الباحث القرآني
قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -:
﴿وَإذا رَأيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آياتِنا فَأعْرِضْ عنهم حَتّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ وإمّا يُنْسِيَنَّكَ الشَيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِكْرى مَعَ القَوْمِ الظالِمِينَ﴾ ﴿وَما عَلى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِن حِسابِهِمْ مِن شَيْءٍ ولَكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهم يَتَّقُونَ﴾
لَفْظُ هَذا الخِطابِ مُجَرَّدٌ لِلنَّبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وحْدَهُ؛ واخْتُلِفَ في مَعْناهُ؛ فَقِيلَ: إنَّ المُؤْمِنِينَ داخِلُونَ في الخِطابِ مَعَهُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا هو الصَحِيحُ؛ لِأنَّ عِلَّةَ النَهْيِ - وهي سَماعُ الخَوْضِ في آياتِ اللهِ تَعالى - تَشْمَلُهم وإيّاهُ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ وقِيلَ: بَلِ المَعْنى أيْضًا أُرِيدَ بِهِ النَبِيُّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وحْدَهُ؛ لِأنَّ قِيامَهُ عَنِ المُشْرِكِينَ كانَ يَشُقُّ (p-٣٨٥)عَلَيْهِمْ؛ وفِراقَهُ لَهم عَلى مُغاضَبَةٍ؛ وإنْ لَمْ يَكُنِ المُؤْمِنُونَ عِنْدَهم كَذَلِكَ؛ فَأُمِرَ النَبِيُّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - أنْ يُنابِذَهم بِالقِيامِ عنهم إذا اسْتَهْزَؤُوا وخاضُوا؛ لِيَتَأدَّبُوا بِذَلِكَ؛ ويَدَعُوا الخَوْضَ والِاسْتِهْزاءَ؛ وهَذا التَأْوِيلُ يَتَرَكَّبُ عَلى كَلامِ ابْنِ جَرِيرٍ - يَرْحَمُهُ اللهُ.
والخَوْضُ أصْلُهُ في الماءِ؛ ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ بَعْدُ في غَمَراتِ الأشْياءِ الَّتِي هي مَجاهِلُ؛ تَشْبِيهًا بِغَمَراتِ الماءِ.
"وَإمّا": شَرْطٌ؛ وتَلْزَمُها النُونُ الثَقِيلَةُ في الأغْلَبِ؛ وقَدْ لا تَلْزَمُ؛ كَما قالَ:
؎ إمّا يُصِبْكَ عَدُوٌّ في مُناوَأةٍ ∗∗∗................
إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأمْثِلَةِ.
وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وحْدَهُ "يُنَسِّيَنَّكَ"؛ بِتَشْدِيدِ السِينِ؛ وفَتْحِ النُونِ؛ والمَعْنى واحِدٌ؛ إلّا أنَّ التَشْدِيدَ أكْثَرُ مُبالَغَةً.
والذِكْرى؛ والذِكْرُ واحِدٌ في المَعْنى؛ وإنَّما هو تَأْنِيثٌ لَفْظِيٌّ؛ ووَصْفُهم هُنا بِـ "اَلظّالِمِينَ"؛ مُتَمَكِّنٌ؛ لِأنَّهم وضَعُوا الشَيْءَ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ؛ و"أعْرِضْ"؛ في هَذِهِ الآيَةِ بِمَعْنى المُفارَقَةِ؛ عَلى حَقِيقَةِ الإعْراضِ؛ وأكْمَلِ وُجُوهِهِ؛ ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ: "فَلا تَقْعُدْ".
وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وَما عَلى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِن حِسابِهِمْ﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ المُرادُ بِـ "اَلَّذِينَ"؛ هُمُ المُؤْمِنُونَ؛ والضَمِيرُ في "حِسابِهِمْ"؛ عائِدٌ عَلى "اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ"؛ ومَن قالَ: إنَّ المُؤْمِنِينَ داخِلُونَ في قَوْلِهِ: "فَأعْرِضْ"؛ قالَ: إنَّ النَبِيَّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - داخِلٌ في هَذا القَصْدِ بِـ "اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ"؛ والمَعْنى عِنْدَهم - عَلى ما رُوِيَ - أنَّ المُؤْمِنِينَ قالُوا - لَمّا نَزَلَتْ: "فَلا تَقْعُدْ" - مَعَهُمْ: "إذا كُنّا لا نَقْرَبُ المُشْرِكِينَ؛ ولا نَسْمَعُ أقْوالَهُمْ؛ فَما يُمْكِنُنا طَوافٌ؛ ولا قَضاءُ عِبادَةٍ في الحَرَمِ"؛ فَنَزَلَتْ لِذَلِكَ: ﴿وَما عَلى الَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾.
(p-٣٨٦)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: فالإباحَةُ في هَذا هي في القَدْرِ الَّذِي يُحْتاجُ إلَيْهِ مِنَ التَصَرُّفِ بَيْنَ المُشْرِكِينَ؛ في عِبادَةٍ؛ ونَحْوِها؛ وقالَ بَعْضُ مَن يَقُولُ: "إنَّ النَبِيَّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - داخِلٌ فِي: ﴿الَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ ؛ وإنَّ المُؤْمِنِينَ داخِلُونَ في الخِطابِ الأوَّلِ": إنَّ هَذِهِ الآيَةَ الأخِيرَةَ لَيْسَتْ إباحَةً بِوَجْهٍ؛ وإنَّما مَعْناها: "لا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ؛ ولا تَقْرَبُوهُمْ؛ حَتّى لا تَسْمَعُوا اسْتِهْزاءَهُمْ؛ وخَوْضَهُمْ؛ ولَيْسَ نَهْيُكم عَنِ القُعُودِ لِأنَّ عَلَيْكم شَيْئًا مِن حِسابِهِمْ؛ وإنَّما هو ذِكْرى لَكُمْ"؛ ويَحْتَمِلُ المَعْنى أنْ يَكُونَ لَهُمْ: "لَعَلَّهم إذا جانَبْتُمُوهم يَتَّقُونَ بِالإمْساكِ عَنِ الاسْتِهْزاءِ"؛ وأمّا مَن قالَ: "إنَّ الخِطابَ الأوَّلَ هو مُجَرَّدٌ لِلنَّبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - لِثِقَلِ مُفارَقَتِهِ مُغْضَبًا عَلى الكُفّارِ"؛ فَإنَّهُ قالَ في هَذِهِ الآيَةِ الثانِيَةِ: إنَّها مُخْتَصَّةٌ بِالمُؤْمِنِينَ؛ ومَعْناها الإباحَةُ؛ فَكَأنَّهُ قالَ: "فَلا تَقْعُدْ مَعَهم يا مُحَمَّدُ؛ وأمّا المُؤْمِنُونَ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِمْ مِن حِسابِهِمْ؛ فَإنْ قَعَدُوا فَلْيُذَكِّرُوهم لَعَلَّهم يَتَّقُونَ اللهَ تَعالى في تَرْكِ ما هم فِيهِ".
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا القَوْلُ أشارَ إلَيْهِ النَقّاشُ ؛ ولَمْ يُوَضِّحْهُ؛ وفِيهِ عِنْدِي نَظَرٌ؛ وقالَ قائِلُ هَذِهِ المَقالَةِ: إنَّ هَذِهِ الإباحَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ نُسِخَتْ بِآيَةِ "اَلنِّساءِ"؛ قَوْلِهِ - تَبارَكَ وتَعالى -: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكم في الكِتابِ أنْ إذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها ويُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهم حَتّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [النساء: ١٤٠] ؛ وكَذَلِكَ أيْضًا مَن قالَ أوَّلًا: "إنَّ الإباحَةَ كانَتْ بِحَسَبِ العِباداتِ"؛ يَقُولُ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ الَّتِي في "اَلنِّساءِ" ناسِخَةٌ لِذَلِكَ؛ إذْ هي مَدَنِيَّةٌ؛ والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: "وَقَدْ نَزَّلَ"؛ إلَيْها بِنَفْسِها؛ فَتَأمَّلْهُ؛ وإلّا فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ الناسِخُ غَيْرَها؛ و"ذِكْرى"؛ عَلى هَذا القَوْلِ؛ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ: "ذَكِّرُوهم ذِكْرى"؛ ويُحْتَمَلُ: "وَلَكِنْ أعْرِضُوا مَتى أعْرَضْتُمْ في غَيْرِ وقْتِ العِبادَةِ ذِكْرى"؛ و"ذِكْرى"؛ عَلى كُلِّ قَوْلٍ؛ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ؛ بِإضْمارِ فِعْلٍ؛ أو رَفْعٍ بِإضْمارِ مُبْتَدَإٍ.
ويَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أنْ يَمْتَثِلَ حُكْمَ هَذِهِ الآيَةِ مَعَ المُلْحِدِينَ؛ وأهْلِ الجِدالِ والخَوْضِ فِيهِ؛ وحَكى الطَبَرِيُّ عن أبِي جَعْفَرٍ أنَّهُ قالَ: "لا تُجالِسُوا أهْلَ الخُصُوماتِ فَإنَّهُمُ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آياتِ اللهِ تَعالى ".
{"ayahs_start":68,"ayahs":["وَإِذَا رَأَیۡتَ ٱلَّذِینَ یَخُوضُونَ فِیۤ ءَایَـٰتِنَا فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ یَخُوضُوا۟ فِی حَدِیثٍ غَیۡرِهِۦۚ وَإِمَّا یُنسِیَنَّكَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ فَلَا تَقۡعُدۡ بَعۡدَ ٱلذِّكۡرَىٰ مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِینَ","وَمَا عَلَى ٱلَّذِینَ یَتَّقُونَ مِنۡ حِسَابِهِم مِّن شَیۡءࣲ وَلَـٰكِن ذِكۡرَىٰ لَعَلَّهُمۡ یَتَّقُونَ"],"ayah":"وَإِذَا رَأَیۡتَ ٱلَّذِینَ یَخُوضُونَ فِیۤ ءَایَـٰتِنَا فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ یَخُوضُوا۟ فِی حَدِیثٍ غَیۡرِهِۦۚ وَإِمَّا یُنسِیَنَّكَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ فَلَا تَقۡعُدۡ بَعۡدَ ٱلذِّكۡرَىٰ مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق