الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿فَإنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكم ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ولا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ﴾ ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكم مِن عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إنْ تَتَّبِعُونَ إلا الظَنَّ وإنْ أنْتُمْ إلا تَخْرُصُونَ﴾ يُرِيدُ: "فَإنْ كَذَّبُوكَ فِيما أخْبَرَتْ بِهِ أنَّ اللهَ تَعالى حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ؛ وقالُوا: لَمْ يُحَرِّمِ اللهُ تَعالى عَلَيْنا شَيْئًا؛ وإنَّما حَرَّمْنا ما حَرَّمَ إسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ - قالَ السُدِّيُّ: وهَذِهِ كانَتْ مَقالَتَهم - فَقُلْ (p-٤٨٦)يا مُحَمَّدُ - عَلى جِهَةِ التَعَجُّبِ مِن حالِهِمْ؛ والتَعْظِيمِ لِفِرْيَتِهِمْ في تَكْذِيبِهِمْ لَكَ؛ مَعَ عِلْمِهِمْ بِحَقِيقَةِ ما قُلْتَ -: رَبُّكم ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ؛ إذْ لا يُعاجِلُكم بِالعُقُوبَةِ؛ مَعَ شِدَّةِ جُرْمِكُمْ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا كَما تَقُولُ - عِنْدَ رُؤْيَةِ مَعْصِيَةٍ؛ أو أمْرٍ مَبْغِيٍّ -: "ما أحْلَمَ اللهَ تَعالى !"؛ وأنْتَ تُرِيدُ: "لِإمْهالِهِ عَلى مِثْلِ ذَلِكَ"؛ فَفي قَوْلِهِ تَعالى ﴿رَبُّكم ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ﴾ ؛ قُوَّةُ وصْفِهِمْ بِغايَةِ الِاجْتِرامِ؛ وشِدَّةِ الطُغْيانِ. ثُمَّ أعْقَبَ هَذِهِ المَقالَةَ بِوَعِيدٍ؛ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ﴾ ؛ فَكَأنَّهُ قالَ: "وَلا تَغْتَرُّوا أيْضًا بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ تَعالى ؛ فَإنَّ لَهُ بَأْسًا لا يُرَدُّ عَنِ المُجْرِمِينَ؛ إمّا في الدُنْيا؛ وإمّا في الآخِرَةِ"؛ وهَذِهِ الآيَةُ؛ وما جانَسَها مِن آياتِ مَكَّةَ مُرْتَفِعٌ حُكْمُهُ بِالقِتالِ؛ وأخْبَرَ اللهُ - عَزَّ وجَلَّ - نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ - أنَّ المُشْرِكِينَ سَيَحْتَجُّونَ لِصَوابِ ما هم عَلَيْهِ؛ مِن شِرْكِهِمْ؛ وتَدَيُّنِهِمْ بِتَحْرِيمِ تِلْكَ الأشْياءِ؛ بِإمْهالِ اللهِ تَعالى ؛ وتَقْرِيرِهِ حالَهُمْ؛ وأنَّهُ لَوْ شاءَ غَيْرَ ذَلِكَ لَما تَرَكَهم عَلى تِلْكَ الحالِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وبَيِّنٌ أنَّ المُشْرِكِينَ لا حُجَّةَ لَهم فِيما ذَكَرُوهُ؛ لِأنّا نَحْنُ نَقُولُ: "إنَّ اللهَ - عَزَّ وجَلَّ - لَوْ شاءَ ما أشْرَكُوا"؛ ولَكِنَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - شاءَ إشْراكَهُمْ؛ وأقْدَرَهم عَلى اكْتِسابِ الإشْراكِ؛ والمَعاصِي؛ ومَحَبَّتِهِ؛ والِاشْتِغالِ بِهِ؛ ثُمَّ عَلَّقَ العِقابَ؛ والثَوابَ عَلى تِلْكَ الأشْياءِ؛ والِاكْتِساباتِ؛ وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَواهِرُ القُرْآنِ؛ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [التوبة: ٨٢] ؛ ونَحْوِ ذَلِكَ؛ ويَلْزَمُهم عَلى احْتِجاجِهِمْ أنْ تَكُونَ كُلُّ طَرِيقَةٍ؛ وكُلُّ نِحْلَةٍ؛ صَوابًا؛ إذْ كُلُّها - لَوْ شاءَ اللهُ تَعالى - لَمْ تَكُنْ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: إنَّما هَذِهِ المَقالَةُ مِنَ المُشْرِكِينَ عَلى جِهَةِ الِاسْتِهْزاءِ؛ وهَذا ضَعِيفٌ. (p-٤٨٧)وَتَعَلَّقَتِ المُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الآيَةِ؛ فَقالَتْ: إنَّ اللهَ تَعالى قَدْ ذَمَّ لَهم هَذِهِ المَقالَةَ؛ وإنَّما ذَمَّها تَعالى لِأنَّ كُفْرَهم لَيْسَ بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعالى ؛ بَلْ هو خَلْقٌ لَهم. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ولَيْسَ الأمْرُ عَلى ما قالُوا؛ وإنَّما ذَمَّ اللهُ تَعالى ظَنَّ المُشْرِكِينَ أنَّ ما شاءَ اللهُ تَعالى لا يَقَعُ عَلَيْهِ عِقابٌ؛ وأمّا أنَّهُ ذَمَّ قَوْلَهُمْ: "لَوْلا المَشِيئَةُ لَمْ نَكْفُرْ"؛ فَلا. ثُمَّ قالَ تَعالى ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ ؛ وفي الكَلامِ حَذْفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ تَناسُقُ الكَلامِ؛ كَأنَّهُ قالَ تَعالى "سَيَقُولُ المُشْرِكُونَ كَذا؛ وكَذا؛ ولَيْسَ في ذَلِكَ حُجَّةٌ لَهُمْ؛ ولا شَيْءٌ يَقْتَضِي تَكْذِيبَهُمْ؛ ولَكِنْ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ بِنَحْوِ هَذِهِ الشُبْهَةِ؛ مِن ظَنِّهِمْ أنَّ تَرْكَ اللهِ تَعالى لَهم دَلِيلٌ عَلى رِضاهُ تَعالى بِحالِهِمْ. وفِي قَوْلِهِ تَعالى ﴿حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا﴾ وعِيدٌ بَيِّنٌ؛ ولَيْسَ في الآيَةِ رَدٌّ مَنصُوصٌ عَلى قَوْلِهِمْ: ﴿لَوْ شاءَ اللهُ ما أشْرَكْنا﴾ ؛ وإنَّما تَرَكَ الرَدَّ عَلَيْهِمْ مُقَدَّرًا في الكَلامِ؛ لِوُضُوحِهِ؛ وبَيانِهِ؛ وقَوْلُهُ تَعالى "وَلا آباؤُنا"؛ مَعْطُوفٌ عَلى الضَمِيرِ المَرْفُوعِ في "أشْرَكْنا"؛ والعَطْفُ عَلى الضَمِيرِ المَرْفُوعِ لا يَرُدُّهُ قِياسٌ؛ بِخِلافِ المَنصُوبِ؛ لَكِنَّ سِيبَوَيْهِ قَدْ قَبَّحَ العَطْفَ عَلى الضَمِيرِ المَرْفُوعِ؛ ووَجْهُ قُبْحِهِ أنَّهُ لَمّا بُنِيَ الفِعْلُ صارَ كَحَرْفٍ مِنَ الفِعْلِ؛ فَقَبُحَ العَطْفُ عَلَيْهِ؛ لِشِبْهِهِ بِالحَرْفِ؛ وذَلِكَ كَقَوْلِكَ: "قُمْتُ وزَيْدٌ"؛ لِأنَّ تَأْكِيدَهُ فِيهِ يُبَيِّنُ مَعْنى الِاسْمِيَّةِ؛ ويُذْهِبُ عنهُ شَبَهَ الحَرْفِ؛ وحَسُنَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ العَطْفُ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا﴾ ؛ لَمّا طالَ الكَلامُ؛ بِـ "لا"؛ فَكَأنَّ مَعْنى الِاسْمِيَّةِ اتَّضَحَ واقْتَضَتْ "وَلا"؛ ما يُعْطَفُ بَعْدَها. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكم مِن عِلْمٍ﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ المَعْنى: "قُلْ يا مُحَمَّدُ لِلْكَفَرَةِ: هَلْ عِنْدَكم مِن عِلْمٍ مِن قِبَلِ اللهِ تَعالى ؛ فَتُبَيِّنُوهُ؛ حَتّى تَقُومَ بِهِ الحُجَّةُ؟"؛ و"مِن"؛ في قَوْلِهِ تَعالى "مِن عِلْمٍ"؛ زائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ؛ وجاءَتْ زِيادَتُها لِأنَّ الِاسْتِفْهامَ داخِلٌ في غَيْرِ الواجِبِ. ﴿إنْ تَتَّبِعُونَ إلا الظَنَّ﴾ ؛ أيْ: لا شَيْءَ عِنْدَكم إلّا الظَنُّ؛ وهو أكْذَبُ الحَدِيثِ. (p-٤٨٨)وَقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "تَتَّبِعُونَ"؛ عَلى المُخاطَبَةِ؛ وقَرَأ إبْراهِيمُ النَخَعِيُّ ؛ وابْنُ وثّابٍ: "إنْ يَتَّبِعُونَ"؛ بِالياءِ؛ حِكايَةً عنهم. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذِهِ قِراءَةٌ شاذَّةٌ؛ يُضْعِفُها قَوْلُهُ تَعالى ﴿ "وَإنْ أنْتُمْ"؛﴾ و﴿ "تَخْرُصُونَ"؛﴾ مَعْناهُ: تُقَدِّرُونَ؛ وتَظُنُّونَ؛ وتَرْجُمُونَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب