الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَهم يَنْهَوْنَ عنهُ ويَنْأونَ عنهُ وإنْ يُهْلِكُونَ إلا أنْفُسَهم وما يَشْعُرُونَ﴾ ﴿وَلَوْ تَرى إذْ وُقِفُوا عَلى النارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ ولا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ونَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ اَلضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: "وَهُمْ"؛ عائِدٌ عَلى المَذْكُورِينَ قَبْلُ؛ والضَمِيرُ في "عنهُ"؛ قالَ قَتادَةُ ؛ ومُجاهِدٌ: يَعُودُ عَلى القُرْآنِ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ في قَوْلِهِ: "أنْ يَفْقَهُوهُ"؛ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ؛ وابْنُ الحَنَفِيَّةِ ؛ والضَحّاكُ: هو عائِدٌ عَلى مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ -؛ والمَعْنى أنَّهم يَنْهَوْنَ غَيْرَهُمْ؛ ويَبْعُدُونَ هم بِأنْفُسِهِمْ؛ و"اَلنَّأْيُ": اَلْبُعْدُ. "وَإنْ يُهْلِكُونَ"؛ مَعْناهُ: ما يُهْلِكُونَ إلّا أنْفُسَهم بِالكُفْرِ الَّذِي يُدْخِلُهم جَهَنَّمَ؛ وقالَ ابْنُ (p-٣٤٠)عَبّاسٍ أيْضًا؛ والقاسِمُ ؛ وحَبِيبُ بْنُ أبِي ثابِتٍ؛ وعَطاءُ بْنُ دِينارٍ: اَلْمُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَهم يَنْهَوْنَ عنهُ﴾ ؛ أبُو طالِبٍ؛ ومَن كانَ مَعَهُ؛ عَلى حِمايَةِ رَسُولِ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ وعَلى الدَوامِ في الكُفْرِ؛ والمَعْنى: "وَهم يَنْهَوْنَ عنهُ مَن يُرِيدُ إذايَتَهُ؛ ويَنْأونَ عنهُ بِإيمانِهِمْ؛ واتِّباعِهِمْ؛ فَهم يَفْعَلُونَ الشَيْءَ وخِلافَهُ"؛ ويُقْلِقُ هَذا القَوْلَ رَدُّ قَوْلِهِ: "وَهُمْ"؛ عَلى جَماعَةِ الكُفّارِ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُها؛ لِأنَّ جَمِيعَهم لَمْ يَكُنْ يَنْهى عن إذايَةِ النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ويُتَخَرَّجُ ذَلِكَ؛ ويَحْسُنُ عَلى أنْ تُقَدِّرَ القَصْدَ ذِكْرَ ما يُنْعى عَلى فَرِيقٍ مِنَ الجَماعَةِ الَّتِي هي كُلُّها مُجْمِعَةٌ عَلى الكُفْرِ؛ فَخَرَجَتِ العِبارَةُ عن فَرِيقٍ مِنَ الجَماعَةِ بِلَفْظٍ يَعُمُّ الجَماعَةَ؛ لِأنَّ التَوْبِيخَ عَلى هَذِهِ الصُورَةِ أغْلَظُ عَلَيْهِمْ؛ كَما تَقُولُ - إذا شَنَّعْتَ عَلى جَماعَةٍ فِيها زُناةٌ؛ وسَرَقَةٌ؛ وشَرَبَةُ خَمْرٍ -: "هَؤُلاءِ يَزْنُونَ؛ ويَسْرِقُونَ؛ ويَشْرَبُونَ الخَمْرَ"؛ وحَقِيقَةُ كَلامِكَ أنَّ بَعْضَهم يَفْعَلُ هَذا؛ وبَعْضَهم يَفْعَلُ هَذا؛ فَكَأنَّهُ قالَ: "مِن هَؤُلاءِ الكَفَرَةِ مَن يَسْتَمِعُ وهم يَنْهَوْنَ عن إذايَتِهِ؛ ولا يُؤْمِنُونَ بِهِ"؛ أيْ: "مِنهم مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ". "وَما يَشْعُرُونَ"؛ مَعْناهُ: "ما يَعْلَمُونَ عِلْمَ حِسٍّ"؛ وهو مَأْخُوذٌ مِن "اَلشِّعارُ"؛ اَلَّذِي يَلِي بَدَنَ الإنْسانِ؛ و"اَلشِّعارُ": مَأْخُوذٌ مِن "اَلشَّعْرُ"؛ ونَفْيُ الشُعُورِ مَذَمَّةٌ بالِغَةٌ؛ إذِ البَهائِمُ تَشْعُرُ؛ وتُحِسُّ؛ فَإذا قُلْتَ: "فُلانٌ لا يَشْعُرُ"؛ فَقَدْ نَفَيْتَ عنهُ العِلْمَ؛ النَفْيَ العامَّ الَّذِي يَقْتَضِي أنَّهُ لا يَعْلَمُ؛ ولا المَحْسُوساتِ. (p-٣٤١)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وقَرَأ الحَسَنُ: "وَيَنَوْنَ عنهُ"؛ أُلْقِيَتْ حَرَكَةُ الهَمْزَةِ عَلى النُونِ؛ عَلى التَسْهِيلِ القِياسِيِّ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وَلَوْ تَرى إذْ وُقِفُوا عَلى النارِ﴾ ؛ اَلْآيَةَ: اَلْمُخاطَبَةُ فِيهِ لِمُحَمَّدٍ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ وجَوابُ "وَلَوْ" مَحْذُوفٌ؛ تَقْدِيرُهُ في آخِرِ هَذِهِ الآيَةِ: "لَرَأيْتَ هَوْلًا؛ أو مَشَقّاتٍ"؛ أو نَحْوُ هَذا؛ وحَذْفُ جَوابِها في مِثْلِ هَذا أبْلَغُ؛ لِأنَّ المُخاطَبَ يُتْرَكُ مَعَ غايَةِ تَخَيُّلِهِ. ووَقَعَتْ "إذْ"؛ في مَوْضِعِ "إذا"؛ اَلَّتِي هي لِما يُسْتَقْبَلْ؛ وجازَ ذَلِكَ لِأنَّ الأمْرَ المُتَيَقَّنَ وُقُوعُهُ يُعَبَّرُ عنهُ كَما يُعَبَّرُ عَنِ الماضِي الوُقُوعِ؛ و"وُقِفُوا"؛ مَعْناهُ: "حُبِسُوا"؛ ولَفْظُ هَذا الفِعْلِ مُتَعَدِّيًا؛ وغَيْرَ مُتَعَدٍّ؛ سَواءٌ؛ تَقُولُ: "وَقَفْتُ أنا"؛ و"وَقَفْتُ غَيْرِي"؛ وقالَ الزَهْراوِيُّ: وقَدْ فُرِّقَ بَيْنَهُما بِالمَصْدَرِ؛ فَفي المُتَعَدِّي: "وَقَفْتُهُ وقْفًا"؛ وفي غَيْرِ المُتَعَدِّي: "وَقَفْتُ وُقُوفًا"؛ قالَ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ: لَمْ أسْمَعْ في شَيْءٍ مِن كَلامِ العَرَبِ "أوقَفْتُ فُلانًا"؛ إلّا أنِّي لَوْ لَقِيتُ رَجُلًا واقِفًا؛ فَقُلْتُ لَهُ: "ما أوقَفَكَ هَهُنا؟"؛ لَكانَ عِنْدِي حَسَنًا؛ ويَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: ﴿وُقِفُوا عَلى النارِ﴾ ؛ أنْ يَكُونَ: "دَخَلُوها"؛ فَكانَ وُقُوفُهم عَلَيْها؛ أيْ: فِيها؛ قالَهُ الطَبَرِيُّ ؛ ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ: "أشْرَفُوا عَلَيْها؛ وعايَنُوها". وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ؛ ونافِعٌ ؛ وأبُو عَمْرٍو ؛ والكِسائِيُّ ؛ وعاصِمٌ - في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -: "وَلا نُكَذِّبُ"؛ "وَنَكُونُ"؛ بِالرَفْعِ في كُلِّها؛ وذَلِكَ عَلى نِيَّةِ الِاسْتِئْنافِ والقَطْعِ في قَوْلِهِ: "وَلا نُكَذِّبُ"؛ و"وَنَكُونُ" أيْ: "يا لَيْتَنا نُرَدُّ؛ ونَحْنُ عَلى كُلِّ حالٍ لا نُكَذِّبُ؛ ونَكُونُ"؛ فَأخْبَرُوا أنْفُسَهم بِهَذا؛ ولِهَذا الإخْبارِ صَحَّ تَكْذِيبُهم بَعْدَ هَذا؛ ورَجَّحَ هَذا سِيبَوَيْهِ ؛ ومَثَّلَهُ بِقَوْلِكَ: "دَعْنِي؛ ولا أعُودُ"؛ أيْ: "وَأنا لا أعُودُ عَلى كُلِّ حالٍ"؛ ويُخْرَجُ ذَلِكَ عَلى قَوْلٍ آخَرَ؛ وهو أنْ يَكُونَ: "وَلا نُكَذِّبُ"؛ و"وَنَكُونُ"؛ داخِلًا في التَمَنِّي؛ عَلى حَدِّ ما دَخَلَتْ فِيهِ "نُرَدُّ"؛ كَأنَّهم قالُوا: "يا لَيْتَنا نُرَدُّ؛ ولَيْتَنا لا نُكَذِّبُ؛ ولَيْتَنا نَكُونُ"؛ ويُعْتَرَضُ هَذا التَأْوِيلُ بِأنَّ مَن تَمَنّى شَيْئًا لا يُقالُ: "إنَّهُ كاذِبٌ"؛ وإنَّما يَكْذِبُ مَن أخْبَرَ. (p-٣٤٢)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ويُنْفَصَلُ عن هَذا الِاعْتِراضِ بِأنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿وَإنَّهم لَكاذِبُونَ﴾ [الأنعام: ٢٨] ؛ حِكايَةً عن حالِهِمْ في الدُنْيا؛ كَلامًا مَقْطُوعًا مِمّا قَبْلَهُ؛ وبِوَجْهٍ آخَرَ؛ وهو أنَّ المُتَمَنِّيَ إذا كانَتْ سَجِيَّتُهُ وطَرِيقَتُهُ مُخالِفَةً لِما تَمَنّى؛ بَعِيدَةً مِنهُ؛ يَصِحُّ أنْ يُقالَ لَهُ: "كَذَبْتَ"؛ عَلى تَجَوُّزٍ؛ وذَلِكَ أنَّ مَن تَمَنّى شَيْئًا فَتَمَنِّيهِ يَتَضَمَّنُ إخْبارًا أنَّ تِلْكَ الأُمْنِيَّةَ تَصْلُحُ لَهُ؛ ويَصْلُحُ لَها؛ فَيَقَعُ التَكْذِيبُ في ذَلِكَ الإخْبارِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ التَمَنِّي؛ ومِثالُ ذَلِكَ أنْ يَقُولَ رَجُلٌ شِرِّيرٌ: "لَيْتَنِي أحُجُّ؛ وأُجاهِدُ؛ وأقُومُ اللَيْلَ"؛ فَجائِزٌ أنْ يُقالَ لِهَذا - عَلى تَجَوُّزٍ -: "كَذَبْتَ"؛ أيْ: "أنْتَ لا تَصْلُحُ لِهَذا؛ ولا يَصْلُحُ لَكَ". ورُوِيَ عن أبِي عَمْرٍو أنَّهُ أدْغَمَ باءَ "نُكَذِّبَ"؛ في الباءِ الَّتِي بَعْدَها؛ وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ ؛ وحَمْزَةُ ؛ وعاصِمٌ - في رِوايَةِ حَفْصٍ -: "وَلا نُكَذِّبَ"؛ و"وَنَكُونَ"؛ بِنَصْبِ الفِعْلَيْنِ؛ وذَلِكَ كَما تَنْصِبُ الفاءُ في جَوابِ التَمَنِّي؛ فالواوُ في ذَلِكَ؛ والفاءُ؛ بِمَنزِلَةٍ؛ وهَذا عَلى تَقْدِيرِ ذِكْرِ مَصْدَرِ الفِعْلِ الأوَّلِ؛ كَأنَّهم قالُوا: "يا لَيْتَنا كانَ لَنا رَدٌّ؛ وعَدَمُ تَكْذِيبٍ؛ وكَوْنٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ"؛ وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ - في رِوايَةِ هِشامِ بْنِ عَمّارٍ ؛ عن أصْحابِهِ؛ عَنِ ابْنِ عامِرٍ -: "وَلا نُكَذِّبُ"؛ بِالرَفْعِ؛ "وَنَكُونَ"؛ بِالنَصْبِ؛ ويُتَوَجَّهُ ذَلِكَ عَلى ما تَقَدَّمَ في مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ: "يا لَيْتَنا نُرَدُّ فَلا نُكَذِّبُ بِآياتِ رَبِّنا وتَكُونَ"؛ بِالتاءِ؛ وفي قِراءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "يا لَيْتَنا نُرَدُّ فَلا نُكَذِّبُ بِآياتِ رَبِّنا أبَدًا ونَكُونَ"؛ وحَكى أبُو عَمْرٍو أنَّ في قِراءَةِ أُبَيٍّ: "بِآياتِ رَبِّنا ونَحْنُ نَكُونُ". وقَوْلُهُ: "نُرَدُّ"؛ في هَذِهِ الأقْوالِ كُلِّها؛ مَعْناهُ: إلى الدُنْيا؛ وحَكى الطَبَرِيُّ تَأْوِيلًا آخَرَ؛ وهُوَ: "يا لَيْتَنا نُرَدُّ إلى الآخِرَةِ"؛ أيْ: "نُبْعَثُ؛ ونُوقَفُ عَلى النارِ الَّتِي وقَفْنا عَلَيْها مُكَذِّبِينَ؛ لَيْتَ ذَلِكَ ونَحْنُ في حالَةٍ لا نُكَذِّبُ؛ ونَكُونُ"؛ فالمَعْنى: "يا لَيْتَنا نُوقَفُ هَذا الوُقُوفَ غَيْرَ مُكَذِّبِينَ بِآياتِ رَبِّنا كائِنِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا التَأْوِيلُ يَضْعُفُ مِن غَيْرِ وجْهٍ؛ ويُبْطِلُهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا (p-٣٤٣)عنهُ﴾ [الأنعام: ٢٨] ؛ ولا يَصِحُّ أيْضًا التَكْذِيبُ في هَذا التَمَنِّي؛ لِأنَّهُ تَمَنِّي ما قَدْ مَضى؛ وإنَّما يَصِحُّ التَكْذِيبُ الَّذِي ذَكَرْناهُ قَبْلَ هَذا عَلى تَجَوُّزٍ في تَمَنِّي المُسْتَقْبَلاتِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب