الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿أأشْفَقْتُمْ أنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكم صَدَقاتٍ فَإذْ لَمْ تَفْعَلُوا وتابَ اللهُ عَلَيْكم فَأقِيمُوا الصَلاةَ وآتُوا الزَكاةَ وأطِيعُوا اللهُ ورَسُولَهُ واللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾ ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هم مِنكم ولا مِنهم ويَحْلِفُونَ عَلى الكَذِبِ وهم يَعْلَمُونَ﴾ ﴿أعَدَّ اللهُ لَهم عَذابًا شَدِيدًا إنَّهم ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿اتَّخَذُوا أيْمانَهم جُنَّةً فَصَدُّوا عن سَبِيلِ اللهِ فَلَهم عَذابٌ مُهِينٌ﴾ "الإشْفاقُ": الفَزَعُ مِنَ العَجْزِ عَنِ الشَيْءِ المُتَصَدَّقِ بِهِ أو مِن ذَهابِ المالِ في الصَدَقَةِ، ولَهُ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ يُقالُ فِيها الإشْفاقُ، لَكِنَّهُ في هَذا المَوْضِعِ كَما ذَكَرْتُ. ﴿وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ﴾ مَعْناهُ: رَجَعَ بِكم. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأقِيمُوا الصَلاةَ﴾ الآيَةُ، مَعْناهُ: دُومُوا عَلى هَذِهِ الأعْمالِ الَّتِي هي قَواعِدُ شَرْعِكُمْ، ومَن قالَ إنَّ هَذِهِ الصَدَقَةَ مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ الزَكاةِ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ لا يَحْصُلُ كَيْفَ النَسْخُ، وما ذُكِرَ في نَحْوِ هَذا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما لا يَصِحُّ عنهُ، واللهُ تَعالى أعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ تَوَلَّوْا﴾. نَزَلَتْ في قَوْمٍ مِنَ المُنافِقِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا مِنَ اليَهُودِ وهُمُ المَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ، وقالَ الطَبَرِيُّ: "ما هُمْ" يُرِيدُ المُنافِقِينَ، و"مِنكُمْ" يُرِيدُ بِهِ المُؤْمِنِينَ، و"مِنهُمْ" يُرِيدُ بِهِ اليَهُودَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا التَأْوِيلُ يَجْرِي مَعَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إلى هَؤُلاءِ ولا إلى هَؤُلاءِ﴾ [النساء: ١٤٣]، ومَعَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: « "مَثَلُ المُنافِقِ مَثَلُ الشاةِ العائِرَةِ بَيْنَ الغَنَمَيْنِ"،» لِأنَّهُ مَعَ المُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ ومَعَ الكافِرِينَ بِقَلْبِهِ، لَكِنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا آخَرَ وهو أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعالى: "ما هُمْ" يُرِيدُ بِهِ اليَهُودَ، وقَوْلُهُ تَعالى: "وَلا مِنهُمْ" يُرِيدُ بِهِ المُنافِقِينَ، فَيَجِيءُ فِعْلُ المُنافِقِينَ -عَلى هَذا التَأْوِيلِ- أحْسَنُ لِأنَّهم تَوَلَّوْا قَوْمًا مَغْضُوبًا عَلَيْهِمْ لَيْسُوا (p-٢٥٦)مِن أنْفُسِهِمْ فَيَلْزَمُهم ذِمامُهم ولا مِنَ القَوْمِ المُحِقِّينَ فَتَكُونُ المُوالاةُ صَوابًا. وقَوْلُهُ تَعالى: "وَيَحْلِفُونَ" يَعْنِي المُنافِقِينَ؛ لِأنَّهم كانُوا إذا وقَفُوا عَلى ما يَأْتُونَ بِهِ مِن بُغْضِ النَبِيِّ ﷺ وشَتْمِهِ ومُوالاةِ عَدُوِّهِ حَلَفُوا أنَّهم لا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ واسْتَسْهَلُوا الحِنْثَ، ورُوِيَ مِن هَذا نَوازِلُ كَثِيرَةٌ اخْتَصَرْتُها إيجازًا إذا تُتُبِّعَتْ في المُصَنَّفاتِ وُجِدَتْ كَقَوْلِ ابْنِ أُبَيٍّ "لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ" وحَلِفُهُ عَلى أنَّهُ لَمْ يَقُلْ، وغَيْرُ ذَلِكَ. و"العَذابُ الشَدِيدُ" هو عَذابُ الآخِرَةِ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "أيْمانُهُمْ" جَمْعُ يَمِينٍ، وقَرَأ الحَسَنُ "إيمانُهُمْ" أيْ: ما يُظْهِرُونَهُ مِنَ الإيمانِ. و"الجَنَّةُ": ما يُتَسَتَّرُ بِهِ ويُتَّقى المَحْذُورُ، ومِنهُ "الِمِجَنُّ" وهو التُرْسُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَصَدُّوا عن سَبِيلِ اللهِ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الفِعْلُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ، كَما تَقُولُ: صَدَّ زَيْدٌ، أيْ: صَدُّوا هم أنْفُسُهم عن سَبِيلِ اللهِ والإيمانِ بِرَسُولِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الفِعْلُ مُتَعَدِّيًا، أيْ: صَدُّوا غَيْرَهم مِنَ الناسِ عَنِ الإيمانِ مِمَّنِ اقْتَدى بِهِمْ وجَرى في مِضْمارِهِمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: فَصَدُّوا المُسْلِمِينَ عن قَتْلِهِمْ، وتِلْكَ سَبِيلُ اللهِ فِيهِمْ لَكِنْ ما أظْهَرُوهُ مِنَ الإيمانِ صَدُّوا بِهِ المُسْلِمِينَ عن ذَلِكَ، و"المَهِينُ": المُذِلُّ، مِنَ الهَوانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب