الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَكَيْفَ أخافُ ما أشْرَكْتُمْ ولا تَخافُونَ أنَّكم أشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكم سُلْطانًا فَأيُّ الفَرِيقَيْنِ أحَقُّ بِالأمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وهم مُهْتَدُونَ﴾ ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ هَذِهِ الآيَةُ - إلى "تَعْلَمُونَ" - هي كُلُّها مِن قَوْلِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَلامُ - لِقَوْمِهِ؛ وهي حُجَّتُهُ القاطِعَةُ لَهُمْ؛ والمَعْنى: "وَكَيْفَ أخافُ الأصْنامَ الَّتِي لا خَطْبَ لَها؛ وهي حِجارَةٌ؛ وخَشَبٌ؛ إذا أنا نَبَذْتُها ولَمْ أُعَظِّمْها؛ ولا تَخافُونَ أنْتُمُ اللهَ - عَزَّ وجَلَّ -؛ وقَدْ أشْرَكْتُمْ بِهِ في الرُبُوبِيَّةِ أشْياءَ لَمْ يُنَزِّلْ بِها عَلَيْكم حُجَّةً؟"؛ و"اَلسُّلْطانُ": اَلْحُجَّةُ. ثُمَّ اسْتَفْهَمَ عَلى جِهَةِ التَقْرِيرِ: "فَأيُّ الفَرِيقَيْنِ أحَقُّ بِالأمْنِ؟"؛ أيْ: "مَن لَمْ يُشْرِكْ بِالقادِرِ العالِمِ تَعالى أحَقُّ أنْ يَأْمَنَ". وقَوْلُهُ تَعالى ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ؛ اَلْآيَةَ: "اَلَّذِينَ"؛ رُفِعَ بِالِابْتِداءِ؛ و"يَلْبِسُوا"؛ مَعْناهُ: يَخْلِطُوا؛ و"اَلظُّلْمُ" - في هَذِهِ الآيَةِ -: اَلشِّرْكُ؛ تَظاهَرَتْ بِذَلِكَ الأحادِيثُ عَنِ النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ وعن جَماعَةٍ مِنَ الصَحابَةِ أنَّهُ «لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ أشْفَقَ أصْحابُ رَسُولِ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ وقالُوا: أيُّنا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقالَ رَسُولُ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: "إنَّما ذَلِكَ كَما قالَ لُقْمانُ: ﴿إنَّ الشِرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] "؛» ورُوِيَ أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ - رَضِيَ اللهُ عنهُ - قَرَأ (p-٤٠٧)فِي المُصْحَفِ؛ فَلَمّا أتى عَلَيْها عَظُمَتْ عَلَيْهِ؛ فَلَبِسَ رِداءَهُ؛ ومَرَّ إلى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ؛ فَقالَ: "يا أبا المُنْذِرِ "؛ وسَألَهُ عنها؛ فَقالَ لَهُ: "إنَّهُ الشِرْكُ يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ "؛ فَسُرِّيَ عن عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -؛ وجَرى لِزَيْدِ بْنِ صُوحانَ؛ مَعَ سَلْمانَ نَحْوٌ مِمّا جَرى لِعُمَرَ ؛ مَعَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللهُ عنهم. وقَرَأ مُجاهِدٌ: "وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهم بِشِرْكٍ"؛ وقَرَأ عِكْرِمَةٌ: "يُلْبِسُوا"؛ بِضَمِّ الياءِ. و"اَلْأمْنُ"؛ رُفِعَ بِالِابْتِداءِ؛ وخَبَرُهُ في المَجْرُورِ؛ والجُمْلَةُ خَبَرُ "أُولَئِكَ"؛ "وَهم مُهْتَدُونَ"؛ أيْ: راشِدُونَ. وقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -: "اَلْمُرادُ بِهَذِهِ الآيَةِ إبْراهِيمُ - عَلَيْهِ السَلامُ - خاصَّةً"؛ وقالَ عِكْرِمَةُ: "نَزَلَتْ في مُهاجِرِي أصْحابِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ - خاصَّةً"؛ وقالَتْ فِرْقَةٌ: هي مِن قَوْلِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَلامُ - لِقَوْمِهِ؛ فَهي مِنَ الحُجَّةِ الَّتِي أُوتِيَها؛ وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هي مِن قَوْلِ قَوْمِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَلامُ -؛ ويَجِيءُ هَذا مِنَ الحُجَّةِ أيْضًا؛ أنْ أقَرُّوا بِالحَقِّ وهم قَدْ ظَلَمُوا في الإشْراكِ؛ وقالَ ابْنُ إسْحاقَ ؛ وابْنُ زَيْدٍ ؛ وغَيْرُهُما: بَلْ ذَلِكَ قَوْلٌ مِنَ اللهِ - عَزَّ وجَلَّ -؛ ابْتِداءُ حُكْمٍ فُصِّلَ؛ عامٌّ لِوَقْتِ مُحاجَّةِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَلامُ - وغَيْرِهِ؛ ولِكُلِّ مُؤْمِنٍ؛ تَقَدَّمَ أو تَأخَّرَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا هو البَيِّنُ الفَصِيحُ الَّذِي يَرْتَبِطُ بِهِ مَعْنى الآيَةِ؛ ويُحْسِنُ رَصْفَها؛ وهو خَبَرٌ مِنَ اللهِ تَعالى. و"تِلْكَ"؛ إشارَةٌ إلى هَذِهِ الحُجَّةِ المُتَقَدِّمَةِ؛ وهي رَفْعٌ بِالِابْتِداءِ؛ و"حُجَّتُنا"؛ خَبَرُهُ؛ و"آتَيْناها"؛ في مَوْضِعِ الحالِ؛ ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ "حُجَّتُنا"؛ بَدَلًا مِن "تِلْكَ"؛ و"آتَيْناها"؛ خَبَرَ "وَتِلْكَ"؛ و"إبْراهِيمَ"؛ مَفْعُولٌ بِـ "آتَيْنا"؛ والضَمِيرُ (p-٤٠٨)مَفْعُولٌ أيْضًا بِـ "آتَيْنا"؛ مُقَدَّمٌ؛ و"عَلى"؛ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: "حُجَّتُنا"؛ وفي ذَلِكَ فَصْلٌ كَثِيرٌ؛ ويَجُوزُ أنْ تَتَعَلَّقَ "عَلى" بِـ "آتَيْناها"؛ عَلى المَعْنى؛ إذِ المَعْنى: "أظْهَرْناها لِإبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ"؛ ونَحْوُ هَذا. وقَرَأ نافِعٌ ؛ وابْنُ كَثِيرٍ ؛ وأبُو عَمْرٍو ؛ وابْنُ عامِرٍ: "نَرْفَعُ دَرَجاتِ مَن نَشاءُ"؛ بِإضافَةِ الدَرَجاتِ إلى "مَن"؛ وقَرَأ عامِرٌ ؛ وعاصِمٌ ؛ وحَمْزَةُ ؛ والكِسائِيُّ: "نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهُما مَأْخَذانِ مِنَ الكَلامِ؛ والمَعْنى المَقْصُودُ بِهِما واحِدٌ؛ و"دَرَجاتٍ"؛ عَلى قِراءَةِ مَن نَوَّنَ؛ نُصِبَ عَلى الظَرْفِيَّةِ؛ "حَكِيمٌ عَلِيمٌ"؛ صِفَتانِ [تَلِيقانِ] بِهَذا المَوْضِعِ؛ إذْ هو مَوْضِعُ مَشِيئَةٍ؛ واخْتِيارٍ؛ فَيَحْتاجُ ذَلِكَ إلى العِلْمِ؛ والإحْكامِ؛ والدَرَجاتُ أصْلُها في الأجْسامِ؛ ثُمَّ تُسْتَعْمَلُ في المَراتِبِ؛ والمَنازِلِ المَعْنَوِيَّةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب