الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿قُلْ مَن يُنَجِّيكم مَن ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وخُفْيَةً لَئِنْ أنْجانا مَن هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مَن الشاكِرِينَ﴾ ﴿قُلِ اللهُ يُنَجِّيكم مِنها ومِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أنْتُمْ تُشْرِكُونَ﴾ هَذا تَمادٍ في تَوْبِيخِ العادِلِينَ بِاللهِ تَعالى الأوثانَ؛ وتَوْقِيفِهِمْ عَلى سُوءِ الفِعْلِ في عِبادَتِهِمُ الأصْنامَ؛ وتَرْكِهِمُ الَّذِي يُنْجِي مِنَ المُهْلِكاتِ؛ ويُلْجَأُ إلَيْهِ في الشَدائِدِ. و"مَن"؛ اِسْتِفْهامٌ رُفِعَ بِالِابْتِداءِ؛ وقَرَأ عاصِمٌ ؛ وحَمْزَةُ ؛ والكِسائِيُّ: "مَن يُنَجِّيكُمْ"؛ "قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ"؛ بِتَشْدِيدِ الجِيمِ؛ وفَتْحِ النُونِ؛ وقَرَأ أبُو عَمْرٍو في رِوايَةِ عَلِيِّ بْنِ نَصْرٍ؛ عنهُ؛ وحُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ؛ ويَعْقُوبَ: "يُنْجِيكُمْ"؛ بِتَخْفِيفِ الجِيمِ؛ وسُكُونِ النُونِ؛ وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ؛ ونافِعٌ ؛ وأبُو عَمْرٍو ؛ وابْنُ عامِرٍ بِالتَشْدِيدِ في الأُولى؛ والتَخْفِيفِ في الثانِيَةِ؛ فَجَمَعُوا بَيْنَ التَعْدِيَةِ بِالألِفِ؛ والتَعْدِيَةِ بِالتَضْعِيفِ؛ كَما جاءَ ذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَمَهِّلِ الكافِرِينَ أمْهِلْهم رُوَيْدًا﴾ [الطارق: ١٧]. (p-٣٨١)وَ ﴿ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ﴾ ؛ يُرادُ بِهِ شَدائِدُها؛ فَهو لَفْظٌ عامٌّ؛ يَسْتَغْرِقُ ما كانَ مِنَ الشَدائِدِ بِظُلْمَةٍ حَقِيقِيَّةٍ؛ وما كانَ بِغَيْرِ ظُلْمَةٍ؛ والعَرَبُ تَقُولُ: "عامٌ أسْوَدُ"؛ و"يَوْمٌ مُظْلِمٌ"؛ و"يَوْمٌ ذُو كَواكِبَ"؛ ونَحْوَ هَذا؛ يُرِيدُونَ بِهِ الشِدَّةَ؛ قالَ قَتادَةُ: اَلْمَعْنى: "مِن كَرْبِ البَرِّ والبَحْرِ"؛ وقالَهُ الزَجّاجُ ؛ و"تَدْعُونَهُ"؛ في مَوْضِعِ الحالِ؛ و"تَضَرُّعًا"؛ نُصِبَ عَلى المَصْدَرِ؛ والعامِلُ فِيهِ "تَدْعُونَهُ"؛ والتَضَرُّعُ صِفَةٌ بادِيَةٌ عَلى الإنْسانِ؛ و"وَخُفْيَةً"؛ مَعْناهُ: اَلِاخْتِفاءُ؛ والسِرُّ؛ فَكَأنَّ نَسَقَ القَوْلِ: "تَدْعُونَهُ جَهْرًا؛ وسِرًّا"؛ هَذِهِ العِبارَةُ بِمَعانٍ زائِدَةٍ. وقَرَأ الجَمِيعُ - غَيْرَ عاصِمٍ -: "وَخُفْيَةً"؛ بِضَمِّ الخاءِ؛ وقَرَأ عاصِمٌ - في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -: "وَخِفْيَةً"؛ بِكَسْرِ الخاءِ؛ وقَرَأ الأعْمَشُ: "وَخِيفَةً"؛ مِن "اَلْخَوْفُ"؛ وقَرَأ الحِجازِيُّونَ؛ وأهْلُ الشامِ: "أنْجَيْتَنا"؛ وقَرَأ الكُوفِيُّونَ: "أنْجانا"؛ عَلى ذِكْرِ الغائِبِ؛ وأمالَ حَمْزَةُ ؛ والكِسائِيُّ الجِيمَ؛ و"مِنَ الشاكِرِينَ"؛ أيْ: عَلى الحَقِيقَةِ؛ والشُكْرُ عَلى الحَقِيقَةِ يَتَضَمَّنُ الإيمانَ؛ وحَكى الطَبَرِيُّ - في قَوْلِهِ: "ظُلُماتِ" - أنَّهُ ضَلالُ الطُرُقِ في الظُلُماتِ؛ ونَحْوُهُ؛ وحَكى السُدِّيُّ أنَّهُ ظَلامُ اللَيْلِ؛ والغَيْمِ؛ والبَحْرِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا التَخْصِيصُ كُلُّهُ لا وجْهَ لَهُ؛ وإنَّما هو لَفْظٌ عامٌّ لِأنْواعِ الشَدائِدِ في المَعْنى؛ وخُصَّ لَفْظُ "اَلظُّلُماتِ"؛ بِالذِكْرِ؛ لِما تَقَرَّرَ في النُفُوسِ مِن هَوْلِ الظُلْمَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ﴾ ؛ سَبَقَ في المُجادَلَةِ إلى الجَوابِ؛ إذْ لا مَحِيدَ عنهُ؛ ﴿وَمِن كُلِّ كَرْبٍ﴾ ؛ لَفْظٌ عامٌّ أيْضًا؛ لِيَتَّضِحَ العُمُومُ الَّذِي في الظُلُماتِ؛ ويَصِحُّ أنْ يُتَأوَّلَ مِن قَوْلِهِ: ﴿وَمِن كُلِّ كَرْبٍ﴾ ؛ تَخْصِيصُ الظُلُماتِ قَبْلُ؛ ونُصَّ عَلَيْها لِهَوْلِها؛ وعُطِفَ في هَذا المَوْضِعِ بِـ "ثُمَّ"؛ لِلْمُهْلَةِ الَّتِي تُبَيِّنُ قُبْحَ فِعْلِهِمْ؛ أيْ: "ثُمَّ بَعْدَ مَعْرِفَتِكم بِهَذا كُلِّهِ وتَحَقُّقِهِ بِهِ أنْتُمْ تُشْرِكُونَ".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب