الباحث القرآني

(p-٣٦٥)قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿قُلْ لا أقُولُ لَكم عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ ولا أعْلَمُ الغَيْبَ ولا أقُولُ لَكم إنِّي مَلَكٌ إنْ أتَّبِعُ إلا ما يُوحى إلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمى والبَصِيرُ أفَلا تَتَفَكَّرُونَ﴾ ﴿وَأنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أنْ يُحْشَرُوا إلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهم مِن دُونِهِ ولِيٌّ ولا شَفِيعٌ لَعَلَّهم يَتَّقُونَ﴾ هَذا مِنَ الرَدِّ عَلى القائِلِينَ: "لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ"؛ والطالِبِينَ أنْ يُنْزَلَ مَلَكٌ؛ أو تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ؛ أو أكْثَرُ؛ أو نَحْوَ هَذا؛ والمَعْنى: "لَسْتُ بِهَذِهِ الصِفاتِ؛ فَيَلْزَمُنِي أنْ أُجِيبَكم بِاقْتِراحاتِكُمْ". وقَوْلُهُ: ﴿لا أقُولُ لَكم عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ ولا أعْلَمُ الغَيْبَ﴾ ؛ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ؛ أظْهَرُهُما أنَّهُ يُرِيدُ أنَّهُ بَشَرٌ؛ لا شَيْءَ عِنْدَهُ مِن خَزائِنِ اللهِ تَعالى ؛ ولا مِن قُدْرَتِهِ؛ ولا يَعْلَمُ شَيْئًا مِمّا غُيِّبَ عنهُ؛ والآخَرُ أنَّهُ لَيْسَ بِإلَهٍ؛ فَكَأنَّهُ قالَ: "لا أقُولُ لَكُمْ: إنِّي أتَّصِفُ بِأوصافِ إلَهٍ؛ في أنَّ عِنْدِي خَزائِنَهُ؛ وأنِّي أعْلَمُ الغَيْبَ"؛ وهَذا هو قَوْلُ الطَبَرِيِّ. وتُعْطِي قُوَّةُ اللَفْظِ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ المَلَكَ أفْضَلُ مِنَ البَشَرِ؛ ولَيْسَ ذَلِكَ بِلازِمٍ مِن هَذا المَوْضِعِ؛ وإنَّما الَّذِي يَلْزَمُ مِنهُ أنَّ المَلَكَ أعْظَمُ مَوْقِعًا في نُفُوسِهِمْ؛ وأقْرَبُ إلى اللهِ تَعالى ؛ والتَفْضِيلُ يُعْطِيهِ المَعْنى عَطاءً خَفِيًّا؛ وهو ظاهِرٌ مِن آياتٍ أُخَرَ؛ وهي مَسْألَةُ خِلافٍ. و"ما يُوحى"؛ يُرِيدُ: "اَلْقُرْآنَ"؛ وسائِرَ ما يَأْتِي بِهِ المَلَكُ؛ أيْ: وفي ذَلِكَ عِبَرٌ وآيَةٌ لِمَن تَأمَّلَ ونَظَرَ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿ "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي"؛﴾ اَلْآيَةَ؛ أيْ: "قُلْ لَهُمْ: إنَّهُ لا يَسْتَوِي الناظِرُ المُفَكِّرُ في الآياتِ؛ مَعَ المُعْرِضِ الكافِرِ؛ المُهْمِلِ لِلنَّظَرِ"؛ فالأعْمى والبَصِيرُ مِثالانِ لِلْمُؤْمِنِ؛ (p-٣٦٦)والكافِرِ؛ أيْ: "فَفَكِّرُوا أنْتُمْ وانْظُرُوا"؛ وجاءَ الأمْرُ بِالفِكْرَةِ في عِبارَةِ العَرْضِ والتَحْضِيضِ. و"أنْذِرْ"؛ عُطِفَ عَلى "قُلْ"؛ والنَبِيُّ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ - مَأْمُورٌ بِإنْذارِ جَمِيعِ الخَلائِقِ؛ وإنَّما وقَعَ التَحْضِيضُ هُنا بِحَسَبِ المَعْنى الَّذِي قُصِدَ؛ وذَلِكَ أنَّ فِيما تَقَدَّمَ مِنَ الآياتِ نَوْعًا مِنَ اليَأْسِ في الأغْلَبِ عن هَؤُلاءِ الكَفَرَةِ؛ الَّذِينَ قَدْ قالَ فِيهِمْ أيْضًا: ﴿أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٦] ؛ فَكَأنَّهُ قِيلَ لَهُ هُنا: "قُلْ لِهَؤُلاءِ الكَفَرَةِ المُعْرِضِينَ: كَذا.. ودَعْهم ورَأْيَهم لِأنْفُسِهِمْ؛ وأنْذِرْ بِالقُرْآنِ هَؤُلاءِ الآخَرِينَ الَّذِينَ هم مَظِنَّةُ الإيمانِ؛ وأهْلٌ لِلِانْتِفاعِ"؛ ولَمْ يُرِدْ أنَّهُ لا يُنْذِرُ سِواهُمْ؛ بَلِ الإنْذارُ العامُّ ثابِتٌ مُسْتَقِرٌّ؛ والضَمِيرُ في "بِهِ"؛ عائِدٌ عَلى "ما يُوحى"؛ و"يَخافُونَ"؛ عَلى بابِها في الخَوْفِ؛ أيْ: "اَلَّذِينَ يَخافُونَ ما تَحَقَّقُوهُ - مِن أنْ يُحْشَرُوا - ويَسْتَعِدُّونَ لِذَلِكَ؛ ورُبَّ مُتَحَقِّقٍ لِشَيْءٍ مَخُوفٍ؛ وهو - لِقِلَّةِ النَظَرِ والحَزْمِ - لا يَخافُهُ؛ ولا يَسْتَعِدُّ لَهُ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وقالَ الطَبَرِيُّ: وقِيلَ: "يَخافُونَ"؛ هُنا؛ بِمَعْنى: "يَعْلَمُونَ"؛ وهَذا غَيْرُ لازِمٍ؛ وقَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ يَخافُونَ أنْ يُحْشَرُوا إلى رَبِّهِمْ﴾ ؛ يَعُمُّ بِنَفْسِ اللَفْظِ كُلَّ مُؤْمِنٍ بِالبَعْثِ؛ مِن مُسْلِمٍ ؛ ويَهُودِيٍّ؛ ونَصْرانِيٍّ. وقَوْلُهُ: ﴿لَيْسَ لَهم مِن دُونِهِ ولِيٌّ ولا شَفِيعٌ﴾ ؛ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ؛ فَإنْ جَعَلْناهُ داخِلًا في الخَوْفِ كانَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ؛ أيْ: "يَخافُونَ أنْ يُحْشَرُوا في حالِ مَن لا ولِيَّ لَهُ؛ ولا شَفِيعَ"؛ فَهي مُخْتَصَّةٌ بِالمُؤْمِنِينَ المُسْلِمِينَ؛ ولِأنَّ اليَهُودَ والنَصارى يَزْعُمُونَ أنَّ لَهم شُفَعاءَ؛ وأنَّهم أبْناءُ اللهِ تَعالى ؛ ونَحْوَ هَذا مِنَ الأباطِيلِ؛ وإنْ جَعَلْنا قَوْلَهُ: ﴿لَيْسَ لَهم مِن دُونِهِ ولِيٌّ ولا شَفِيعٌ﴾ ؛ إخْبارًا مِنَ اللهِ تَعالى عن صِفَةِ الحالِ يَوْمَئِذٍ؛ فَهي عامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ وأهْلِ الكِتابِ؛ و"لَعَلَّهم يَتَّقُونَ"؛ تَرَجٍّ؛ عَلى حَسَبِ ما يَرى البَشَرُ؛ ويُعْطِيهِ نَظَرُهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب