الباحث القرآني

(p-٣٨٢)قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿قُلْ هو القادِرُ عَلى أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكم عَذابًا مِن فَوْقِكم أو مِن تَحْتِ أرْجُلِكم أو يَلْبِسَكم شِيَعًا ويُذِيقَ بَعْضَكم بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلَّهم يَفْقَهُونَ﴾ ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وهو الحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكم بِوَكِيلٍ﴾ ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ هَذا إخْبارٌ يَتَضَمَّنُ الوَعِيدَ؛ والأظْهَرُ مِن نَسَقِ الآياتِ أنَّ هَذا الخِطابَ لِلْكُفّارِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ؛ وهو مَذْهَبُ الطَبَرِيِّ ؛ وقالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ؛ وأبُو العالِيَةِ ؛ وجَماعَةٌ مَعَهُما: هي لِلْمُؤْمِنِينَ؛ وهُمُ المُرادُ؛ قالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: هي أرْبَعُ خِلالٍ؛ وكُلُّهُنَّ عَذابٌ؛ وكُلُّهُنَّ واقِعٌ قَبْلَ يَوْمِ القِيامَةِ؛ فَمَضَتِ اثْنَتانِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - بِخَمْسٍ وعِشْرِينَ سَنَةً؛ ثُمَّ لُبِسُوا شِيَعًا؛ وأُذِيقَ بَعْضُهم بِأْسَ بَعْضٍ؛ واثْنَتانِ واقِعَتانِ لا مَحالَةَ: اَلْخَسْفُ والرَجْمُ؛ وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: بَعْضُها لِلْكُفّارِ؛ وبَعْضُها لِلْمُؤْمِنِينَ؛ بَعْثُ العَذابِ مِن فَوْقُ؛ وتَحْتُ؛ لِلْكُفّارِ؛ وسائِرُها لِلْمُؤْمِنِينَ؛ وهَذا الِاخْتِلافُ إنَّما هو بِحَسَبِ ما يَظْهَرُ مِن أنَّ الآيَةَ تَتَناوَلُ مَعانِيها المُشْرِكِينَ؛ والمُؤْمِنِينَ. ورُوِيَ مِن حَدِيثِ جابِرٍ ؛ وخالِدٍ الخُزاعِيِّ؛ «أنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - لَمّا نَزَلَتْ: ﴿أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكم عَذابًا مِن فَوْقِكُمْ﴾ ؛ قالَ: "أعُوذُ بِوَجْهِكَ"؛ فَلَمّا نَزَلَتْ: ﴿أو مِن تَحْتِ أرْجُلِكُمْ﴾ ؛ قالَ: "أعُوذُ بِوَجْهِكَ"؛ فَلَمّا نَزَلَتْ: ﴿أو يَلْبِسَكم شِيَعًا ويُذِيقَ بَعْضَكم بَأْسَ بَعْضٍ﴾ ؛ قالَ: "هَذِهِ أهْوَنُ"؛ أو: "هَذِهِ أيْسَرُ"؛» فاحْتَجَّ بِهَذا مَن قالَ إنَّها نَزَلَتْ في المُؤْمِنِينَ؛ وقالَ الطَبَرِيُّ: وغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أنْ (p-٣٨٣)يَكُونُ النَبِيُّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - تَعَوَّذَ لِأُمَّتِهِ مِن هَذِهِ الأشْياءِ الَّتِي تُوُعِّدَ بِها الكُفّارُ؛ وهَوَّنَ الثالِثَةَ لِأنَّها بِالمَعْنى هي الَّتِي دَعا بِها - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَمُنِعَ؛ حَسَبَ حَدِيثِ المُوَطَّإ وغَيْرِهِ؛ وقَدْ قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -: إنَّها أسْوَأُ الثَلاثِ؛ وهَذا عِنْدِي عَلى جِهَةِ الإغْلاظِ في المَوْعِظَةِ؛ والحَقُّ أنَّها أيْسَرُها؛ كَما قالَ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ. ومِن فَوْقِكم ومِن تَحْتِ أرْجُلِكم ؛ لَفْظٌ عامٌّ لِلْمُنْطَبِقَيْنِ عَلى الإنْسانِ؛ وقالَ السُدِّيُّ عن أبِي مالِكٍ: ﴿مِن فَوْقِكُمْ﴾: اَلرَّجْمُ؛ و﴿مِن تَحْتِ أرْجُلِكُمْ﴾: اَلْخَسْفُ؛ وقالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ؛ ومُجاهِدٌ ؛ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُما -: ﴿مِن فَوْقِكُمْ﴾: وُلاةُ الجَوْرِ؛ و﴿مِن تَحْتِ أرْجُلِكُمْ﴾ ؛ سِفْلَةُ السُوءِ؛ وخَدَمَةُ السُوءِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذِهِ كُلُّها أمْثِلَةٌ؛ لا أنَّها هي المَقْصُودُ؛ إذْ هي وغَيْرُها مِنَ القُحُوطِ والغَرَقِ؛ وغَيْرِ ذَلِكَ؛ داخِلٌ في عُمُومِ اللَفْظِ. و"يَلْبِسَكُمْ"؛ عَلى قِراءَةِ السِتَّةِ؛ مَعْناهُ: "يَخْلِطَكُمْ"؛ "شِيَعًا"؛ فِرَقًا؛ يَتَشَيَّعُ بَعْضُها لِبَعْضٍ؛ واللَبْسُ: اَلْخَلْطُ؛ وقالَ المُفَسِّرُونَ: هو افْتِراقُ الأهْواءِ؛ والقِتالُ بَيْنَ الأُمَّةِ. وقَرَأ أبُو عَبْدِ اللهِ المَدَنِيُّ: "يُلْبِسَكُمْ"؛ بِضَمِّ الياءِ؛ مِن "ألْبَسَ"؛ فَهو عَلى هَذِهِ اسْتِعارَةٌ مِن "اَللِّباسُ"؛ فالمَعْنى: "أو يُلْبِسَكُمُ الفِتْنَةَ شِيَعًا"؛ و"شِيَعًا"؛ مَنصُوبٌ عَلى الحالِ؛ وقَدْ قالَ الشاعِرُ: ؎ لَبِسْتُ أُناسًا فَأفْنَيْتُهم ∗∗∗............... فَهَذِهِ عِبارَةٌ عَنِ الخُلْطَةِ؛ والمُقاساةِ؛ وإلْباسِ القَتْلِ؛ وما أشْبَهَهُ مِنَ المَكارِهِ. "وَيُذِيقَ"؛ اِسْتِعارَةٌ؛ إذْ هي مِن أجَلِّ حَواسِّ الِاخْتِبارِ؛ وهي اسْتِعارَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ في كَثِيرٍ (p-٣٨٤)مِن كَلامِ العَرَبِ؛ وفي القُرْآنِ؛ وقَرَأ الأعْمَشُ: "وَنُذِيقَ"؛ بِنُونِ الجَماعَةِ؛ وهي نُونُ العَظَمَةِ في جِهَةِ اللهِ - عَزَّ وجَلَّ -؛ وتَقُولُ: "أذَقْتُ فُلانًا العَلْقَمَ"؛ تُرِيدُ كَراهِيَةَ شَيْءٍ صَنَعْتَهُ بِهِ؛ ونَحْوَ هَذا. وفِي قَوْلِهِ تَعالى ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ اِسْتِرْجاعٌ لَهُمْ؛ وإنْ كانَ لَفْظُها لَفْظَ تَعْجِيبٍ لِلنَّبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ فَمُضَمَّنُها أنَّ هَذِهِ الآياتِ والدَلائِلَ إنَّما هي لِاسْتِصْرافِهِمْ عن طَرِيقِ غَيِّهِمْ؛ و"اَلْفَقْهُ": اَلْفَهْمُ. والضَمِيرُ في "بِهِ"؛ عائِدُ عَلى القُرْآنِ الَّذِي فِيهِ جاءَ تَصْرِيفُ الآياتِ؛ قالَهُ السُدِّيُّ ؛ وهَذا هو الظاهِرُ؛ وقِيلَ: يَعُودُ عَلى النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ وهَذا بَعِيدٌ؛ لِقُرْبِ مُخاطَبَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِالكافِ في قَوْلِهِ: "قَوْمُكَ"؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ الضَمِيرُ عَلى الوَعِيدِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الآيَةُ؛ ونَحا إلَيْهِ الطَبَرِيُّ ؛ وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "وَكَذَّبَتْ بِهِ قَوْمُكَ"؛ بِزِيادَةِ تاءٍ؛ و"بِوَكِيلٍ"؛ مَعْناهُ: بِمَدْفُوعٍ إلى أخْذِكم بِالإيمانِ؛ والهُدى؛ و"اَلْوَكِيلُ"؛ بِمَعْنى: "اَلْحَفِيظُ"؛ وهَذا كانَ قَبْلَ نُزُولِ الجِهادِ والأمْرِ بِالقِتالِ؛ ثُمَّ نُسِخَ؛ وقِيلَ: لا نَسْخَ في هَذا؛ إذْ هو خَبَرٌ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: والنَسْخُ فِيهِ مُتَوَجَّهٌ؛ لِأنَّ اللازِمَ مِنَ اللَفْظِ: "لَسْتَ الآنَ"؛ ولَيْسَ فِيهِ أنَّهُ لا يَكُونُ في المُسْتَأْنَفِ؛ وقَوْلُهُ: ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ﴾ ؛ أيْ غايَةٌ؛ يُعْرَفُ عِنْدَها صِدْقُهُ مِن كَذِبِهِ؛ ﴿وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ ؛ تَهْدِيدٌ مَحْضٌ؛ ووَعِيدٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب