الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿إنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ والمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ ﴿وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أنْ يُنَزِّلَ آيَةٌ ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿وَما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ ولا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إلا أُمَمٌ أمْثالُكم ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ هَذا مِنَ النَمَطِ المُتَقَدِّمِ في التَسْلِيَةِ؛ أيْ: "لا تَحْفَلْ بِمَن أعْرَضَ؛ فَإنَّما يَسْتَجِيبُ لِداعِي الإيمانِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الآياتِ؛ ويَتَلَقَّوْنَ البَراهِينَ بِالقَبُولِ"؛ فَعَبَّرَ عن ذَلِكَ كُلِّهِ بِـ "يَسْمَعُونَ"؛ إذْ هو طَرِيقُ العِلْمِ بِالنُبُوَّةِ؛ والآياتِ المُعْجِزَةِ؛ وهَذِهِ لَفْظَةٌ تَسْتَعْمِلُها الصُوفِيَّةُ؛ إذا بَلَغَتِ المَوْعِظَةُ مِن أحَدٍ مَبْلَغًا شافِيًا؛ قالُوا: "سَمِعَ". (p-٣٥٦)ثُمَّ قالَ تَعالى "والمَوْتى"؛ يُرِيدُ الكُفّارَ؛ فَعَبَّرَ عنهم بِضِدِّ ما عَبَّرَ عَنِ المُؤْمِنِينَ؛ وبِالصِفَةِ الَّتِي تُشْبِهُ حالَهم في العَمى عن نُورِ اللهِ تَعالى ؛ والصَمَمِ عن وعْيِ كَلِماتِهِ؛ قالَهُ مُجاهِدٌ ؛ وقَتادَةُ ؛ والحَسَنُ. و"يَبْعَثُهُمُ اللهُ"؛ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ؛ قالَ الحَسَنُ: مَعْناهُ: يَبْعَثُهُمُ اللهُ تَعالى بِأنْ يُؤْمِنُوا حِينَ يُوقِفُهُمْ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: فَتَجِيءُ الِاسْتِعارَةُ في هَذا التَأْوِيلِ؛ في الوَجْهَيْنِ؛ في تَسْمِيَتِهِمْ "مَوْتى"؛ وفي تَسْمِيَةِ إيمانِهِمْ وهِدايَتِهِمْ "بَعْثًا"؛ والواوُ عَلى هَذا مُشْرِكَةٌ في العامِلِ؛ عَطَفَتْ "والمَوْتى"؛ عَلى "اَلَّذِينَ"؛ و"يَبْعَثُهُمُ اللهُ"؛ في مَوْضِعِ الحالِ؛ وكَأنَّ مَعْنى الآيَةِ: "إنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يُرْشَدُونَ؛ حِينَ يَسْمَعُونَ؛ فَيُؤْمِنُونَ؛ والكُفّارُ حِينَ يُرْشِدُهُمُ اللهُ تَعالى بِمَشِيئَتِهِ؛ فَلا تَتَأسَّفْ أنْتَ؛ ولا تَسْتَعْجِلْ ما لَمْ يُقَدَّرْ". وقَرَأ الحَسَنُ: "ثُمَّ إلَيْهِ يَرْجِعُونَ"؛ فَتَناسَبَتِ الآيَةُ؛ وقالَ مُجاهِدٌ ؛ وقَتادَةُ: "والمَوْتى": يُرِيدُ: "اَلْكُفّارُ"؛ أيْ: "هم بِمَثابَةِ المَوْتى حِينَ لا يَرَوْنَ هُدًى؛ ولا يَسْمَعُونَ فَيَعُونَ"؛ و"يَبْعَثُهُمُ اللهُ"؛ أيْ: "يَحْشُرُهم يَوْمَ القِيامَةِ"؛ "ثُمَّ إلَيْهِ"؛ أيْ: "إلى سَطْوَتِهِ؛ وعِقابِهِ؛ يُرْجَعُونَ"؛ وقَرَأتْ هَذِهِ الطائِفَةُ "يُرْجَعُونَ"؛ بِياءٍ؛ والواوُ عَلى هَذا عاطِفَةُ جُمْلَةِ كَلامٍ عَلى جُمْلَةٍ؛ و"اَلْمَوْتى"؛ مُبْتَدَأٌ؛ و"يَبْعَثُهُمُ اللهُ"؛ خَبَرُهُ؛ فَكَأنَّ مَعْنى الآيَةِ: "إنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ فَيَعُونَ؛ والكُفّارُ سَيَبْعَثُهُمُ اللهُ تَعالى ؛ ويَرُدُّهم إلى عِقابِهِ"؛ فالآيَةُ عَلى هَذا مُتَضَمِّنَةٌ الوَعِيدَ لِلْكُفّارِ؛ والعائِدُ عَلى "اَلَّذِينَ"؛ هو الضَمِيرُ في "يَسْمَعُونَ"؛ والضَمِيرُ في "وَقالُوا"؛ عائِدٌ عَلى الكُفّارِ؛ و"لَوْلا"؛ تَحْضِيضٌ بِمَعْنى: "هَلّا"؛ قالَ الشاعِرُ: ؎ تَعُدُّونَ عَقْرَ النِيبِ أفْضَلَ مَجْدِكم ∗∗∗ بَنِي ضَوْطَرى لَوْلا الكَمِيَّ المُقَنَّعا (p-٣٥٧)وَمَعْنى الآيَةِ: "هَلّا أُنْزِلَ عَلى مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ - بَيانٌ واضِحٌ؛ لا يَقَعُ مَعَهُ تَوَقُّفٌ مِن أحَدٍ؛ كَمَلَكٍ يَشْهَدُ لَهُ؛ أو أكْثَرَ - أو غَيْرِ ذَلِكَ مِن تَشَطُّطِهِمُ المَحْفُوظِ في هَذا -؟"؛ فَأُمِرَ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ - بِالرَدِّ عَلَيْهِمْ بِأنَّ اللهَ - عَزَّ وجَلَّ - لَهُ القُدْرَةُ عَلى إنْزالِ تِلْكَ الآيَةِ؛ ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ أنَّها لَوْ نَزَلَتْ؛ ولَمْ يُؤْمِنُوا؛ لَعُوجِلُوا بِالعَذابِ؛ ويَحْتَمِلُ ﴿وَلَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ ؛ أنَّ اللهَ تَعالى إنَّما جَعَلَ المَصْلَحَةَ في آياتٍ مُعَرَّضَةٍ لِلنَّظَرِ؛ والتَأمُّلِ؛ لِيَهْتَدِيَ قَوْمٌ؛ ويَضِلَّ آخَرُونَ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وَما مِن دابَّةٍ﴾ ؛ اَلْآيَةَ: اَلْمَعْنى في هَذِهِ الآيَةِ التَنْبِيهُ عَلى آياتِ اللهِ تَعالى المَوْجُودَةِ في أنْواعِ مَخْلُوقاتِهِ؛ أيْ: "قُلْ لَهُمْ: إنَّ اللهَ تَعالى قادِرٌ عَلى أنْ يُنَزِّلَ آيَةً؛ إلّا أنَّكم لا تَعْلَمُونَ وجْهَ الحِكْمَةِ في ألّا يُنَزِّلَ آيَةً مُجَهَّزَةً؛ وإنَّما يُحِيلُ عَلى الآياتِ المَنصُوبَةِ لِمَن فَكَّرَ واعْتَبَرَ؛ كالدَوابِّ؛ والطَيْرِ الَّتِي قَدْ حَصَرَتْ جَمِيعَ الحَيَوانِ؛ وهي أُمَمٌ؛ أيْ جَماعاتٌ مُماثِلَةٌ لِلنّاسِ في الخَلْقِ؛ والرِزْقِ؛ والحَياةِ؛ والمَوْتِ؛ والحَشْرِ"؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِالمُماثَلَةِ أنَّها في كَوْنِها أُمَمًا؛ لا غَيْرُ؛ كَما تُرِيدُ بِقَوْلِكَ: "مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مِثْلِكَ"؛ أيْ: في أنَّهُ رَجُلٌ؛ ويَصِحُّ في غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأوصافِ؛ إلّا أنَّ الفائِدَةَ في هَذِهِ الآيَةِ إنَّما تَقَعُ بِأنْ تَكُونَ المُماثَلَةُ في أوصافٍ غَيْرِ كَوْنِها أُمَمًا؛ قالَ الطَبَرِيُّ ؛ وغَيْرُهُ: والمُماثَلَةُ في أنَّها يُهْتَبَلُ بِأعْمالِها؛ وتُحاسَبُ؛ ويُقْتَصُّ لِبَعْضِها مِن بَعْضٍ؛ عَلى ما رُوِيَ في الأحادِيثِ؛ أيْ: فَإذا كانَ يَفْعَلُ هَذا بِالبَهائِمِ؛ فَأنْتُمْ أحْرى؛ إذْ أنْتُمْ مُكَلَّفُونَ عُقَلاءُ؛ ورَوى أبُو ذَرٍّ «أنَّهُ انْتَطَحَتْ عنزانِ بِحَضْرَةِ النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَقالَ: "أتَعْلَمُونَ فِيمَ انْتَطَحَتا؟"؛ قُلْنا: لا؛ قالَ: "فَإنَّ اللهَ يَعْلَمُ؛ وسَيَقْضِي بَيْنَهُما"؛» وقَدْ قالَ مَكِّيٌّ: "اَلْمُماثَلَةُ في أنَّها تَعْرِفُ اللهَ تَعالى ؛ وتَعْبُدُهُ"؛ وهَذا قَوْلُ خُلْفٍ. (p-٣٥٨)وَ"دابَّةٌ"؛ وزْنُها: "فاعِلَةٌ"؛ وهي صِفَةٌ وُضِعَتْ مَوْضِعَ الِاسْمِ؛ كَما قالُوا: " اَلْأعْرَجُ "؛ و"اَلْأبْرَقُ"؛ وأُزِيلَ مِنهُ مَعْنى الصِفَةِ؛ ولَيْسَتْ بِالصِفَةِ الغالِبَةِ في قَوْلِنا: " اَلْعَبّاسُ "؛ و"اَلْحارِثُ "؛ لِأنَّ مَعْنى الصِفَةِ باقٍ في الصِفَةِ الغالِبَةِ. وقَرَأتْ طائِفَةٌ: "وَلا طائِرٍ"؛ عَطْفًا عَلى اللَفْظِ؛ وقَرَأ إبْراهِيمُ بْنُ أبِي عَبْلَةَ: "وَلا طائِرٌ"؛ بِالرَفْعِ؛ عَطْفًا عَلى المَعْنى؛ وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "وَلا طَيْرٍ"؛ وهو جَمْعُ "طائِرٌ". وقَوْلُهُ: ﴿ "بِجَناحَيْهِ"؛﴾ تَأْكِيدٌ؛ وبَيانٌ؛ وإزالَةٌ لِلِاسْتِعارَةِ المُتَعاهَدَةِ في هَذِهِ اللَفْظَةِ؛ فَقَدْ يُقالُ: "طائِرُ السَعْدِ؛ والنَحْسِ"؛ وقالَ تَعالى ﴿ألْزَمْناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: ١٣] ؛ أيْ: عَمَلَهُ؛ ويُقالُ: "طارَ لِفُلانٍ طائِرُ كَذا"؛ أيْ: سَهْمُهُ في المُقْتَسَماتِ؛ فَقَوْلُهُ تَعالى "بِجَناحَيْهِ"؛ إخْراجٌ لِلطّائِرِ عن هَذا كُلِّهِ. وقَرَأ عَلْقَمَةُ ؛ وابْنُ هُرْمُزٍ: "فَرَطْنا في الكِتابِ"؛ بِتَخْفِيفِ الراءِ؛ والمَعْنى واحِدٌ؛ وقالَ النَقّاشُ: "فَرَطْنا" - مُخَفَّفَةً -: أخَّرْنا؛ كَما قالُوا: "فَرَطَ اللهُ عنكَ المَرَضَ"؛ أيْ: أزالَهُ؛ والأوَّلُ أصْوَبُ؛ والتَفْرِيطُ: اَلتَّقْصِيرُ في الشَيْءِ؛ مَعَ القُدْرَةِ عَلى تَرْكِ التَقْصِيرِ؛ و"اَلْكِتابُ": اَلْقُرْآنُ؛ وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ نِظامُ المَعْنى في هَذِهِ الآياتِ؛ وقِيلَ: اَللَّوْحُ المَحْفُوظُ؛ و"مِن شَيْءٍ" - عَلى هَذا القَوْلِ - عامٌّ في جَمِيعِ الأشْياءِ؛ وعَلى القَوْلِ بِأنَّهُ القُرْآنُ؛ خاصٌّ في الأشْياءِ الَّتِي فِيها مَنافِعُ لِلْمُخاطَبِينَ؛ وطَرائِقُ هِدايَتِهِمْ؛ و"يُحْشَرُونَ": قالَتْ فِرْقَةٌ: حَشْرُ البَهائِمِ: مَوْتُها؛ وقالَتْ فِرْقَةٌ: حَشْرُها: بَعْثُها؛ واحْتَجُّوا بِالأحادِيثِ المُضَمَّنَةِ أنَّ اللهَ تَعالى يَقْتَصُّ لِلْجَمّاءِ مِنَ القَرْناءِ؛ [والقَوْلُ في الأحادِيثِ المُتَضَمِّنَةِ أنَّ اللهَ تَعالى يَقْتَصُّ لِلْجَمّاءِ مِنَ القَرْناءِ]: "إنَّما هي كِنايَةٌ عَنِ العَدْلِ؛ ولَيْسَتْ بِحَقِيقَةٍ"؛ فَهو قَوْلٌ مَرْدُودٌ؛ يَنْحُو إلى القَوْلِ بِالرُمُوزِ؛ ونَحْوِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب