الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿ما أفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِن أهْلِ القُرى فَلِلَّهِ ولِلرَّسُولِ ولِذِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينِ وابْنِ السَبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِياءِ مِنكم وما آتاكُمُ الرَسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكم عنهُ فانْتَهُوا واتَّقُوا اللهُ إنَّ اللهُ شَدِيدُ العِقابِ﴾ ﴿لِلْفُقَراءِ المُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وأمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِن اللهِ ورِضْوانًا ويَنْصُرُونَ اللهِ ورَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصادِقُونَ﴾ أهْلُ القُرى المَذْكُورُونَ في هَذِهِ الآيَةِ هم أهْلُ الصَفْراءِ واليَنْبُوعِ ووادِي القُرى وما هُنالِكَ مِن قُرى العَرَبِ الَّتِي تُسَمّى قُرى عَرَبِيَّةً، وحُكْمُها مُخالِفٌ لِبَنِي النَضِيرِ، ولَمْ يَحْبِسْ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِن هَذِهِ لِنَفْسِهِ شَيْئًا، بَلْ أمْضاها لِغَيْرِهِ؛ وذَلِكَ أنَّها في ذَلِكَ الوَقْتِ فَتُحِتْ، واخْتَلَفَ الناسُ في صِفَةِ فَتْحِها -فَقِيلَ: غَزاها رَسُولُ اللهِ ﷺ، وبَعَثَ بَعْثًا إلى كُلِّ مَكانٍ فَأطاعَ وأعْطاهُ أهْلَهُ فَكانَ مِمّا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ، وكانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الغَنائِمِ، ولَيْسَ في الآيَةِ نَسْخٌ عَلى هَذا التَأْوِيلِ، وأعْطى رَسُولُ اللهِ ﷺ جَمِيعَ ذَلِكَ لِلْمُهاجِرِينَ ولَمْ يُعْطَ الأنْصارُ مِنها شَيْئًا. وقالَ قَتادَةُ، ويَزِيدُ بْنُ رُومانَ: كانَتْ هَذِهِ القُرى قَدْ أوجَفَ عَلَيْها ولَكِنَّ هَذا حُكْمُ ما يُوجَفُ عَلَيْهِ، ثُمَّ نَسَخَ اللهُ تَعالى هَذا الحُكْمَ بِآيَةِ الأنْفالِ فَجَعَلَ فِيها الخُمْسَ لِهَذِهِ الأصْنافِ وبَقِيَتِ الأرْبَعَةُ الأخْماسُ لِلْمُقاتِلَةِ، وآيَةُ هَذِهِ السُورَةِ لَمْ يَكُنْ فِيها لِلْمُقاتِلَةِ، وهَذا القَوْلُ يَضْعُفُ لِأنَّ آيَةَ الأنْفالِ نَزَلَتْ إثْرَ بَدْرٍ قَبْلَ بَنِي النَضِيرِ وقَبْلَ أمْرِ هَذِهِ القُرى بِسَنَةٍ ونَيِّفٍ، و"القُرْبى" في هَذِهِ الآيَةِ قُرابَةَ النَبِيِّ ﷺ، مَنَعُوا الصَدَقَةَ فَعَوَّضُوا مِنَ الفَيْءِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِياءِ مِنكُمْ﴾ مُخاطَبَةً لِلْأنْصارِ لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ في المُهاجِرِينَ في ذَلِكَ الوَقْتِ غَنِيٌّ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ "يَكُونُ" بِالياءِ، وقَرَأ ابْنُ (p-٢٦٥)ابْنُ مَسْعُودٍ، وأبُو جَعْفَرٍ، وهُشامٌ عَنِ ابْنِ عامِرٍ بِالتاءِ، وهِيَ"كانَ" التامَّةُ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "دُولَةً" بِضَمِّ الدالِّ ونَصْبِ الهاءِ، وقَرَأ أبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ السُلَمِيُّ: "دَوْلَةً" بِفَتْحِ الدالِّ ونَصْبِ الهاءِ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرِ بْنُ القَعْقاعِ، وهِشامٌ عَنِ ابْنِ عامِرٍ: "دُولَةٌ" بِضَمِّ الدالِ والهاءِ. وقالَ عِيسى بْنُ عُمَرَ: هُما بِمَعْنًى واحِدٍ، وقالَ الكِسائِيُّ وحُذّاقُ النَظْرَةِ: الفَتْحُ في المُلْكِ: -بِضَمِّ المِيمِ- لِأنَّها الفِعْلَةُ في الدَهْرِ، والضَمُّ في المِلْكِ -بِكَسْرِ المِيمِ- والمَعْنى أنَّها كالعَوارِيِّ، فَيَتَداوَلُ الأغْنِياءُ ذَلِكَ المالَ بِتَصَرُّفاتِهِمْ ويَبْقى المَساكِينُ بِلا شَيْءٍ، ولا حَظٍّ في شَيْءٍ مِن هَذِهِ الأمْوالِ لِيَتِيمٍ غَنِيٍّ ولا لِابْنِ سَبِيلٍ حاضِرِ المالِ، وقَدْ مَضى القَوْلُ في الغَنائِمِ في سُورَةِ [الأنْفالِ]. ورَوى أنَّ قَوْمًا مِنَ الأنْصارِ تَكَلَّمُوا في هَذِهِ القُرى المُفْتَتَحَةِ وقالُوا: لَنا مِنها سَهْمَنا، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما آتاكُمُ الرَسُولُ فَخُذُوهُ﴾ الآيَةُ... مُؤَدِّبًا في ذَلِكَ وزاجِرًا ثُمَّ اطَّرَدَ بَعْدَ مَعْنى الآيَةِ في أوامِرِ النَبِيِّ ﷺ ونَواهِيهِ، حَتّى قالَ قَوْمٌ: إنَّ الخَمْرَ مُحَرَّمَةٌ في كِتابِ اللهِ تَعالى بِهَذِهِ الآيَةِ، وانْتَزَعَ مِنها ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ لَعْنَةَ الواشِمَةِ والمُسْتَوْشِمَةِ... الحَدِيثُ، ورَأى مُحْرِمًا في ثِيابِهِ المَخِيطَةِ فَقالَ لَهُ: اطْرَحْ هَذا عنكَ، فَقالَ لَهُ الرَجُلُ: أتَقْرَأُ عَلَيَّ بِذَلِكَ آيَةً مِن كِتابِ اللهِ تَعالى؟ فَقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: نَعَمْ، وتَلا هَذِهِ الآيَةَ. وقَوْلُهُ تَعالى: "لِلْفُقَراءِ المُهاجِرِينَ" بَيانٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والمَساكِينِ وابْنِ السَبِيلِ﴾، فَكَرَّرَ لامَ الجَرِّ لَمّا كانَتِ الأولى مَجْرُورَةً بِاللامِ لِيُبَيِّنَ أنَّ البَدَلَ إنَّما هو مِنها، ثُمَّ وصَفَهم تَعالى بِالصِفَةِ الَّتِي تَقْتَضِي فَقْرَهم وتُوجِبُ الإشْفاقَ عَلَيْهِمْ، وهي إخْراجُهم (p-٢٦٦)مِن دِيارِهِمْ وأمْوالِهِمْ، وجَمِيعِ المُهاجِرِينَ إمّا أخْرَجَهُمُ الكَفّارُ وإمّا أحْوالُ الكُفّارِ وظُهُورُهم وفَرْضُ الهِجْرَةِ في ذَلِكَ الوَقْتِ، ووَصَفَهم بِالفَقْرِ وإنْ كانَ لَهم بَعْضُ أمْوالٍ وهي حالُ الفَقْرِ في اللُغَةِ، وقَدْ مَضى بَيانُ هَذا في سُورَةِ [الكَهْفِ]. وقَوْلُهُ تَعالى: "يَبْتَغُونَ" في مَوْضِعِ الحالِ، والفَضْلُ والرِضْوانُ يُرادُ بِهِ الآخِرَةُ والجَنَّةُ، ونَصْرُ اللهِ هو نَصْرُ شَرْعِهِ ونَبِيِّهِ ﷺ. و"الصادِقُونَ" في هَذِهِ الآيَةِ يَجْمَعُ صِدْقَ اللِسانِ وصِدْقَ الأفْعالِ لِأنَّ أفْعالَهم في أمْرِ هِجْرَتِهِمْ إنَّما كانَتْ وفْقَ أقْوالِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب