الباحث القرآني

(p-٤٠١)قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَيْلُ رَأى كَوْكَبًا قالَ هَذا رَبِّي فَلَمّا أفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾ ﴿فَلَمّا رَأى القَمَرَ بازِغًا قالَ هَذا رَبِّي فَلَمّا أفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضالِّينَ﴾ هَذِهِ الفاءُ في قَوْلِهِ تَعالى "فَلَمّا"؛ رابِطَةُ جُمْلَةِ ما بَعْدَها بِما قَبْلَها؛ وهي تُرَجِّحُ أنَّ المُرادَ بِالمَلَكُوتِ هو هَذا التَفْصِيلُ الَّذِي في هَذِهِ الآيَةِ؛ و"جَنَّ اللَيْلُ": سَتَرَ وغَطّى بِظَلامِهِ؛ ويُقالُ: "أجَنَّ"؛ والأوَّلُ أكْثَرُ؛ ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ "اَلْجِنُّ"؛ و"اَلْمِجَنُّ"؛ و"اَلْجَنَّةُ"؛ و"اَلْجَنَنُ" - وهو القَبْرُ -؛ مُشْتَقَّةً مِن "جَنَّ"؛ إذا سَتَرَ. ولَفْظُ هَذِهِ القِصَّةِ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ وقَعَتْ لَهُ - عَلَيْهِ السَلامُ - في حالِ صِباهُ؛ وقَبْلَ بُلُوغِهِ؛ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبّاسٍ ؛ فَإنَّهُ قالَ: رَأى كَوْكَبًا فَعَبَدَهُ؛ وقالَ ناسٌ كَثِيرٌ: إنَّ النازِلَةَ قَبْلَ البُلُوغِ؛ والتَكْلِيفِ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ وقَعَتْ لَهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ؛ وكَوْنِهِ مُكَلَّفًا؛ وحَكى الطَبَرِيُّ هَذا عن فِرْقَةٍ؛ وقالَتْ: إنَّهُ اسْتَفْهَمَ عَلى جِهَةِ التَوْقِيفِ؛ بِغَيْرِ ألِفٍ؛ قالَ: وهَذا كَقَوْلِ الشاعِرِ: ؎ رَفَوْنِي وقالُوا يا خُوَيْلِدُ لَمْ تُرَعْ ∗∗∗ فَقُلْتُ وأنْكَرْتُ الوُجُوهَ: هُمُ هُمُ؟ يُرِيدُ: "أهم هُمْ؟"؛ وكَما قالَ الآخَرُ: ؎ لَعَمْرُكَ ما أدْرِي وإنْ كُنْتُ دارِيًا ∗∗∗ ∗∗∗ شُعَيْثُ بْنُ سَهْمٍ أمْ شُعَيْثُ بْنُ مِنقَرِ؟ يُرِيدُ: "أشُعَيْثُ؟". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: والبَيْتُ الأوَّلُ لا حُجَّةَ فِيهِ عِنْدِي. وقَدْ حُكِيَ أنَّ نَمْرُودَ؛ جَبّارَ ذَلِكَ الزَمَنِ؛ رَأى مُنَجِّمُوهُ أنَّ مَوْلُودًا يُولَدُ في سَنَةِ كَذا؛ في (p-٤٠٢)عَمَلِهِ يَكُونُ خَرابُ المُلْكِ عَلى يَدَيْهِ؛ فَجَعَلَ يَتْبَعُ الحَبالى؛ ويُوكِلُ بِهِنَّ حُرّاسًا؛ فَمَن وضَعَتْ أُنْثى تُرِكَتْ؛ ومَن وضَعَتْ ذَكَرًا حُمِلَ إلى المَلِكِ فَذَبَحَهُ؛ وأنَّ أُمَّ إبْراهِيمَ حَمَلَتْ - وكانَتْ شابَّةً قَوِيَّةً - فَسَتَرَتْ حَمْلَها؛ فَلَمّا قَرُبَتْ وِلادَتُها بَعَثَتْ تارَحَ؛ أبا إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَلامُ -؛ إلى سَفَرٍ؛ وتَحَيَّلَتْ لِمُضِيِّهِ إلَيْهِ؛ ثُمَّ خَرَجَتْ هي إلى غارٍ؛ فَوَلَدَتْ فِيهِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَلامُ -؛ وتَرَكَتْهُ في الغارِ؛ وقَدْ هَيَّأتْ عَلَيْهِ؛ وكانَتْ تَتَفَقَّدُهُ؛ فَتَجِدُهُ يَغْتَذِي بِأنْ يَمُصَّ أصابِعَهُ؛ فَيَخْرُجُ لَهُ مِنها عَسَلٌ؛ وسَمْنٌ؛ ونَحْوُهُما؛ وحُكِيَ: بَلْ كانَ يُغَذِّيهِ مَلَكٌ؛ وحُكِيَ: بَلْ كانَتْ تَأْتِيهِ بِألْبانِ النِساءِ اللاتِي ذُبِحَ أبْناؤُهُنَّ؛ فَشَبَّ إبْراهِيمُ - عَلَيْهِ السَلامُ - أضْعافَ ما يَشِبُّ غَيْرُهُ؛ والمَلِكُ في خِلالِ ذَلِكَ يُحِسُّ بِوِلادَتِهِ؛ ويُشَدِّدُ في طَلَبِهِ؛ فَمَكَثَ في الغارِ عَشَرَةَ أعْوامٍ؛ وقِيلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً؛ وأنَّهُ نَظَرَ - أوَّلَ ما عَقَلَ - مِنَ الغارِ؛ فَرَأى الكَوْكَبَ؛ وجَرَتْ قِصَّةُ الآيَةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وجَلَبْتُ هَذِهِ القِصَصَ بِغايَةِ الِاخْتِصارِ في اللَفْظِ؛ وقَصَدْتُ اسْتِيفاءَ المَعانِي الَّتِي تَخُصُّ الآيَةَ؛ ويَضْعُفُ عِنْدِي أنْ تَكُونَ هَذِهِ القِصَّةُ في الغارِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَلامُ - في آخِرِها: ﴿إنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ٧٨] ؛ وهي ألْفاظٌ تَقْتَضِي مُحاجَّةً؛ ورَدًّا عَلى قَوْمٍ؛ وحالُهُ في الغارِ بَعِيدَةٌ عن مِثْلِ هَذا؛ اللهُمَّ إلّا أنْ يُتَأوَّلَ في ذَلِكَ أنَّهُ - عَلَيْهِ السَلامُ - قالَها بَيْنَهُ وبَيْنَ نَفْسِهِ؛ أيْ قالَ في نَفْسِهِ مَعْنى العِبارَةِ عنهُ: ﴿قالَ يا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ٧٨] ؛ وهَذا كَما قالَ الشاعِرُ: ؎ ثُمَّ انْثَنى وقالَ في التَفْكِيرِ ∗∗∗ ∗∗∗ إنَّ الحَياةَ اليَوْمَ في الكُرُورِ قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ومَعَ هَذا فالمُخاطَبَةُ تُبْعِدُهُ؛ ولَوْ قالَ: "يا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِنَ الإشْراكِ"؛ لَصَحَّ هَذا التَأْوِيلُ؛ وقَوِيَ؛ فَإنْ قُلْنا بِأنَّهُ وقَعَتْ لَهُ القِصَّةُ في الغارِ؛ في حالِ الصَبْوَةِ؛ وعَدَمِ التَكْلِيفِ؛ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ؛ ويَحْتَمِلُهُ اللَفْظُ؛ فَذَلِكَ يَنْقَسِمُ عَلى وجْهَيْنِ: إمّا أنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: "هَذا رَبِّي"؛ تَصْمِيمًا واعْتِقادًا؛ وهَذا باطِلٌ؛ لِأنَّ التَصْمِيمَ لَمْ يَقَعْ مِنَ الأنْبِياءِ - صَلَواتُ اللهِ تَعالى وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ -؛ وإمّا أنْ يُجْعَلَ تَعْرِيضًا لِلنَّظَرِ؛ والِاسْتِدْلالِ؛ كَأنَّهُ قالَ: "هَذا المُنِيرُ البَهِيُّ رَبِّي"؛ إنْ عَضَّدَتْ ذَلِكَ الدَلائِلُ؛ ويَجِيءُ إبْراهِيمُ - عَلَيْهِ السَلامُ - كَما قالَ اللهُ (p-٤٠٣)تَعالى لِمُحَمَّدٍ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: ﴿وَوَجَدَكَ ضالا فَهَدى﴾ [الضحى: ٧] ؛ أيْ: مُهْمَلَ المُعْتَقَدِ؛ وإنْ قُلْنا بِأنَّ القِصَّةَ وقَعَتْ لَهُ في حالِ كُفْرِهِ؛ وهو مُكَلَّفٌ؛ فَلا يَجُوزُ أنْ يَقُولَ: "هَذا رَبِّي"؛ مُصَمِّمًا؛ ولا مُعَرِّضًا لِلنَّظَرِ؛ لِأنَّها رُتْبَةُ جَهْلٍ؛ أو شَكٍّ؛ وهو - عَلَيْهِ السَلامُ - مُنَزَّهٌ؛ مَعْصُومٌ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ؛ فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنْ يَقُولَها - عَلَيْهِ السَلامُ - عَلى جِهَةِ التَقْرِيرِ لِقَوْمِهِ؛ والتَوْبِيخِ لَهُمْ؛ وإقامَةِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ في عِبادَةِ الأصْنامِ؛ كَأنَّهُ قالَ لَهُمْ: "أهَذا المُنِيرُ رَبِّي؟"؛ أو "هَذا رَبِّي"؛ وهو يُرِيدُ: "عَلى زَعْمِكُمْ"؛ كَما قالَ تَعالى ﴿أيْنَ شُرَكائِيَ﴾ [النحل: ٢٧] ؛ فَإنَّما المَعْنى: "عَلى زَعْمِكُمْ"؛ ثُمَّ عَرَّضَ إبْراهِيمُ - عَلَيْهِ السَلامُ - عَلَيْهِمْ؛ مِن حَرَكَتِهِ؛ وأُفُولِهِ؛ أمارَةَ الحُدُوثِ؛ وأنَّهُ لا يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ رَبًّا؛ ثُمَّ في آخَرَ أعْظَمَ مِنهُ؛ وأحْرى كَذَلِكَ؛ ثُمَّ في الشَمْسِ كَذَلِكَ؛ فَكَأنَّهُ يَقُولُ: "فَإذا بانَ في هَذِهِ المُنِيراتِ الرَفِيعَةِ أنَّها لا تَصْلُحُ لِلرُّبُوبِيَّةِ؛ فَأصْنامُكُمُ الَّتِي هي خَشَبٌ؛ وحِجارَةٌ؛ أحْرى أنَّ يَبِينَ ذَلِكَ فِيها"؛ ويُعَضِّدُ عِنْدِي هَذا التَأْوِيلَ قَوْلُهُ: ﴿إنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ٧٨]. ومَثَّلَ لَهم - عَلَيْهِ السَلامُ - بِهَذِهِ الأُمُورِ لِأنَّهم كانُوا أصْحابَ عِلْمِ نُجُومٍ؛ ونَظَرٍ في الأفْلاكِ؛ وهَذا الأمْرُ كُلُّهُ إنَّما وقَعَ في لَيْلَةٍ واحِدَةٍ؛ أيِ الكَوْكَبَ - وهو "اَلزُّهْرَةُ"؛ في قَوْلِ قَتادَةَ ؛ وقالَ السُدِّيُّ: وهو "اَلْمُشْتَرِي" - جانِحًا لِلْغُرُوبِ؛ فَلَمّا أفَلَ بَزَغَ القَمَرُ؛ وهو أوَّلُ طُلُوعِهِ؛ فَسَرى اللَيْلُ أجْمَعُ؛ فَلَمّا بَزَغَتِ الشَمْسُ زالَ ضَوْءُ القَمَرِ قَبْلَها؛ لِانْتِشارِ الصَباحِ؛ وخَفِيَ نُورُهُ؛ ودَنا أيْضًا مِن مَغْرِبِهِ؛ فَسُمِّيَ ذَلِكَ "أُفُولًا"؛ لِقُرْبِهِ مِنَ الأُفُولِ التامِّ؛ عَلى تَجَوُّزٍ في التَسْمِيَةِ؛ ثُمَّ بَزَغَتِ الشَمْسُ عَلى ذَلِكَ؛ وهَذا التَرْتِيبُ يَسْتَقِيمُ في اللَيْلَةِ الخامِسَةَ عَشَرَةَ مِنَ الشَهْرِ؛ إلى عِشْرِينَ؛ ولَيْسَ يَتَرَتَّبُ في لَيْلَةٍ واحِدَةٍ - كَما أجْمَعَ أهْلُ التَفْسِيرِ - إلّا في هَذِهِ اللَيالِي؛ وبِذَلِكَ التَجَوُّزِ في أُفُولِ القَمَرِ؛ و"أفَلَ"؛ في كَلامِ العَرَبِ؛ مَعْناهُ: "غابَ"؛ يُقالُ: "أيْنَ أفَلْتَ عَنّا يا فُلانُ"؛ وقِيلَ: مَعْناهُ "ذَهَبَ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا خِلافٌ في عِبارَةٍ فَقَطْ؛ وقالَ ذُو الرُمَّةِ: ؎ مَصابِيحُ لَيْسَتْ بِاللَواتِي تَقُودُها ∗∗∗ ∗∗∗ نُجُومٌ ولا بِالآفِلاتِ الدَوالِكِ (p-٤٠٤)وَقالَ: "اَلْآفِلِينَ"؛ فَجَمَعَ بِالياءِ؛ والنُونِ؛ لَمّا قَصَدَ الأرْبابَ؛ ونَحْوَ ذَلِكَ؛ وعَلى هَذا يُخَرَّجُ قَوْلُهُ في الشَمْسِ: "هَذا رَبِّي"؛ فَذَكَّرَ الإشارَةَ إلَيْها لَمّا قَصَدَ رَبَّهُ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ؛ وعاصِمٌ - في رِوايَةِ حَفْصٍ -: "رَأى"؛ بِفَتْحِ الراءِ؛ والهَمْزَةِ؛ وقَرَأ نافِعٌ بَيْنَ الفَتْحِ؛ والكَسْرِ؛ وقَرَأ عاصِمٌ - في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -؛ وابْنُ عامِرٍ ؛ وحَمْزَةُ ؛ والكِسائِيُّ ؛ بِكَسْرِهِما؛ وقَرَأ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ بِفَتْحِ الراءِ؛ وكَسْرِ الهَمْزَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿فَلَمّا رَأى القَمَرَ بازِغًا﴾ ؛ اَلْآيَةَ: "اَلْبُزُوغُ"؛ في هَذِهِ الأنْوارِ: أوَّلُ الطُلُوعِ؛ وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ فِيما تَدْعُو إلَيْهِ ألْفاظُ الآيَةِ؛ وكَوْنِ هَذا التَرْتِيبِ في لَيْلَةٍ واحِدَةٍ؛ مِنَ التَجَوُّزِ في أُفُولِ القَمَرِ؛ لِأنَّ أُفُولَهُ لَوْ قَدَّرْناهُ "مَغِيبَهُ في المَغْرِبِ"؛ لَكانَ ذَلِكَ بَعْدَ بُزُوغِ الشَمْسِ؛ وجَمِيعُ ما قُلْناهُ يُعْطِيهِ الِاعْتِبارُ. و"يَهْدِنِي": "يُرْشِدْنِي"؛ وهَذا اللَفْظُ يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَن قالَ: اَلنّازِلَةُ في حالِ الصِغَرِ؛ والقَوْمُ الضالُّونَ: عَبَدَةُ المَخْلُوقاتِ؛ كالأصْنامِ؛ وغَيْرِها؛ وإنْ كانَ الضَلالُ أعَمَّ مِن هَذا؛ فَهَذا هو المَقْصُودُ في هَذا المَوْضِعِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب