الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿يا مَعْشَرَ الجِنِّ والإنْسِ ألَمْ يَأْتِكم رُسُلٌ مِنكم يَقُصُّونَ عَلَيْكم آياتِي ويُنْذِرُونَكم لِقاءَ يَوْمِكم هَذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أنْفُسِنا وغَرَّتْهُمُ الحَياةُ الدُنْيا وشَهِدُوا عَلى أنْفُسِهِمْ أنَّهم كانُوا كافِرِينَ﴾ ﴿ذَلِكَ أنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرى بِظُلْمٍ وأهْلُها غافِلُونَ﴾ ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا وما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ﴾ قَوْلُهُ تَعالى ﴿يا مَعْشَرَ الجِنِّ والإنْسِ﴾ ؛ داخِلٌ في القَوْلِ يَوْمَ الحَشْرِ؛ والضَمِيرُ في (p-٤٦٣)"مِنكُمْ"؛ قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عُمِّمَ بِظاهِرِهِ الطائِفَتَيْنِ؛ والمُرادُ الواحِدَةُ تَجَوُّزًا؛ وهَذا مَوْجُودٌ في كَلامِ العَرَبِ؛ ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿يَخْرُجُ مِنهُما اللُؤْلُؤُ والمَرْجانُ﴾ [الرحمن: ٢٢] ؛ وذَلِكَ إنَّما يَخْرُجُ مِنَ الأُجاجِ؛ وقالَ الضَحّاكُ: اَلضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى الطائِفَتَيْنِ؛ وفي الجِنِّ رُسُلٌ مِنهم. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا ضَعِيفٌ؛ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: اَلضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى الطائِفَتَيْنِ؛ ولَكِنَّ رُسُلَ الجِنِّ هم رُسُلُ الإنْسِ؛ فَهم رُسُلُ اللهِ تَعالى بِواسِطَةٍ؛ إذْ هم رُسُلُ رُسُلِهِ؛ وهُمُ النُذُرُ؛ و"يَقُصُّونَ"؛ مِن "اَلْقَصَصُ"؛ وقَرَأ عَبْدُ الرَحْمَنِ الأعْرَجُ: "ألَمْ تَأْتِكُمْ"؛ بِالتاءِ؛ عَلى تَأْنِيثِ لَفْظِ الرُسُلِ. وقَوْلُهُمْ: "شَهِدْنا"؛ إقْرارٌ مِنهم بِالكُفْرِ؛ واعْتِرافٌ؛ أيْ: "شَهِدْنا عَلى أنْفُسِنا بِالتَقْصِيرِ"؛ وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وَغَرَّتْهُمُ الحَياةُ الدُنْيا﴾ ؛ اِلْتِفاتَةٌ فَصِيحَةٌ تَضَمَّنَتْ أنَّ كُفْرَهم كانَ بِأذَمِّ الوُجُوهِ لَهُمْ؛ وهو الِاغْتِرارُ الَّذِي لا يُواقِعُهُ عاقِلٌ؛ ويَحْتَمِلُ "وَغَرَّتْهُمُ"؛ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى: "أشْبَعَتْهُمْ؛ وأطْعَمَتْهم بِحَلْوائِها"؛ كَما يُقالُ: "غَرَّ الطائِرُ فَرْخَهُ"؛ وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وَشَهِدُوا عَلى أنْفُسِهِمْ أنَّهم كانُوا كافِرِينَ﴾ ؛ تَظْهَرُ بَيْنَهُ وبَيْنَ ما في القُرْآنِ مِنَ الآياتِ الَّتِي تَقْتَضِي إنْكارَ المُشْرِكِينَ الإشْراكَ؛ مُناقَضَةٌ؛ والجَمْعُ بَيْنَهُما هو إمّا طَوائِفُ؛ وإمّا طائِفَةٌ واحِدَةٌ في مَواطِنَ شَتّى؛ وإمّا أنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ هَهُنا: ﴿وَشَهِدُوا عَلى أنْفُسِهِمْ﴾ ؛ شَهادَةَ الأيْدِي؛ والأرْجُلِ؛ والجُلُودِ؛ بَعْدَ إنْكارِهِمْ بِالألْسِنَةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: واللَفْظُ هَهُنا يَبْعُدُ مِن هَذا. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿ذَلِكَ أنْ لَمْ يَكُنْ﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ "ذَلِكَ"؛ يَصِحُّ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ؛ عَلى الِابْتِداءِ؛ والخَبَرُ مَحْذُوفٌ؛ تَقْدِيرُهُ: "ذَلِكَ الأمْرُ..."؛ ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ؛ بِتَقْدِيرِ: "فَعَلْنا"؛ و"أنْ"؛ مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ؛ و"اَلْقُرى": اَلْمُدُنُ؛ والمُرادُ أهْلُ القُرى؛ و"بِظُلْمٍ"؛ يُتَوَجَّهُ فِيهِ مَعْنَيانِ: أحَدُهُما أنَّ اللهَ - عَزَّ وجَلَّ - لَمْ يَكُنْ لِيُهْلِكَ المُدُنَ دُونَ نَذارَةٍ؛ فَيَكُونَ ظُلْمًا لَهم إذا لَمْ يُنْذِرْهُمْ؛ واللهُ تَعالى لَيْسَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ؛ والآخَرُ أنَّ اللهَ - عَزَّ (p-٤٦٤)وَجَلَّ - لَمْ يُهْلِكْ أهْلَ القُرى بِظُلْمٍ؛ إذْ ظَلَمُوا؛ دُونَ أنْ يُنْذِرَهُمْ؛ وهَذا هو البَيِّنُ القَوِيُّ؛ وذَكَرَ الطَبَرِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - التَأْوِيلَيْنِ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ إخْبارٌ مِنَ اللهِ - عَزَّ وجَلَّ - أنَّ المُؤْمِنِينَ في الآخِرَةِ عَلى دَرَجاتٍ مِنَ التَفاضُلِ؛ بِحَسَبِ أعْمالِهِمْ؛ وتَفَضُّلِ اللهِ تَعالى عَلَيْهِمْ؛ والمُشْرِكِينَ أيْضًا عَلى دَرَجاتٍ مِنَ العَذابِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ولَكِنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ قَدْ رَضِيَ بِما أُعْطِيَ غايَةَ الرِضا. وقَرَأتِ الجَماعَةُ - سِوى ابْنِ عامِرٍ -: "يَعْمَلُونَ"؛ عَلى لَفْظِ "كُلٍّ"؛ وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وحْدَهُ: "تَعْمَلُونَ"؛ عَلى المُخاطَبَةِ بِالتاءِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب