الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَأنْ أقِيمُوا الصَلاةَ واتَّقُوهُ وهو الَّذِي إلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَماواتِ والأرْضَ بِالحَقِّ ويَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحَقُّ ولَهُ المُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ في الصُورِ عالِمُ الغَيْبِ والشَهادَةِ وهو الحَكِيمُ الخَبِيرُ﴾ "وَأنْ أقِيمُوا"؛ يُتَّجَهُ أنْ يَكُونَ بِتَأْوِيلِ "وَإقامَةَ"؛ فَهو عُطِفَ عَلى المَفْعُولِ المُقَدَّرِ في "وَأُمِرْنا"؛ وقِيلَ: بَلْ هو مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: "لِنُسْلِمَ"؛ تَقْدِيرُهُ: "لِأنْ نُسْلِمَ؛ وأنْ أقِيمُوا". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا قَوْلُ الزَجّاجِ ؛ واللَفْظُ يُمانِعُهُ؛ وذَلِكَ أنَّ قَوْلَهُ: "لِأنْ نُسْلِمَ"؛ مُعْرَبٌ؛ وقَوْلَهُ: "أنْ أقِيمُوا"؛ مَبْنِيٌّ؛ وعَطْفُ المَبْنِيِّ عَلى المُعْرَبِ لا يَجُوزُ؛ لِأنَّ العَطْفَ يَقْتَضِي التَشْرِيكَ في العامِلِ؛ اللهُمَّ إلّا أنْ تَجْعَلَ العَطْفَ في "أنْ"؛ وحْدَها؛ وذَلِكَ قَلِقٌ؛ وإنَّما يُتَخَرَّجُ عَلى أنْ يُقَدَّرَ قَوْلُهُ: "وَأنْ أقِيمُوا"؛ بِمَعْنى: "لِنُقِيمَ"؛ ثُمَّ خَرَجَتْ بِلَفْظِ الأمْرِ؛ لِما في (p-٣٩٤)ذَلِكَ مِن جَزالَةِ اللَفْظِ؛ فَجازَ العَطْفُ عَلى أنْ يُلْغى حُكْمُ اللَفْظِ؛ ويُعَوَّلَ عَلى المَعْنى؛ ويُشْبِهُ هَذا مِن جِهَةِ ما حَكاهُ يُونُسُ عَنِ العَرَبِ: "اُدْخُلُوا الأوَّلُ فالأوَّلُ"؛ بِرَفْعِ لَفْظِ "اَلْأوَّلُ"؛ فَإنَّما هو بِأنْ يُقَدَّرَ "اُدْخُلُوا"؛ بِمَعْنى: "لِيَدْخُلِ الأوَّلُ"؛ وإلّا فَلَيْسَ يَجُوزُ إلّا: "اُدْخُلُوا الأوَّلَ فالأوَّلَ"؛ بِالنَصْبِ؛ وقالَ الزَجّاجُ أيْضًا: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ "وَأنْ أقِيمُوا"؛ مَعْطُوفًا عَلى "اِئْتِنا". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وفِيهِ بُعْدٌ. والضَمِيرُ في قَوْلِهِ: "واتَّقُوهُ" عائِدٌ عَلى "لِرَبِّ العالَمِينَ"؛ و"وَهُوَ"؛ اِبْتِداءٌ؛ وما بَعْدَهُ خَبَرُهُ؛ وهو لَفْظُ خَبَرٍ يَتَضَمَّنُ التَنْبِيهَ؛ والتَخْوِيفَ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ﴾ ؛ اَلْآيَةَ: "خَلَقَ": اِبْتَدَعَ؛ وأخْرَجَ مِنَ العَدَمِ إلى الوُجُودِ؛ و"بِالحَقِّ"؛ أيْ: "لَمْ يَخْلُقْها باطِلًا؛ بِغَيْرِ مَعْنًى؛ بَلْ لِمَعانٍ مُفِيدَةٍ؛ ولِحَقائِقَ بَيِّنَةٍ؛ مِنها ما يُحِسُّهُ البَشَرُ مِنَ الِاسْتِدْلالِ بِها عَلى الصانِعِ؛ ونُزُولِ الأرْزاقِ؛ وغَيْرِ ذَلِكَ"؛ وقِيلَ: اَلْمَعْنى: "بِأنْ حَقٌّ لَهُ أنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ"؛ وقِيلَ: "بِالحَقِّ"؛ مَعْناهُ: "بِكَلامِهِ في قَوْلِهِ لِلْمَخْلُوقاتِ "كُنْ"؛ وفي قَوْلِهِ: ﴿ائْتِيا طَوْعًا أو كَرْهًا﴾ [فصلت: ١١] ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وتَحْرِيرُ القَوْلِ أنَّ المَخْلُوقاتِ إنَّما إيجادُها بِالقُدْرَةِ؛ لا بِالكَلامِ؛ واقْتِرانُ "كُنْ"؛ بِحالَةِ إيجادِ المَخْلُوقِ فائِدَتُهُ إظْهارُ العِزَّةِ؛ والعَظَمَةِ؛ ونُفُوذِ الأوامِرِ؛ وإعْلانُ القَصْدِ؛ ومِثالُ ذَلِكَ في الشاهِدِ أنْ يَضْرِبَ إنْسانٌ شَيْئًا؛ فَيَكْسِرَهُ؛ ويَقُولَ في حالِ الكَسْرِ؛ بِلِسانِهِ: "اِنْكَسِرْ"؛ (p-٣٩٥)فَإنَّ ذَلِكَ إنْفاذُ عَزْمٍ؛ وإظْهارُ قَصْدٍ؛ ولِلَّهِ تَعالى المَثَلُ الأعْلى؛ لا تَشْبِيهَ؛ ولا حَرْفَ؛ ولا صَوْتَ؛ ولا تَغَيُّرَ؛ أمْرُهُ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ؛ فَكَأنَّ مَعْنى الآيَةِ - عَلى هَذا القَوْلِ -: "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَماواتِ؛ والأرْضَ؛ بِقَوْلِهِ: "كُنْ"؛ اَلْمُقْتَرِنَةِ بِالقُدْرَةِ الَّتِي بِها يَقَعُ إيجادُ المَخْلُوقِ بَعْدَ عَدَمِهِ"؛ فَعَبَّرَ عن ذَلِكَ بِـ "اَلْحَقِّ". ﴿ "وَيَوْمَ يَقُولُ"؛﴾ نُصِبَ عَلى الظَرْفِ؛ وهو مُتَعَلِّقٌ بِمَعْمُولِ فِعْلٍ مُضْمَرٍ؛ تَقْدِيرُهُ: "واذْكُرِ الخَلْقَ؛ والإعادَةَ؛ يَوْمَ...". وتَحْتَمِلُ الآيَةُ - مَعَ هَذا - أنْ يَكُونَ مَعْناها: "واذْكُرِ الإعادَةَ يَوْمَ يَقُولُ اللهُ تَعالى لِلْأجْسادِ: "كُنْ"؛ [فَتَكُونُ] مُعادَةً"؛ ثُمَّ يُحْتَمَلُ أنْ يَتِمَّ الكَلامُ هُنا؛ ثُمَّ يَبْدَأ بِإخْبارِ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ الحَقُّ؛ الَّذِي كانَ في الدُنْيا؛ إخْبارًا بِالإعادَةِ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ تَمامُ الكَلامِ في قَوْلِهِ: "فَيَكُونُ"؛ ويَكُونَ "قَوْلُهُ الحَقُّ"؛ اِبْتِداءً؛ وخَبَرًا؛ أو عَلى الِاحْتِمالِ الَّذِي قَبْلَهُ؛ فَـ "قَوْلُهُ"؛ فاعِلٌ؛ قالَ الزَجّاجُ: قَوْلُهُ: "يَوْمَ"؛ مَعْطُوفٌ عَلى الضَمِيرِ مِن قَوْلِهِ: "واتَّقُوهُ"؛ فالتَقْدِيرُ - هُنا؛ عَلى هَذا القَوْلِ -: "واتَّقُوا العِقابَ؛ أوِ الأهْوالَ؛ والشَدائِدَ يَوْمَ..."؛ وقِيلَ: إنَّ الكَلامَ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿ "خَلَقَ السَماواتِ"؛﴾ والتَقْدِيرُ - عَلى هَذا -: "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَماواتِ والأرْضَ؛ والمُعاداتِ إلى الحَشْرِ يَوْمَ..."؛ ولا يَجُوزُ أنْ تَعْمَلَ هَذِهِ الأفْعالَ - لا تَقْدِيرَكَ: "اُذْكُرْ"؛ ولا "اِتَّقُوا"؛ ولا "خَلَقَ" - في "يَوْمَ"؛ لِأنَّ أسْماءَ الزَمانِ إذا بُنِيَتْ مَعَ الأفْعالِ؛ لا يَجُوزُ أنْ تُنْصَبَ إلّا عَلى الظَرْفِ؛ ولا يَجُوزَ أنْ يَتَعَلَّقَ "وَيَوْمَ"؛ بِقَوْلِهِ: ﴿ "قَوْلُهُ الحَقُّ"؛﴾ لِأنَّ المَصْدَرَ لا يَعْمَلُ فِيما تَقَدَّمَهُ؛ وقَدْ أطْلَقَ قَوْمٌ أنَّ العامِلَ: "اُذْكُرْ"؛ أو "خَلَقَ"؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِـ "يَقُولُ"؛ مَعْنى المُضِيِّ؛ كَأنَّهُ قالَ: "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَماواتِ والأرْضَ بِالحَقِّ يَوْمَ يَقُولُ..."؛ بِمَعْنى: "قالَ لَها: كُنْ"؛ فَـ "وَيَوْمَ"؛ ظَرْفٌ مَعْطُوفٌ عَلى مَوْضِعِ قَوْلِهِ: "اَلْحَقُّ"؛ إذْ هو في مَوْضِعِ نَصْبٍ؛ ويَجِيءُ تَمامُ الكَلامِ في قَوْلِهِ: "فَيَكُونُ"؛ ويَجِيءُ "قَوْلُهُ الحَقُّ"؛ اِبْتِداءً؛ وخَبَرًا؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يَتِمَّ الكَلامُ في "كُنْ"؛ ويُبْتَدَأ بِـ ﴿فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحَقُّ﴾ ؛ وتَكُونَ "فَيَكُونُ"؛ تامَّةً؛ بِمَعْنى "يَظْهَرُ"؛ و"اَلْحَقُّ"؛ صِفَةً لِلْقَوْلِ؛ و"قَوْلُهُ"؛ فاعِلًا. وقَرَأ الحَسَنُ: "قُولُهُ"؛ بِضَمِّ القافِ. و"لَهُ المُلْكُ"؛ اِبْتِداءٌ؛ وخَبَرٌ؛ و﴿يَوْمَ يُنْفَخُ في الصُورِ﴾: "وَيَوْمَ"؛ بَدَلٌ مِنَ الأُولى؛ عَلى أنَّ "يَقُولُ"؛ مُسْتَقْبَلٌ؛ لا عَلى تَقْدِيرِ مُضِيِّهِ؛ وقِيلَ: بَلْ مُتَعَلِّقٌ بِما تَضَمَّنَ "اَلْمُلْكُ"؛ مِن مَعْنى الفِعْلِ؛ أو بِتَقْدِيرِ: "ثابِتٌ"؛ أو: "مُسْتَقِرٌّ يَوْمَ..."؛ و"فِي الصُورِ"؛ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: هو جَمْعُ "صُورَةٌ"؛ فالمَعْنى: "يَوْمَ تُعادُ العَوالِمُ"؛ وقالَ الجُمْهُورُ: هو الصُورُ؛ القَرْنُ الَّذِي قالَ (p-٣٩٦)النَبِيُّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - [عنهُ] أنَّهُ يُنْفَخُ فِيهِ لِلصَّعْقِ؛ ثُمَّ لِلْبَعْثِ؛ ورَجَّحَهُ الطَبَرِيُّ بِقَوْلِ النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: « "إنَّ إسْرافِيلَ قَدِ التَقَمَ الصُورَ؛ وحَنى جَبْهَتَهُ يَنْظُرُ مَتى يُؤْمَرُ؛ فَيَنْفُخُ".» وقَرَأ الحَسَنُ: "فِي الصُوَرِ"؛ بِفَتْحِ الواوِ؛ وهَذِهِ تُؤَيِّدُ التَأْوِيلَ الأوَّلَ؛ وحَكاهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ؛ عن عِياضٍ. "عالِمُ"؛ رُفِعَ بِإضْمارِ مُبْتَدَإٍ؛ وقِيلَ: نَعْتٌ لِـ "اَلَّذِي"؛ وقَرَأ الحَسَنُ والأعْمَشُ: "عالِمِ"؛ بِالخَفْضِ؛ عَلى النَعْتِ لِلضَّمِيرِ الَّذِي في "وَلَهُ"؛ أو عَلى البَدَلِ مِنهُ؛ مِن قَوْلِهِ "لَهُ المُلْكُ"؛ وقَدْ رُوِيَتْ عن عاصِمٍ ؛ وقِيلَ: اِرْتَفَعَ "عالِمُ"؛ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ مِن لَفْظِ الفِعْلِ المَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ؛ تَقْدِيرُهُ: "يَنْفُخُ فِيهِ عالِمُ"؛ عَلى ما أنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: ؎ لِيُبْكَ يَزِيدُ ضارِعٌ لِخُصُومَةٍ ∗∗∗ وآخَرُ مِمَّنْ طَوَّحَتْهُ الطَوائِحُ اَلتَّقْدِيرُ: يَبْكِيهِ ضارِعٌ؛ وحَكى الطَبَرِيُّ هَذا التَأْوِيلَ الَّذِي يُشْبِهُ "لِيُبْكَ يَزِيدُ"؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ؛ ونَظِيرُها مِنَ القُرْآنِ قِراءَةُ مَن قَرَأ: "زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلُ أولادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ"؛ بِضَمِّ الزايِ؛ ورَفْعِ الشُرَكاءِ؛ ورُوِيَ عن عَبْدِ الوارِثِ ؛ عن أبِي عَمْرٍو: "يَوْمَ نَنْفُخُ في الصُورِ"؛ بِنُونِ العَظَمَةِ. و"اَلْغَيْبِ والشَهادَةِ"؛ مَعْناهُ: ما غابَ عَنّا؛ وما حَضَرَ؛ وهَذا يَعُمُّ جَمِيعَ المَوْجُوداتِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب