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ في المُنافِقِينَ لِأنَّ جُمْلَةً مِنهم كانُوا يَقُولُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ: نَحْنُ مِنكم ومَعَكُمْ، ثُمَّ يَظْهَرُ مِن أفْعالِهِمْ خِلافُ ذَلِكَ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ عِتابًا لَهم.
وحُكْمُ هَذِهِ الآيَةِ باقٍ غابِرُ الدَهْرِ، وكُلُّ مَن يَقُولُ ما لا يَفْعَلُ فَهو مَمْقُوتٌ مَذِقُ (p-٢٩٢)الكَلامِ، والقَوْلُ الآخِيرُ في المُنافِقِينَ إنَّما يَتَوَجَّهُ بِأنْ يَكُونُوا غَيْرَ مُجَلِّحِينَ بِالنِفاقِ، فَلِذَلِكَ خُوطِبُوا بِالمُؤْمِنِينَ، أيْ: في زَعْمِكم وما تُظْهِرُونَ، والقَوْلُ الأوَّلُ يَتَرَجَّحُ بِما يَأْتِي بَعْدُ مِن أمْرِ الجِهادِ والقِتالِ.
و"المَقْتُ": البُغْضُ مِن أجْلِ ذَنْبٍ أو رِيبَةٍ أو دَناءَةٍ يَصْنَعُها المَمْقُوتُ، هَذا حَدُّ المَقْتِ، فَتَأمَّلْهُ، و"مَقْتًا" نُصِبَ عَلى التَمْيِيزِ، والتَقْدِيرُ كَبُرَ فِعْلُكم مَقْتًا، والمُرادُ: كَبُرَ مَقْتُ فِعْلِكُمْ، فَحَذَفَ المُضافَ إلَيْهِ ونَصَبَ المُضافَ عَلى التَمْيِيزِ، وهَذا كَما تَقُولُ: تَفَقَّأ شَحْمُ بَطْنِكَ، ثُمَّ تَقُولُ: تَفَقَّأ بَطْنُكَ شَحْمًا، و"أنْ تَقُولُوا" يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ المُقَدَّرِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خَبَرَ ابْتِداءٍ مُضْمَرٍ، ويُحْتَمَلُ عَلى غَيْرِ هَذا التَقْدِيرِ- أنْ يَكُونَ فاعِلًا بـ "كَبُرَ"، وقَوْلُ المَرْءِ ما لا يَفْعَلُ يُوجِبُ مَقْتَ اللهِ تَعالى، ولِذَلِكَ فَرَّ كَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ مِنَ الوَعْظِ والتَذْكِيرِ وآثَرُوا السُكُوتَ.
ثُمَّ وكَّدَ تَعالى الإخْبارَ بِمَحَبَّتِهِ لِلْمُقاتِلِينَ صَفًّا، ومَحَبَّةُ اللهِ تَعالى هي ما يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِن نَصْرِهِ وكَرامَتِهِ، وهي هُنا صِفَةُ فِعْلٍ ولَيْسَتْ بِمَعْنى الإرادَةِ لِأنَّ الإرادَةَ لا يَصِحُّ أنْ يَقَعَ ما يُخالِفُها، ونَحْنُ نَجِدُ المُقاتِلِينَ عَلى غَيْرِ هَذِهِ الصِفَةِ كَثِيرًا، وقالَ بَعْضُ الناسِ: قِتالُ الرَجّالَةِ أفْضَلُ مِن قِتالِ الفُرْسانِ لِأنَّ التَراصَّ فِيهِ يَتَمَكَّنُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا ضَعِيفٌ خَفِيٌّ عَلى قائِلِهِ مَقْصِدُ الآيَةِ، ولَيْسَ المُرادُ نَفْيَ التَصافِّ، وإنَّما المَقْصِدُ الجِدُّ في كُلِّ أوطانِ القِتالِ وأحْوالِهِ، وقَصَدَ بِالذِكْرِ أشَدَّ الأحْوالِ وهي الحالَةُ الَّتِي تُحْوِجُ إلى القِتالِ صَفًّا مُتَراصًّا، ونابَتْ هَذِهِ الحالُ المَذْكُورَةُ مَنابَ جَمِيعِ الأحْوالِ، وقَضَتِ الآيَةُ بِأنَّ الَّذِينَ يَبْلُغُ جَدُّهم إلى هَذِهِ الحالِ حَرِيُّونَ ألّا يُقَصِّرُوا عن حالٍ، و"المَرْصُوصُ" المَصْفُوفُ المُتَضامُّ، وقالَ أبُو بَحْرِيَّةَ "إذا رَأيْتُمُونِي ألْتَفِتُ في (p-٢٩٣)الصَفِّ فَجِزُّوا فُؤادِي"، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ وبِالشامِ بَيْن صَفائِحٍ صُمٍّ تَرَصَّصُ بِالجَنُوبِ
وقالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ، والفَرّاءُ، وغَيْرُهُما: المَرْصُوصُ المَعْقُودُ بِالرَصاصِ، وهَذا يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ أصْلَ اللَفْظَةِ.
ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ تَعالى مَقالَةَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ، وذَلِكَ ضَرْبُ مَثَلٍ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ، ذَكَّرَهُمُ اللهُ تَعالى بِقَوْمٍ آذَوْا نَبِيَّهم عَلى عِلْمٍ مِنهم بِنُبُوَّتِهِ، وزاغُوا فَأزاغَ اللهُ تَعالى قُلُوبَهُمْ، فاحْذَرُوا أيُّها المُؤْمِنُونَ أنْ يُصَيِّرَكُمُ العِصْيانُ وقَوْلُ الباطِلِ إلى مِثْلِ حالِهِمْ، وقالَ أبُو أُمامَةَ: هُمُ الخَوارِجُ، وقالَ سَعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: هُمُ الحَرُورِيَّةُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
المَعْنى أنَّهم أشْباهُهم في أنَّهم لَمّا زاغُوا أزاغَ اللهُ قُلُوبَهم.
وقَوْلُهُ تَعالى: "لِمَ تُؤْذُونَنِي" تَقْرِيرٌ، والمَعْنى: تُؤْذُونَنِي بِتَعَنُّتِكم وعِصْيانِكم واقْتِراحاتِكُمْ، وهَذِهِ كانَتْ أفْعالُ بَنِي إسْرائِيلَ.
وانْظُرْ إنَّهُ تَعالى أسْنَدَ الزَيْغَ إلَيْهِمْ لِكَوْنِهِ فَعَلَ حَطِيطَةً، كَما قالَ اللهُ تَعالى: ﴿نَسُوا اللهَ فَأنْساهم أنْفُسَهُمْ﴾ [الحشر: ١٩]، وهَذا بِخِلافِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ [التوبة: ١١٨] فَقَدْ أسْنَدَ التَوْبَةَ إلى نَفْسِهِ لِكَوْنِها فِعْلُ رِفْعَةٍ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى حِكايَةً عن إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ: ﴿وَإذا مَرِضْتُ فَهو يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: ٨٠]، و"زاغَ" مَعْناهُ: مالَ، وصارَ عُرْفُها في المَيْلِ عن (p-٢٩٤)الحَقِّ، و﴿أزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ﴾ مَعْناهُ: طَبَعَ عَلَيْها وخَتَمَ وكَثُرَ مَيْلُها عَنِ الحَقِّ، وهَذِهِ العُقُوبَةُ عَلى الذَنْبِ بِالذَنْبِ، وأمالَ ابْنُ أبِي إسْحاقَ: زاغُوا.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ","كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُوا۟ مَا لَا تَفۡعَلُونَ","إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلَّذِینَ یُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِهِۦ صَفࣰّا كَأَنَّهُم بُنۡیَـٰنࣱ مَّرۡصُوصࣱ","وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ یَـٰقَوۡمِ لِمَ تُؤۡذُونَنِی وَقَد تَّعۡلَمُونَ أَنِّی رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَیۡكُمۡۖ فَلَمَّا زَاغُوۤا۟ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡۚ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَـٰسِقِینَ"],"ayah":"سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق