الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿يا أيُّها النَبِيُّ إذا جاءَكَ المُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا ولا يَسْرِقْنَ ولا يَزْنِينَ ولا يَقْتُلْنَ أولادَهُنَّ ولا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أيْدِيهِنَّ وأرْجُلِهِنَّ ولا يَعْصِينَكَ في مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ واسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَما يَئِسَ الكُفّارُ مِنَ أصْحابِ القُبُورِ﴾ هَذِهِ بَيْعَةُ النِساءِ في ثانِي يَوْمِ الفَتْحِ عَلى جَبَلِ الصَفا، وهي كانَتْ في المَعْنى بَيْعَةُ الرِجالِ قَبْلَ فَرْضِ القِتالِ، وسَمّاهم تَبارَكَ وتَعالى: "المُؤْمِناتُ" بِحَسَبِ الظاهِرِ مَن أمْرِهِنَّ، ورَفْضُ الِاشْتِراكِ هو مَحْضُ الإيمانِ، وقَتْلُ الأولادِ وهو مِن خَوْفِ الفَقْرِ وكانَتِ العَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ، وقَرَأ الحَسَنُ، وأبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ: "يُقَتِّلْنَ" بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ القافِ وكَسْرِ التاءِ المُشَدَّدَةِ. و"الإتْيانُ بِالبُهْتانِ" قالَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ: مَعْناهُ أنْ تَنْسِبَ إلى زَوْجِها ولَدًا لَيْسَ هو لَهُ واللَفْظُ أعَمُّ مِن هَذا التَخْصِيصِ، فَإنَّ الفِرْيَةَ بِالقَوْلِ عَلى أحَدٍ مِنَ الناسِ بِعَظِيمَةٍ لَمِن (p-٢٨٧)هَذا، وإنَّ الكَذِبَ فِيما اؤْتُمِنَ فِيهِ مِنَ الحَيْضِ والحَمْلِ لَفِرْيَةُ بُهْتانٍ، وبَعْضٌ أقْوى مِن بَعْضٍ، وذَلِكَ أنَّ بَعْضَ الناسِ قالَ: "بَيْنَ أيْدِيهِنَّ" يُرادُ بِهِ اللِسانُ في الكَلامِ والفَمُ في القِبْلَةِ ونَحْوِها، و"بَيْنَ الأرْجُلِ" يُرادُ بِهِ الفُرُوجُ، ووَلَدُ الإلْحاقِ ونَحْوِهِ. و"المَعْرُوفُ" الَّذِي نُهِيَ عَنِ العِصْيانِ فِيهِ، قالَ أنَسٌ، وابْنُ عَبّاسٍ، وزَيْدُ بْنُ أسْلَمَ رَضِيَ اللهُ عنهُمْ: هو النَوْحُ وشَقُّ الجُيُوبِ ووَشْمُ الوُجُوهِ ووَصْلُ الشَعْرِ وغَيْرُ ذَلِكَ مِن أوامِرِ الشَرِيعَةِ فَرَضَها ونَدَبَها. ويُرْوى «أنَّ جَماعَةً مِنَ النِساءِ فِيهِنَّ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، بايَعْنَ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقَرَأ عَلَيْهِنَّ الآيَةَ، فَلَمّا قَرَّرَهُنَّ عَلى أنْ لا يُشْرِكْنَ قالَتْ هِنْدُ: وكَيْفَ نَطْمَعُ أنْ تَقْبَلَ مِنّا ما لَمْ تَقْبَلْهُ مِنَ الرِجالِ، بِمَعْنى أنَّ هَذا بَيِّنٌ لُزُومُهُ، فَلَمّا وقَفَ عَلى السَرِقَةِ قالَتْ: واللهِ إنِّي لَأُصِيبُ الهِنَةَ مِن مالِ أبِي سُفْيانَ لا أدْرِي ما يَحِلُّ لِي مِن ذَلِكَ، فَقالَ أبُو سُفْيانَ -وَكانَ حاضِرًا- ذَلِكَ لَكِ حَلالٌ فِيما مَضى وبَقِيَ، وقالَ لَها رَسُولُ اللهِ ﷺ كُلِي ووَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ،» وقَدْ تَكَرَّرَ هَذا المَعْنى في الحَدِيثِ الآخَرِ، قَوْلُها: « "إنَّ أبا سُفْيانَ رَجُلٌ مَسِّيكٌ"» فَلَمّا وقَفَ عَلى الزِنا «قالَتْ: يا رَسُولَ اللهِ وهَلْ تَزْنِي الحُرَّةُ؟ قالَ لَها رَسُولُ اللهِ ﷺ: لا، ما تَزْنِي الحُرَّةُ،» وذَلِكَ أنَّ الزِنا في قُرَيْشٍ إنَّما كانَ في الإماءِ في أغْلَبِ الأمْرِ، وفِيما يَعْرِفُ مِثْلُ هِنْدٍ، وإلّا فالبَغايا قَدْ كُنَّ أحْرارًا، فَلَمّا وقَفَ عَلى قَتْلِ الأولادِ «قالَتْ: نَحْنُ رَبَّيْناهم صِغارًا، وقَتَلْتَهم أنْتَ بِبَدْرٍ كِبارًا، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ،» فَلَمّا وقَفَ عَلى العِصْيانِ في المَعْرُوفِ قالَتْ: ما جَلَسْنا هَذا المَجْلِسَ وفي أنْفُسِنا أنْ نَعْصِيَكَ. ويُرْوى «أنَّ جَماعَةَ نِساءٍ بايَعْنَ النَبِيَّ ﷺ فَقُلْنَ: يا رَسُولَ اللهِ نُبايِعُكَ عَلى كَذا وكَذا الآيَةُ. فَلَمّا فَرَغْنَ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: فِيما اسْتَطَعْتُنَّ وأطْلَقْتُنَّ، فَقُلْنَ: اللهُ ورَسُولُهُ أرْحَمُ بِنا مِنّا بِأنْفُسِنا.» وقَوْلُهُ تَعالى: "فَبايِعْهُنَّ" مَعْناهُ: امْضِ مَعَهُنَّ صَفْقَةَ الإيمانِ بِأنْ يُعْطِينَ ذَلِكَ مِن أنْفُسِهِنَّ ويُعْطَيْنَ عَلَيْهِ الجَنَّةَ، واخْتَلَفَتْ هَيْئاتُ مُبايِعَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ النِساءَ بَعْدَ الإجْماعِ عَلى أنَّهُ لَمْ تَمَسَّ يَدُهُ الشَرِيفَةَ يَدَ امْرَأةٍ أجْنَبِيَّةٍ،فَيُرْوى عن عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُا وغَيْرِها (p-٢٨٨)أنَّها قالَتْ: «إنَّهُ بايَعَ بِاللِسانِ قَوْلًا، وقالَ: "إنَّما قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأةٍ كَقَوْلِي لِامْرَأةٍ واحِدَةٍ"»، «وَقالَتْ أسْماءُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ السَكَنِ: كُنْتُ في النِسْوَةِ المُبايِعاتِ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، ابْسُطْ يَدَكَ نُبايِعُكَ، فَقالَ لِي ﷺ: "إنِّي لا أُصافِحُ النِساءَ لَكِنْ آخُذُ عَلَيْهِنَّ ما أخَذَ اللهُ عَلَيْهِنَّ"،» وذَكَرَ النَقّاشُ حَدِيثًا «أنَّ النَبِيَّ ﷺ مَدَّ يَدَهُ المُكَرَّمَةَ مِن خارِجِ بَيْتٍ، ومَدَّ نِساءٌ مِنَ الأنْصارِ أيْدِيهِنَّ مِن داخِلِهِ فَبايَعْنَ،» وما قَدَّمْتُهُ أثْبَتُ، ورُوِيَ عَنِ الشَعْبِيِّ «أنَّهُ ﷺ لَفَّ ثَوْبًا كَثِيفًا عَلى يَدِهِ، وجاءَ نِسْوَةٌ فَلَمَسْنَ يَدَهُ كَذَلِكَ،» ورُوِيَ عن (p-٢٨٩)الكَلْبِيِّ أنَّهُ قَدِمَ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ فَلَمَسَ النِساءُ يَدَهُ وهو خارِجٌ مِن بَيْتٍ وهُنَّ فِيهِ بِحَيْثُ لا يَراهُنَّ، وذَكَرَ النَقّاشُ وغَيْرُهُ «أنَّ النَبِيَّ ﷺ بايَعَهُ النِساءُ عَلى الصَفا بِمَكَّةَ وعُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ يُصافِحُهُنَّ،» ورُوِيَ مِن حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عن أبِيهِ عن جَدِّهِ، ورَفَعَهُ النَقّاشُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وعن عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَقَفِيِّ «أنَّهُ ﷺ غَمَسَ يَدَهُ في إناءٍ فِيهِ ماءٌ، ثُمَّ دَفَعَهُ إلى النِساءِ يَغْمِسْنَ أيْدِيَهُنَّ فِيهِ.» ثُمَّ أمَرَهُ تَبارَكَ وتَعالى بِالِاسْتِغْفارِ لَهُنَّ، ورَجّاهُنَّ في غُفْرانِهِ ورَحْمَتِهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ﴾، قالَ ابْنُ زَيْدٍ، والحَسَنُ، ومُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: هُمُ اليَهُودُ لِأنَّ غَضَبَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ قَدْ صارَ عُرْفًا لَهُمْ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: هم في هَذِهِ الآيَةِ كُفّارُ قُرَيْشٍ؛ لِأنَّ كُلَّ كافِرٍ فَعَلَيْهِ غَضَبُ اللهِ تَعالى لا يَرُدُّ ذَلِكَ ثُبُوتُ غَضَبِ اللهِ عَلى اليَهُودِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولا سِيَّما في المَرَدَةِ كَكُفّارِ قُرَيْشٍ إذْ أعْمالُهم مُغْضِبَةٌ لَيْسَتْ بِمُجَرَّدِ ضَلالٍ بَلْ فِيها مُناوَراتٌ مَقْصُودَةٌ، وفي الكَلامِ في التَشْبِيهِ الَّذِي في قَوْلِهِ تَعالى: "كَما يَئِسَ" يَتَبَيَّنُ الِاحْتِياجُ إلى هَذا الخِلافِ، وذَلِكَ أنَّ اليَأْسَ مِنَ الآخِرَةِ إمّا أنْ يَكُونَ بِالتَكْذِيبِ بِها، وهَذا هو يَأْسُ كَفّارِ مَكَّةَ، وإمّا أنْ يَكُونَ بِاليَأْسِ عَنِ الحَظِّ فِيها والنِعْمَةِ مَعَ التَصْدِيقِ بِها، وهَذا هو يَأْسُ اليَهُودِ، فَمَن قالَ إنَّ القَوْمَ المُشارَ إلَيْهِمْ هم كُفّارُ مَكَّةَ قالَ: مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَما يَئِسَ الكُفّارُ﴾: كَما يَئِسَ الكافِرُ مِن صاحِبِ قَبْرٍ؛ لِأنَّهُ إذا ماتَ لَهُ حَمِيمٌ (p-٢٩٠)قالَ: هَذا آخِرُ العَهْدِ بِهِ، لَنْ يُبْعَثَ أبَدًا، فَمَعْنى الآيَةِ أنَّ اعْتِقادَ أهْلِ مَكَّةَ في الآخِرَةِ كاعْتِقادِ الكافِرِ في البَعْثِ ولِقاءِ مَوْتاهُ، وهَذا هو تَأْوِيلُ ابْنِ عَبّاسٍ، والحَسِنِ، وقَتادَةَ في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَما يَئِسَ الكُفّارُ﴾. ومَن قالَ إنَّ القَوْمَ المُشارَ إلَيْهِمْ هُمُ اليَهُودُ قالَ مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَما يَئِسَ الكُفّارُ﴾: كَما يَئِسَ الكافِرُ مِنَ الرَحْمَةِ إذا ماتَ وكانَ صاحِبَ قَبْرٍ، وذَلِكَ أنَّهُ يُرْوى أنَّ الكافِرَ إذا كانَ في قَبْرِهِ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ أنْ لَوْ كانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ مِنَ النارِ الَّذِي يَصِيرُ إلَيْهِ، فَهو يائِسٌ مِن رَحْمَةِ اللهِ تَعالى مَعَ عِلْمِهِ بِها ويَقِينِهِ، وهَذا تَأْوِيلُ مُجاهِدٍ، وابْنِ جُبَيْرٍ، وابْنِ زَيْدٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَما يَئِسَ الكُفّارُ﴾، فَمَعْنى الآيَةِ يَأْسُ اليَهُودِ مِن رَحْمَةِ اللهِ تَعالى في الآخِرَةِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِها كَيَأْسِ ذَلِكَ الكافِرِ في قَبْرِهِ، وذَلِكَ لِأنَّهم قَدْ رِينَ عَلى قُلُوبِهِمْ، وحَمَلَهُمُ الحَسَدُ عَلى تَرْكِ الإيمانِ، وغَلَبَ عَلى ظُنُونِهِمْ أنَّهم مُعَذَّبُونَ، وهَذِهِ كانَتْ صِفَةُ كَثِيرٍ مِن مُعاصِرِي النَبِيِّ ﷺ. و"مِن" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن أصْحابِ القُبُورِ﴾ عَلى القَوْلِ الأوَّلِ لِابْتِداءِ الغايَةِ، وفي القَوْلِ الثانِي هي لِبَيانِ الجِنْسِ أوَلِلتَّبْعِيضِ، يَتَوَجَّهانِ فِيها، وبَيانِ الجِنْسِ أظْهَرُ. كَمُلَ تَفْسِيرُ سُورَةِ [المُمْتَحَنَةِ] والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب