الباحث القرآني

(p-٢٣٠)قوله عزّ وجلّ: ﴿فاليَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكم فِدْيَةٌ ولا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النارُ هي مَوْلاكم وبِئْسَ المَصِيرُ﴾ ﴿ألَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهم لِذِكْرِ اللهِ وما نَزَلَ مِنَ الحَقِّ ولا يَكُونُوا كالَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنَ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهم وكَثِيرٌ مِنهم فاسِقُونَ﴾ ﴿اعْلَمُوا أنَّ اللهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنّا لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاليَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكم فِدْيَةٌ﴾ اسْتِمْرارٌ في مُخاطَبَةِ المُنافِقِينَ، قالَهُ قَتادَةُ وغَيْرُهُ، ورُوِيَ في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ حَدِيثٌ. وهُوَ: «أنَّ اللهَ تَعالى يُقَرِّرُ الكافِرَ فَيَقُولُ لَهُ: "أرَأيْتُكَ لَوْ كانَ لَكَ أضْعافَ الدُنْيا أكُنْتَ تَفْتَدِي بِجَمِيعِ ذَلِكَ مِن عَذابِ النارِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يا رَبِّ، فَيَقُولُ اللهُ تَعالى: قَدْ سَألْتُكَ ما هو أيْسَرُ مِن ذَلِكَ وأنْتَ في صُلْبِ أبِيكَ آدَمَ، لا تُشْرِكُ بِي، فَأبَيْتَ إلّا الشِرْكَ،» وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ والناسُ: "يُؤْخَذُ" بِالياءِ مِن تَحْتٍ، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ القارِئُ: "تُؤْخَذُ" بِالتاءِ مِن فَوْقٍ، وهي قِراءَةُ ابْنِ عامِرٍ في رِوايَةِ هُشامٍ عنهُ. وهي قِراءَةُ الحَسَنِ، وابْنِ أبِي إسْحاقَ، والأعْرَجِ. قَوْلُهُ تَعالى: "هِيَ مَوْلاكُمْ"، قالَ المُفَسِّرُونَ: مَعْناهُ: هي أولى بِكُمْ، وهَذا تَفْسِيرٌ بِالمَعْنى، وإنَّما هي اسْتِعارَةٌ لِأنَّها مِن حَيْثُ تَضُمُّهم وتُباشِرُهم هي تُوالِيهِمْ وتَكُونُ لَهم مَكانَ المَوْلى، وهَذا نَحْوُ قَوْلِ الشاعِرِ: ؎ .............. تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وجِيعُ (p-٢٣١)وَقَوْلُهُ تَعالى: "ألَمْ يَأْنِ" الآيَةُ ابْتِداءٌ مَعْنًى مُسْتَأْنِفٍ، ورُوِيَ أنَّهُ كَثُرَ الضَحِكُ والمُزاحُ في بَعْضِ تِلْكَ المُدَّةِ في قَوْمٍ مِن شُبّانِ المُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: مَلَّ الصَحابَةُ مِلَّةً فَنَزَلَتِ الآيَةُ. ومَعْنى "ألَمْ يَأْنِ" ألَمْ يَحِنْ، يُقالُ: أنَّ الشَيْءَ يَأْنِي إذا حانَ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ تَمَخَّضَتِ المَنُونُ لَهُ بِيَوْمٍ ∗∗∗ أنى ولِكُلِّ حامِلَةٍ تَمامُ وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "اَلَمّا يَأْنِ" ورُوِيَ عنهُ أنَّهُ قَرَأ: "ألَمْ يَئِنْ"، وهَذِهِ الآيَةُ عَلى مَعْنى الحَضِّ والتَقْرِيعِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: عُوتِبَ المُؤْمِنُونَ بِهَذِهِ الآيَةِ بَعْدَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةٍ مِن نُزُولِ القُرْآنِ، وسَمِعَ الفَضْلُ بْنُ مُوسى قارِئًا يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ والفَضْلُ يُحاوِلُ مَعْصِيَةً فَكانَتِ الآيَةُ سَبَبَ تَوْبَتِهِ، وحَكى الثَعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ المُبارَكِ أنَّهُ في صِباهُ حَرَّكَ العُودَ لِيَضْرِبَهُ فَإذا بِهِ قَدْ نَطَقَ بِهَذِهِ الآيَةِ فَتابَ ابْنُ المُبارَكِ وكَسَرَ العُودَ وجاءَهُ التَوْفِيقُ. و"الخُشُوعُ": الإخْباتُ والتَطامُنُ، وهي هَيْئَةٌ تَظْهَرُ في الجَوارِحِ مَتى كانَتْ في القَلْبِ، فَلِذَلِكَ خَصَّ تَعالى القَلْبَ بِالذِكْرِ، ورَوى شَدّادُ بْنُ أوسٍ عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: « "أوَّلُ ما يُرْفَعُ مِنَ الناسِ الخُشُوعُ"،» وقَوْلُهُ تَعالى: "لَذِكْرُ اللهِ" أيْ: لِأجْلِ ذِكْرِ اللهِ ووَحْيِهِ الَّذِي بَيْنَ أظْهُرِهِمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: لِأجْلِ تَذْكِيرِ اللهِ إيّاهم وأمْرِهِ فِيهِمْ، وقَرَأ عاصِمٌ في رِوايَةِ حَفْصٍ: "وَما نَزَلَ" مُخَفَّفَ الزايِ، وقَرَأ الباقُونَ، وأبُو بَكْرٍ عن عاصِمٍ: "وَما نَزَّلَ" بِتَشْدِيدِ الزايِ، عَلى مَعْنى: نَزَّلَ اللهُ مِنَ الحَقِّ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو -فِي رِوايَةِ عِياشٍ- وهي قِراءَةُ الجَحْدَرِيِّ، وابْنِ القَعْقاعِ: "وَما نُزِّلَ" بِكَسْرِ الزايِ وشَدِّها. وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، والأعْرَجُ، وأبُو جَعْفَرٍ: "وَلا يَكُونُوا" بِالياءِ عَلى ذِكْرِ (p-٢٣٢)الغائِبِ، وقَرَأ حَمْزَةُ -فِيما رَوى عنهُ سُلَيْمٌ- "وَلا تَكُونُوا" عَلى مُخاطَبَةِ الحُضُورِ. والإشارَةُ في قَوْلِهِ تَبارَكَ تَعالى: ﴿كالَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ إلى بَنِي إسْرائِيلَ المُعاصِرِينَ لِمُوسى عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ، وذَلِكَ قالَ: "مِن قَبْلُ"، وإنَّما شَبَّهَ أهْلَ عَصْرِ نَبِيٍّ بِأهْلِ عَصْرِ نَبِيٍّ آخَرَ. و"الأمَدُ" قِيلَ: مَعْناهُ انْتِظارُ الفَتْحِ، وقِيلَ: انْتِظارُ القِيامَةِ، وقِيلَ: أمَدُ الحَياةِ، و"قَسَتْ" مَعْناهُ: صَلُبَتْ وقَلَّ خَيْرُها وانْفِعالُها لِلطّاعاتِ وسَكَنَتْ إلى مَعاصِي اللهِ تَعالى فَفَعَلُوا مِنَ العِصْيانِ والمُخالَفَةِ ما هو مَأْثُورٌ عنهم. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿اعْلَمُوا أنَّ اللهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها﴾ الآيَةُ مُخاطَبَةٌ لِهَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ نَدَبُوا إلى الخُشُوعِ، وهَذا ضَرْبُ مَثَلٍ واسْتِدْعاءٌ إلى الخَيْرِ بِرِفْقٍ وتَقْرِيبٍ بَلِيغٍ، أيْ: لا يَبْعُدُ عنكم أيُّها التارِكُونَ لِلْخُشُوعِ رُجُوعُكم إلَيْهِ وتَلَبُّسِكم بِهِ، فَإنَّ اللهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِالقُلُوبِ، ويَرُدُّها إلى الخُشُوعِ بَعْدَ بُعْدِها عنهُ، وتَرْجِعُ هي إلَيْهِ إذا وقَعَتِ الإنابَةُ والتَكَسُّبُ مِنَ العَبْدِ بَعْدَ نُفُورِها مِنهُ كَما يُحْيِيِ الأرْضَ بَعْدَ أنْ كانَتْ مَيِّتَةً غَبْراءَ، وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب