الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وقَفَّيْنا بِعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ وآتَيْناهُ الإنْجِيلَ وجَعَلْنا في قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً ورَحْمَةً ورَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إلا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنا الَّذِينَ آمَنُوا مِنهم أجْرَهم وكَثِيرٌ مِنهم فاسِقُونَ﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكم كِفْلَيْنِ مِن رَحْمَتِهِ ويَجْعَلْ لَكم نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ويَغْفِرْ لَكم واللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ "قَفَّيْنا" مَعْناهُ: جِئْنا بِهِمْ بَعْدَ الأوَّلِينَ، وهو مَأْخُوذٌ مِنَ القَفا، أيْ: جاءَ بِالثانِي في قَفا الأوَّلِ، فَيَجِيءُ الأوَّلُ بَيْنَ يَدِيِ الثانِي، ومِنهُ القَوافِي الَّتِي تَأْتِي أواخِرَ أبْياتِ الشِعْرِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ تَشْرِيفًا وتَخْصِيصًا، وقَرَأ الحَسَنُ: "الإنْجِيلُ" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، قالَ أبُو الفَتْحِ: هَذا مِثالٌ لا نَظِيرَ لَهُ، و"رَأْفَةً ورَحْمَةً ورَهْبانِيَّةً" مَفْعُولاتُ "جَعَلْنا"، والجَعْلُ في هَذِهِ الآيَةِ بِمَعْنى: الخَلْقُ، وقَوْلُهُ تَعالى: "ابْتَدَعُوها" صِفَةٌ لـ "رَهْبانِيَّةً"، وخَصَّها بِأنَّها ابْتُدِعَتْ لِأنَّ الرَأْفَةَ والرَحْمَةَ في القَلْبِ لا تَكَسُّبَ لِلْإنْسانِ فِيهِما، وأمّا الرَهْبانِيَّةُ فَهي أفْعالٌ بَدَنٍ مَعَ شَيْءٍ في القَلْبِ، فَفِيها مَوْضِعٌ لِلتَّكَسُّبِ، قالَ قَتادَةُ: الرَأْفَةُ والرَحْمَةُ مِنَ اللهِ تَعالى، والرَهْبانِيَّةُ هُمُ ابْتَدَعُوها، والمُرادُ بِالرَأْفَةِ والرَحْمَةِ (p-٢٤٠)حُبُّ بَعْضِهِمْ في بَعْضٍ وتَوادُّهُمْ، والمُرادُ بِالرَهْبانِيَّةِ رَفْضُ النِساءِ واتِّخاذُ الصَوامِعِ، والمُعْتَزِلَةِ تُعْرِبُ "رَهْبانِيَّةً" أنَّها نَصْبٌ بِإضْمارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ "ابْتَدَعُوها" ولَيْسَتْ بِمَعْطُوفَةٍ عَلى الرَأْفَةِ والرَحْمَةِ، ويَذْهَبُونَ في ذَلِكَ إلى أنَّ الإنْسانَ يَخْلُقُ أفْعالَهُ، فَيُعْرِبُونَ الآيَةَ عَلى هَذا، وكَذَلِكَ أعْرَبَها أبُو عَلِيٍّ. ورُوِيَ في ابْتِداعِهِمُ الرَهْبانِيَّةَ أنَّهُمُ افْتَرَقُوا ثَلاثَ فِرَقٍ: فَفِرْقَةٌ قاتَلَتِ المُلُوكَ عَلى الدِينِ فَغُلِبَتْ وقُتِلَتْ، وفِرْقَةٌ قَعَدَتْ في المُدُنِ يَدْعُونَ إلى الدِينِ ويُبَيِّنُونَهُ، ولَمْ تُقاتِلْ، فَأخَذَتْها المُلُوكُ فَنَشَرَتْها بِالمَناشِيرِ، وقُتِلُوا، وفِرْقَةٌ خَرَجَتْ إلى الفَيافِي وبَنَتِ الصَوامِعَ والدِياراتِ، وطَلَبَتْ أنْ تُسْلِمَ عَلى أنْ تَعْتَزِلَ فَتُرِكَتْ وذاكَ وتَسَمَّوْا بِالرُهْبانِ، واسْمُهم مَأْخُوذٌ مِنَ الرَهَبِ وهو الخَوْفُ، فَهَذا هو ابْتِداعُهُمْ، ولَمْ يَعْرِضِ اللهُ تَعالى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لَكِنَّهم فَعَلُوا ذَلِكَ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ، هَذا تَأْوِيلُ أبِي أُمامَةَ وجَماعَةٍ، وقالَ مُجاهِدٌ: المَعْنى: كَتَبْناها عَلَيْهِمُ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ، فَـ "كَتَبَ" -عَلى هَذا- بِمَعْنى: قَضى، ويَحْتَمِلُ اللَفْظُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إلّا في عُمُومِ المَندُوباتِ؛ لِأنَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ تَعالى بِالقُرْبِ والنَوافِلُ مَكْتُوبٌ عَلى كُلِّ أُمَّةٍ، فالِاسْتِثْناءُ -عَلى هَذا الِاحْتِمالِ- مُتَّصِلٌ. واخْتَلَفَ الناسُ في الضَمِيرِ الَّذِي في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها﴾، مَنِ المُرادُ بِهِ؟ فَقِيلَ: إنَّ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا الرَهْبانِيَّةَ بِأنْفُسِهِمْ لَمْ يَدُومُوا عَلى ذَلِكَ ولا وفَّوْهُ حَقَّهُ، بَلْ غَيَّرُوا وبَدَّلُوا، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وغَيْرُهُ، والكَلامُ سائِغٌ وإنْ كانَ فِيهِمْ مَن رَعى، أيْ: لَمْ يَرْعَوْها بِأجْمَعِهِمْ، وفي هَذا التَأْوِيلِ لُزُومُ الإتْمامِ لِكُلِّ مَن بَدَأ بِتَنَقُّلٍ وتَطَوُّعٍ، أنَّهُ يَلْزَمُهُ أنْ يَرْعاهُ حَقَّ رِعايَةٍ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما وغَيْرُهُ: الضَمِيرُ لِلْمُلُوكِ الَّذِينَ حارَبُوهم وأجْلَوْهُمْ، وقالَ الضَحّاكُ وغَيْرُهُ: الضَمِيرُ لِلْأخْلافِ الَّذِينَ جاءُوا بَعْدَ المُبْتَدِعِينَ لَها، وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "كَتَبْناها عَلَيْهِمْ لَكِنِ ابْتَدَعُوها". (p-٢٤١)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ﴾، اخْتَلَفَ الناسُ، مِنَ المُخاطَبِ بِهَذا؟، فَقالَتْ فِرْقَةٌ مِنَ المُتَأوِّلِينَ: خُوطِبَ بِهَذا أهْلُ الكِتابِ، فالمَعْنى: يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا بِعِيسى اتَّقَوْا اللهَ وآمِنُوا بِمُحَمَّدٍ، ويُؤَيِّدُ هَذا المَعْنى الحَدِيثُ الصَحِيحُ عَنِ النَبِيِّ ﷺ: « "ثَلاثَةٌ يُؤْتِيهِمُ اللهُ أجَرَهم مَرَّتَيْنِ، رَجُلٌ مِن أهْلِ الكِتابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وآمَنَ بِي"» الحَدِيثُ، وقالَ آخَرُونَ: المُخاطَبَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، قِيلَ لَهُمْ: يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ، أيِ: اثْبُتُوا عَلى ذَلِكَ ودُومُوا عَلَيْهِ، وهَذا هو مَعْنى الأمْرِ أبَدًا لِمَن هو مُتَلَبِّسٌ بِما يُؤْمَرُ بِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "يُؤْتِكم كِفْلَيْنِ" أيْ: نَصِيبَيْنِ بِالإضافَةِ إلى ما كانَ الأُمَمُ قَبْلُ يُعْطُونَهُ، قالَ أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "كِفْلَيْنِ": ضِعْفَيْنِ بِلِسانِ الحَبَشَةِ، ورُوِيَ أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ لِبَعْضِ الأحْبارِ: كَمْ كانَ التَضْعِيفُ لِلْحَسَناتِ فِيكُمْ؟ فَقالَ ثَلاثُمِائَةٍ وخَمْسُونَ، فَقالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنهُ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ضاعَفَ لَنا إلى سَبْعمِائَةٍ، ويُؤَيِّدُ هَذا المَعْنى الحَدِيثُ الصَحِيحُ الَّذِي يَقْتَضِي «أنَّ اليَهُودَ عَمِلَتْ إلى نِصْفِ النَهارِ عَلى قِيراطَيْنِ، فَلَمّا احْتَجَّتِ اليَهُودُ والنَصارى عن ذَلِكَ وقالُوا: نَحْنُ أكْثَرُ عَمَلًا وأقَلُّ أجْرًا، قالَ تَعالى: "هَلْ نَقَصْتُمْ مِن أجْرِكم شَيْئًا؟ قالُوا: لا، قالَ: فَإنَّهُ فَضْلِي أُوتِيِهِ مَن أشاءُ». و"الكِفْلُ": الحَظُّ والنَصِيبُ. و"النُورُ" هُنا إمّا أنْ يَكُونَ وعْدًا (p-٢٤٢)بِالنُورِ الَّذِي يَسْعى بَيْنَ الأيْدِي يَوْمَ القِيامَةِ، وإمّا أنْ يَكُونَ اسْتِعارَةً لِلْهُدى الَّذِي يَمْشِي بِهِ في طاعَةِ اللهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب