الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا واغْفِرْ لَنا رَبَّنا إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿لَقَدْ كانَ لَكم فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كانَ يَرْجُو اللهَ واليَوْمَ الآخِرَ ومَن يَتَوَلَّ فَإنَّ اللهَ هو الغَنِيُّ الحَمِيدُ﴾ ﴿عَسى اللهُ أنْ يَجْعَلَ بَيْنَكم وبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنهم مَوَدَّةً واللهُ قَدِيرٌ واللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (p-٢٨١)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَبَّنا لا تَجْعَلْنا﴾ الآيَةُ... حِكايَةٌ عن إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ ومَن مَعَهُ، والمَعْنى: لا تَغْلِبُهم عَلَيْنا، فَنَكُونُ لَهم فِتْنَةً وسَبَبَ ضَلالَةٍ لِأنَّهم يَتَمَسَّكُونَ بِكُفْرِهِمْ ويَقُولُونَ: إنَّما غَلَبْناهم لِأنّا عَلى الحَقِّ وهم عَلى الباطِلِ، نَحا هَذا المَعْنى قَتادَةُ، وأبُو مَجْلَزٍ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: لا تُسَلِّطُهم عَلَيْنا فَيَفْتِنُونا عن أدْيانِنا فَكَأنَّهُ قالَ: لا تَجْعَلْنا مَفْتُونِينَ، فَعَبَّرَ عن ذَلِكَ بِالمَصْدَرِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا أرْجَحُ الأقْوالِ لِأنَّهم إنَّما دَعَوْا لِأنْفُسِهِمْ، وعَلى مَنحى قَتادَةَ إنَّما دَعَوْا لِلْكُفّارِ، أمّا أنَّ مَقْصِدَهم إنَّما هو أنْ يَنْدَفِعَ عنهم ظُهُورُ الكُفّارِ الَّذِي يُسَبِّبُهُ فِتَنُ الكُفّارِ، فَجاءَ في المَعْنى تَحْلِيقٌ بَلِيغٌ، ونَحْوُهُ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: « "بِئْسَ المَيِّتُ سَعْدٌ "» لِيَهُودٍ؛ لِأنَّهم يَقُولُونَ: لَوْ كانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا لَمْ يَمُتْ صاحِبُهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ كانَ لَكُمْ﴾ الآيَةُ... خَطابٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: "لِمَن" بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ "لَكُمْ"، وكَرَّرَ حَرْفَ الجَرِّ لِيَتَحَقَّقَ البَدَلُ، وذَلِكَ عُرْفُ هَذِهِ المُبْدَلاتِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِلْفُقَراءِ المُهاجِرِينَ﴾ [الحشر: ٨]، وهو في القُرْآنِ كَثِيرٌ، وأكْثَرُ ما يَلْزَمُ مِنَ الحُرُوفِ اللامُ، ثُمَّ أعْلَمَ تَعالى بِاسْتِغْنائِهِ عَنِ العِبادَةِ، وأنَّهُ الحَمِيدُ في ذاتِهِ وأفْعالِهِ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ كُفْرُ كافِرٍ ولا نِفاقُ مُنافِقٍ. ورُوِيَ أنَّ هَذِهِ الآياتِ لَمّا نَزَلَتْ وأزْمَعَ المُؤْمِنُونَ امْتِثالَ أمْرِها وصَرْمَ حِبالِ الكَفَرَةِ وإظْهارِ عَداوَتِهِمْ، لِحَقَهم تَأسُّفٌ عَلى قَراباتِهِمْ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا ولَمْ يَهْتَدُوا حَتّى يَكُونَ (p-٢٨٢)بَيْنَهُمُ الوِدُّ والتَواصُلُ فَنَزَلَتْ: "عَسى اللهُ" الآيَةُ مُؤْنِسَةٌ في ذَلِكَ، ومُرْجِيَةٌ أنْ يَقَعَ، مَوْقِعٌ ذَلِكَ بِإسْلامِهِمْ في الفَتْحِ، وصارَ الجَمِيعُ إخْوانًا، ومَن ذَكَرَ أنَّ هَذِهِ المَوَدَّةَ تَزْوِيجُ النَبِيِّ ﷺ أمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أبِي سُفْيانَ وأنَّها كانَتْ بَعْدَ الفَتْحِ فَقَدْ أخْطَأ؛ لِأنَّ النَبِيَّ ﷺ تَزَوَّجَها وقْتَ هِجْرَةِ الحَبَشَةِ، وهَذِهِ الآياتُ نَزَلَتْ سَنَةَ ثَمانٍ مِنَ الهِجْرَةِ، ولا يَصِحُّ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما إلّا أنْ يَسُوقَهُ مِثالًا وإنْ كانَ مُتَقَدِّمًا لِهَذِهِ الآيَةِ لِأنَّهُ اسْتَمَرَّ بَعْدَ الفَتْحِ كَسائِرِ ما نَشَأ مِنَ المَوَدّاتِ، و"عَسى" مِنَ اللهِ واجِبَةُ الوُقُوعِ إنْ شاءَ اللهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب