الباحث القرآني

(p-٢١٧)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ الحَدِيدِ وهِيَ مَدَنِيَّةُ، قالَ النَقّاشُ وغَيْرُهُ: بِإجْماعٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ، وقالَ غَيْرُهُ: هي مَكِّيَّةٌ، ولا خِلافَ أنَّ فِيها قُرْآنًا مَدَنِيًّا، لَكِنْ يُشْبِهُ صَدْرَها أنْ يَكُونَ مَكِّيًّا، واللهُ تَعالى أعْلَمُ، وقَدْ ذَكَرْنا قَوْلَ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما إنَّ اسْمَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ الأعْظَمَ هو في سِتِّ آياتٍ مِن أوَّلِ سُورَةِ الحَدِيدِ، ورُوِيَ أنَّ الدُعاءَ بَعْدَ قِراءَتِها مُسْتَجابٌ. قوله عزّ وجلّ: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ ما في السَماواتِ والأرْضِ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿لَهُ مُلْكُ السَماواتِ والأرْضِ يُحْيِي ويُمِيتُ وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ﴿هُوَ الأوَّلُ والآخِرُ والظاهِرُ والباطِنُ وهو بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ في الأرْضِ وما يَخْرُجُ مِنها وما يَنْزِلُ مِنَ السَماءِ وما يَعْرُجُ فِيها وهو مَعَكم أيْنَ ما كُنْتُمْ واللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ قالَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ: التَسْبِيحُ هُنا هو التَنْزِيهُ المَعْرُوفُ في قَوْلِهِمْ: "سُبْحانَ اللهِ"، وهَذا عِنْدَهم إخْبارٌ بِصِيغَةِ الماضِي مُضَمِّنُهُ الدَوامُ وأنَّ التَسْبِيحَ مِمّا ذُكِرَ دائِمٌ مُسْتَمِرٌّ، واخْتَلَفُوا، هَلْ هَذا التَسْبِيحُ حَقِيقَةٌ أو مَجازٌ عَلى مَعْنى أنَّ أثَرَ الصَنْعَةِ فِيها يُنَبِّهُ الرائِي عَلى التَسْبِيحِ؟ قالَ الزَجّاجُ وغَيْرُهُ: والقَوْلُ بِالحَقِيقَةِ أحْسَنُ، وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ فِيهِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وهَذا كُلُّهُ في الجَماداتِ، وأمّا ما يُمْكِنُ التَسْبِيحُ مِنهُ فَقَوْلٌ واحِدٌ إنَّ تَسْبِيحَهم حَقِيقَةٌ، وقالَ قَوْمٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: التَسْبِيحُ في هَذِهِ السُورَةِ الصَلاةُ، وهَذا قَوْلٌ مُتَكَلَّفٌ، فَأمّا (p-٢١٨)فِيمَن يُمَكَّنُ مِنهُ ذَلِكَ فَسائِغٌ، وعَلى أنَّ سُجُودَ ظِلالِ الكُفّارِ هي صَلاتُهُمْ، وأمّا في الجَماداتِ فَيُقْلِقُ، وذَلِكَ أنَّ خُضُوعَها وخُشُوعَ هَيْئاتِها قَدْ يُسَمّى في اللُغَةِ سُجُودًا أوِ اسْتِعارَةً، كَما قالَ الشاعِرُ: ؎ ............ تَرى الأكَمَ فِيها سُجَّدًا لِلْحَوافِرِ ؎ ويَبْعُدُ أنْ تُسَمّى تِلْكَ صَلاةً إلّا عَلى تَجَوُّزٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما في السَماواتِ والأرْضِ﴾ عامٌّ في جَمِيعِ المَخْلُوقاتِ، وقالَ بَعْضُ النُحاةِ: التَقْدِيرُ: ما في السَماواتِ وما في الأرْضِ، فَـ "ما" نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، فَلَمّا تَكَرَّرَ مَوْصُوفُها حَذَفَها وأقامَ الصِفَةَ مَقامَها، وهو العَزِيزُ بِقُدْرَتِهِ، وسُلْطانِهِ، الحَكِيمُ بِلُطْفِهِ وتَدْبِيرِهِ وحِكْمَتِهِ، ومُلْكُ السَماواتِ والأرْضِ هو سُلْطانُها الحَقِيقِيُّ الدائِمُ؛ لِأنَّ مُلْكَ البَشَرِ مَجازٌ فانٍ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، أيْ: عَلى كُلِّ شَيْءٍ مَقْدُورٍ. قَوْلُهُ تَعالى ﴿هُوَ الأوَّلُ والآخِرُ﴾. الأوَّلُ: الَّذِي لَيْسَ لِوُجُودِهِ بِدايَةً مُفْتَتَحَةً، والآخَرُ بِالأبَدِيَّةِ، وهو الأوَّلُ بِالوُجُودِ؛ إذْ كَلُّ مَوْجُودٍ فَبَعْدَهُ وبِهِ، والآخَرُ إذا نَظَرَ العَقْلُ في المَوْجُوداتِ حَتّى يَكُونَ إلَيْهِ مُنْتَهاها، قالَ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وَأنَّ إلى رَبِّكَ المُنْتَهى﴾ [النجم: ٤٢]. و"الظاهِرُ" مَعْناهُ: بِالأدِلَّةِ ونَظَرِ العُقُولِ في صَنْعَتِهِ، و"الباطِنُ" بِلُطْفِهِ وغَوامِضِ حِكْمَتِهِ وباهِرِ صِفَتِهِ الَّتِي لا تَصِلُ إلى مَعْرِفَتِها -عَلى ما هي عَلَيْهِ- الأوهامُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿والظاهِرُ والباطِنُ﴾ الَّذِي بِهَرَ ومَلَكَ فِيما ظَهَرَ لِلْعُقُولِ وفِيما خَفِيَ عنها، فَلَيْسَ في الظاهِرِ غَيْرُهُ حَسَبَ قِيامِ الأدِلَّةِ، ولَيْسَ في باطِنِ الأمْرِ وفِيما عَلى النَظْرَةِ مِمّا عَسى أنْ يَتَوَهَّمَ غَيْرُهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ عامٌّ في الأشْياءِ عُمُومًا تامًّا. وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في خَلْقِ السَماواتِ والأرْضِ، وأكْثَرُ الناسِ عَلى أنَّ بَدْأةَ الخَلْقِ في (p-٢١٩)يَوْمِ الأحَدِ، ووَقَعَ في مُسْلِمٍ أنَّ البِدايَةَ في يَوْمِ السَبْتِ، وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: الأيّامُ السِتَّةُ مِن أيّامِ القِيامَةِ، وقالَ الجُمْهُورُ: مِن أيّامِ الدُنْيا، وهو الأصْوَبُ، و"الِاسْتِواءُ عَلى العَرْشِ" هو بِالغَلَبَةِ والقَهْرِ المُسْتَمِرَّيْنِ بِالقُدْرَةِ، ولَيْسَ ما في قَهْرِ العِبادِ مِنَ المُحاوَلَةِ والتَعَبِ، وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في مَسْألَةِ الِاسْتِواءِ مُسْتَوْعِبًا في [طه] وغَيْرِها. و"ما يَلِجُ في الأرْضِ" هو المَطَرُ والأمْواتُ وغَيْرُ ذَلِكَ، و"ما يَخْرُجُ مِنها" هو النَباتُ والمَعادِنُ وغَيْرُ ذَلِكَ، ﴿وَما يَنْزِلُ مِنَ السَماءِ﴾ المَلائِكَةُ والرَحْمَةُ والعَذابُ وغَيْرُ ذَلِكَ، ﴿وَما يَعْرُجُ فِيها﴾ هو الأعْمالُ صالِحُها وسَيِّئُها والمَلائِكَةُ وغَيْرُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكم أيْنَ ما كُنْتُمْ﴾ مَعْناهُ: بِقُدْرَتِهِ وعِلْمِهِ وإحاطَتِهِ وهِدايَتِهِ، أجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى هَذا التَأْوِيلِ فِيها، وأنَّها مُخْرِجَةٌ عن مَعْنى لَفْظِها المَعْهُودِ، ودَخَلَ في الإجْماعِ مَن يَقُولُ بِأنَّ هَذا أمْرُ المُشْتَبَهِ كُلِّهِ، يَنْبَغِي أنْ يَمُرَّ ويُؤْمِنَ بِهِ ولا يُفَسِّرَ، وقَدْ أجْمَعُوا عَلى تَأْوِيلِ هَذِهِ لِبَيانِ وُجُوبِ إخْراجِها عن ظاهِرِها، قالَ سُفْيانُ الثَوْرِيُّ: المَعْنى: عِلْمُهُ مَعَكُمْ، وتَأْوِيلُهم هَذِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ في غَيْرِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب