الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَإنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إلا هو وإنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ﴿وَهُوَ القاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وهو الحَكِيمُ الخَبِيرُ﴾ "يَمْسَسْكَ"؛ مَعْناهُ: "يُصِبْكَ؛ ويَنَلْكَ"؛ وحَقِيقَةُ المَسِّ هي بِتَلاقِي جِسْمَيْنِ؛ فَكَأنَّ الإنْسانَ والضُرَّ يَتَماسّانِ. والضُرُّ - بِضَمِّ الضادِ -: سُوءُ الحالِ في الجِسْمِ؛ وغَيْرِهِ؛ والضَرُّ - بِفَتْحِ الضادِ -: ضِدُّ النَفْعِ؛ ونابَ الضُرُّ في هَذِهِ الآيَةِ مَنابَ الشَرِّ - وإنْ كانَ الشَرُّ أعَمَّ مِنهُ -؛ فَقابَلَ الخَيْرَ؛ وهَذا مِنَ الفَصاحَةِ عُدُولٌ عن قانُونِ التَكَلُّفِ والصَنْعَةِ؛ فَإنَّ بابَ التَكَلُّفِ وتَرْصِيعِ الكَلامِ أنْ يَكُونَ الشَيْءُ مُقْتَرِنًا بِالَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ؛ بِنَوْعٍ مِن أنْواعِ الِاخْتِصاصِ؛ مُوافَقَةً؛ أو مُضادَّةً؛ فَمِن ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿إنَّ لَكَ ألا تَجُوعَ فِيها ولا تَعْرى﴾ [طه: ١١٨] ﴿وَأنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيها ولا تَضْحى﴾ [طه: ١١٩] ؛ فَجَعَلَ الجُوعَ مَعَ العُرْيِ؛ وبابُهُ أنْ يَكُونَ مَعَ الظَمَإ؛ ومِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: ؎ كَأنِّيَ لَمْ أرْكَبْ جَوادًا لِلَذَّةٍ ∗∗∗ ولَمْ أتَبَطَّنْ كاعِبًا ذاتَ خَلْخالِ ؎ ولَمْ أسْبَإ الزِقَّ الرَوِيَّ ولَمْ أقُلْ ∗∗∗ ∗∗∗ لِخَيْلِيَ كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إجْفالِ (p-٣٢٧)وَهَذا كَثِيرٌ. قالَ السُدِّيُّ: اَلضُّرُّ هَهُنا: اَلْمَرَضُ؛ والخَيْرُ: اَلْعافِيَةُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا مِثالٌ؛ ومَعْنى الآيَةِ الإخْبارُ عن أنَّ الأشْياءَ كُلَّها بِيَدِ اللهِ؛ إنْ ضَرَّ فَلا كاشِفَ لِضُرِّهِ غَيْرُهُ؛ وإنْ أصابَ بِخَيْرٍ فَكَذَلِكَ أيْضًا لا رادَّ لَهُ؛ ولا مانِعَ مِنهُ؛ هَذا تَقْرِيرُ الكَلامِ؛ ولَكِنْ وضَعَ بَدَلَ هَذا المُقَدَّرِ لَفْظًا أعَمَّ مِنهُ؛ يَسْتَوْعِبُهُ وغَيْرَهُ؛ وهو قَوْلُهُ: ﴿عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ؛ ودَلَّ ظاهِرُ الكَلامِ عَلى المُقَدَّرِ فِيهِ؛ وقَوْلُهُ: ﴿عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ؛ أيْ: عَلى كُلِّ شَيْءٍ جائِزٍ أنْ يُوصَفَ اللهُ تَعالى بِالقُدْرَةِ عَلَيْهِ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وَهُوَ القاهِرُ﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ أيْ وهو - عَزَّ وجَلَّ - المُسْتَوْلِي المُقْتَدِرُ؛ و"فَوْقَ"؛ نُصِبَ عَلى الظَرْفِ؛ لا في المَكانِ؛ بَلْ في المَعْنى الَّذِي تَضَمَّنَهُ لَفْظُ "اَلْقاهِرُ"؛ كَما تَقُولُ: "زِيدٌ فَوْقَ عَمْرٍو في المَنزِلَةِ"؛ وحَقِيقَةُ "فَوْقَ"؛ في الأماكِنِ؛ وهي في المَعانِي مُسْتَعارَةٌ؛ شُبِّهَ بِها مَن هو أرْفَعُ رُتْبَةً في مَعْنًى ما؛ لَمّا كانَتْ في الأماكِنِ تُنْبِئُ حَقِيقَةً عَنِ (p-٣٢٨)الأرْفَعِ؛ وحَكى المَهْدَوِيُّ أنَّها بِتَقْدِيرِ الحالِ؛ كَأنَّهُ قالَ: "وَهُوَ القاهِرُ غالِبًا". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا لا يَسْلَمُ مِنَ الاعْتِراضِ أيْضًا؛ والأوَّلُ عِنْدِي أصْوَبُ. والعِبادُ: بِمَعْنى: "اَلْعَبِيدُ"؛ وهُما جَمْعانِ لِـ "اَلْعَبْدُ"؛ أما إنّا نَجِدُ وُرُودَ لَفْظَةِ "اَلْعِبادُ"؛ في القُرْآنِ؛ وغَيْرِهِ؛ في مَواضِعِ تَفْخِيمٍ؛ أو تَرْفِيعٍ؛ أو كَرامَةٍ؛ ووُرُودُ لَفْظَةِ "اَلْعَبِيدُ"؛ في تَحْقِيرٍ؛ أوِ اسْتِضْعافٍ؛ أو تَصَدِّي ذَمٍّ؛ ألا تَرى قَوْلَ امْرِئِ القَيْسِ: ؎ قُولا لِدُودانَ عَبِيدِ العَصا ∗∗∗ ∗∗∗................ ولا يَسْتَقِيمُ أنْ يُقالَ هُنا: عِبادُ العَصا؛ وكَذَلِكَ الَّذِينَ سُمُّوا "اَلْعِبادَ"؛ لا يَسْتَقِيمُ أنْ يُقالَ لَهُمْ: "اَلْعَبِيدُ"؛ لِأنَّهم أفْخَمُ مِن ذَلِكَ؛ وكَذَلِكَ قَوْلُ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -: "وَهَلْ أنْتُمْ إلّا عَبِيدٌ لِأبِي؟"؛ لا يَسْتَقِيمُ فِيهِ "عِبادٌ". (p-٣٢٩)وَ"اَلْحَكِيمُ"؛ بِمَعْنى "اَلْمُحْكِمُ"؛ و"اَلْخَبِيرُ"؛ دالَّةٌ عَلى مُبالَغَةِ العِلْمِ؛ وهُما وصْفانِ مُناسِبانِ لِنَمَطِ الآيَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب