الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها في ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنا الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ ﴿وَهُوَ الَّذِي أنْشَأكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ ومُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنا الآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ هَذِهِ المُخاطَبَةُ تَعُمُّ المُؤْمِنِينَ والكافِرِينَ؛ فالحُجَّةُ بِها عَلى الكافِرِينَ قائِمَةٌ؛ والعِبْرَةُ بِها لِلْمُؤْمِنِينَ مُمْكِنَةٌ مُتَعَرِّضَةٌ؛ و"جَعَلَ"؛ هُنا بِمَعْنى "خَلَقَ"؛ لِدُخُولِها عَلى مَفْعُولٍ واحِدٍ؛ وقَدْ يُمْكِنُ أنْ تَكُونَ بِمَعْنى "صَيَّرَ"؛ ويُقَدَّرُ المَفْعُولُ الثانِي في "لِتَهْتَدُوا"؛ لِأنَّهُ يُقَدَّرُ: "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُجُومَ هِدايَةً"؛ و"فِي ظُلُماتِ"؛ هي هَهُنا عَلى حَقِيقَتِها؛ في ظُلْمَةِ اللَيْلِ؛ بِقَرِينَةِ "اَلنُّجُومِ"؛ اَلَّتِي لا تَكُونُ إلّا بِاللَيْلِ؛ ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ الظُلُماتُ هُنا الشَدائِدَ؛ في المَواضِعِ الَّتِي يَتَّفِقُ أنْ يُهْتَدى فِيها بِالشَمْسِ. وذَكَرَ اللهُ تَعالى النُجُومَ في ثَلاثِ مَنافِعَ؛ وهي قَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنّا السَماءَ الدُنْيا بِمَصابِيحَ﴾ [الملك: ٥] ؛ وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وَجَعَلْناها رُجُومًا لِلشَّياطِينِ﴾ [الملك: ٥] ؛ وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وَهُوَ (p-٤٢٧)الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها في ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ﴾ ؛ فالواجِبُ أنْ يُعْتَقَدَ أنَّ ما عَدا هَذِهِ الوُجُوهِ مِن قَوْلِ أهْلِ التَأْثِيرِ باطِلٌ؛ واخْتِلاقٌ عَلى اللهِ تَعالى وكُفْرٌ بِهِ. و"فَصَّلْنا"؛ مَعْناهُ: "بَيَّنّا؛ وقَسَّمْنا"؛ و"اَلْآياتِ": اَلدَّلائِلَ؛ و﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ ؛ تَخْصِيصٌ لَهم بِالذِكْرِ؛ وتَنْبِيهٌ مِنهم لِتَحْصِيلِهِمُ الآياتِ المُفَصَّلَةِ المَنصُوبَةِ؛ وغَيْرُهم تَمُرُّ عَلَيْهِمُ الآياتُ وهم مُعْرِضُونَ عنها. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي أنْشَأكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ ومُسْتَوْدَعٌ﴾ ؛ اَلْآيَةَ: اَلْإنْشاءُ: فِعْلُ الشَيْءِ؛ و﴿مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ ؛ يُرِيدُ آدَمَ - عَلَيْهِ السَلامُ. وقَرَأ نافِعٌ ؛ وابْنُ عامِرٍ ؛ وعاصِمٌ ؛ وحَمْزَةُ ؛ والكِسائِيُّ: "فَمُسْتَقَرُّ"؛ بِفَتْحِ القافِ؛ عَلى أنَّهُ مَوْضِعُ اسْتِقْرارٍ؛ وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ؛ وأبُو عَمْرٍو: "فَمُسْتَقِرٌّ"؛ بِكَسْرِ القافِ؛ عَلى أنَّهُ اسْمُ فاعِلٍ؛ وأجْمَعُوا عَلى فَتْحِ الدالِ مِن "مُسْتَوْدَعٌ"؛ بِأنْ يُقَدَّرَ: "مَوْضِعُ اسْتِيداعٍ"؛ وأنْ يُقَدَّرَ أيْضًا مَفْعُولًا؛ ولا يَصِحُّ ذَلِكَ في "مُسْتَقَرٌّ"؛ لِأنَّ "اِسْتَقَرَّ"؛ لا يَتَعَدّى؛ فَيُبْنى مِنهُ مَفْعُولٌ؛ أما إنَّهُ رَوى هارُونُ الأعْوَرُ؛ عن أبِي عَمْرٍو: "وَمُسْتَوْدِعٌ"؛ بِكَسْرِ الدالِ؛ فَمَن قَرَأ: "فَمُسْتَقَرٌّ ومُسْتَوْدَعٌ" - عَلى أنَّها مَوْضِعُ اسْتِقْرارٍ؛ ومَوْضِعُ اسْتِيداعٍ - عَلَّقَها بِمَجْرُورٍ؛ تَقْدِيرُهُ: "فَلَكم مُسْتَقَرٌّ ومُسْتَوْدَعٌ"؛ ومَن قَرَأ: "فَمُسْتَقِرٌّ ومُسْتَوْدَعٌ" - عَلى اسْمِ الفاعِلِ في "مُسْتَقِرٌّ"؛ واسْمِ المَفْعُولِ في "مُسْتَوْدَعٌ" - عَلَّقَها بِمَجْرُورٍ؛ تَقْدِيرُهُ: "فَمِنكم مُسْتَقِرٌّ ومُسْتَوْدَعٌ"؛ واضْطَرَبَ المُتَأوِّلُونَ في مَعْنى هَذا الِاسْتِقْرارِ والِاسْتِيداعِ؛ فَقالَ الجُمْهُورُ: "مُسْتَقَرٌّ في الرَحِمِ؛ ومُسْتَوْدَعٌ في ظُهُورِ الآباءِ؛ حَتّى يَقْضِيَ اللهُ تَعالى بِخُرُوجِهِمْ"؛ وقالَ ابْنُ عَوْنٍ: "مَشَيْتُ إلى مَنزِلِ إبْراهِيمَ النَخَعِيِّ ؛ وهو مَرِيضٌ؛ فَقالُوا: قَدْ تُوُفِّيَ؛ فَأخْبَرَنِي بَعْضُهم أنَّ عَبْدَ الرَحْمَنِ بْنَ الأسْوَدِ سَألَهُ عن "مُسْتَقَرٌّ ومُسْتَوْدَعٌ"؛ فَقالَ: مُسْتَقَرٌّ في الرَحِمِ؛ ومُسْتَوْدَعٌ في الصُلْبِ"؛ وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "مُسْتَقَرٌّ في القُبُورِ؛ ومُسْتَوْدَعٌ في الدُنْيا"؛ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: "اَلْمُسْتَقَرُّ الأرْضُ؛ والمُسْتَوْدَعُ عِنْدَ الرَحِمِ"؛ وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: "اَلْمُسْتَوْدَعُ في الصُلْبِ؛ والمُسْتَقَرُّ في الآخِرَةِ"؛ والَّذِي يَقْتَضِيهِ النَظَرُ أنَّ ابْنَ آدَمَ هو مُسْتَوْدَعٌ في ظَهْرِ أبِيهِ؛ ولَيْسَ بِمُسْتَقِرٍّ فِيهِ اسْتِقْرارًا مُطْلَقًا؛ لِأنَّهُ يَنْتَقِلُ لا مَحالَةَ؛ يَنْتَقِلُ إلى الرَحِمِ؛ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلى الدُنْيا؛ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلى القَبْرِ؛ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلى المَحْشَرِ؛ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلى الجَنَّةِ؛ أوِ النارِ؛ فَيَسْتَقِرُّ في إحْداهُما؛ اسْتِقْرارًا مُطْلَقًا؛ ولَيْسَ فِيها مُسْتَوْدَعٌ؛ لِأنَّهُ لا نَقْلَةَ لَهُ بَعْدُ؛ وهو في كُلِّ رُتْبَةٍ مُتَوَسِّطَةٍ بَيْنَ هَذَيْنِ الظَرْفَيْنِ مُسْتَقِرٌّ؛ بِالإضافَةِ إلى الَّتِي قَبْلَها؛ ومُسْتَوْدَعٌ؛ بِالإضافَةِ إلى الَّتِي بَعْدَها؛ لِأنَّ لَفْظَ الوَدِيعَةِ يَقْتَضِي فِيها نَقْلَةً ولا بُدَّ. (p-٤٢٨)وَ"يَفْقَهُونَ" مَعْناهُ: يَفْهَمُونَ؛ وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذا آنِفًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب