الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَما لَكم ألا تُنْفِقُوا في سَبِيلِ اللهِ ولِلَّهِ مِيراثُ السَماواتِ والأرْضِ لا يَسْتَوِي مِنكم مَن أنْفَقَ مَن قَبْلِ الفَتْحِ وقاتَلَ أُولَئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً مَن الَّذِينَ أنْفَقُوا مَن بَعْدُ وقاتَلُوا وكُلا وعَدَ اللهِ الحُسْنى واللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ ﴿مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضاعِفَهُ لَهُ ولَهُ أجْرٌ كَرِيمٌ﴾ المَعْنى: وما لَكم ألّا تُنْفِقُوا في سَبِيلِ اللهِ وأنْتُمْ تَمُوتُونَ وتَتْرُكُونَ أمْوالَكُمْ؟ فَنابَ مَنابَ هَذا القَوْلِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلِلَّهِ مِيراثُ السَماواتِ والأرْضِ﴾ وفِيهِ زِيادَةُ تَذْكِيرٍ بِاللهِ عَزَّ وجَلَّ وعِبْرَةٌ، وعنهُ يَلْزَمُ القَوْلَ الَّذِي قَدَّرْناهُ. (p-٢٢٢)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يَسْتَوِي مِنكم مَن أنْفَقَ مَن قَبْلِ الفَتْحِ وقاتَلَ﴾ الآيَةُ، رُوِيَ أنَّها نَزَلَتْ بِسَبَبِ أنَّ جَماعَةً مِنَ الصَحابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهم أنْفَقَتْ نَفَقاتٍ كَثِيرَةً حَتّى قالَ الناسُ: هَؤُلاءِ أعْظَمُ أجْرًا مِن كُلِّ مَن أنْفَقَ قَدِيمًا، فَنَزَلَتِ الآيَةُ مُبِيِّنَةً أنَّ النَفَقَةَ قَبْلَ الفَتْحِ أعْظَمُ أجْرًا، وهَذا التَأْوِيلُ عَلى أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الفَتْحِ، وقَدْ قِيلَ. إنَّها نَزَلَتْ قَبْلَ الفَتْحِ تَحْرِيضًا عَلى الإنْفاقِ، والأوَّلُ أشْهَرُ، وحَكى الثَعْلَبِيُّ أنَّها نَزَلَتْ في أبِي بَكْرٍ الصَدِيقِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وفى نَفَقاتِهِ، وفي مَعْناهُ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ لِخالِدِ بْنِ الوَلِيدِ رَضِيَ اللهُ عنهُ: « "اتْرُكُوا لِي أصْحابِي، فَلَوْ أنْفَقَ أحَدُكم مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِمْ ولا نَصِيفَهُ".» واخْتَلَفَ الناسُ في الفَتْحِ المُشارِ إلَيْهِ في هَذِهِ الآيَةِ- فَقالَ أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، والشَعْبِيُّ: هو فَتْحُ الحُدَيْبِيَةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ [الفَتْحِ] تَقْرِيرُ كَوْنِهِ فَتْحًا، ورَفَعَهُ أبُو سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ إلى النَبِيِّ ﷺ «أنَّ أفْضَلَ ما بَيْنَ الهِجْرَتَيْنِ فَتْحُ الحُدَيْبِيَةِ.» وقالَ (p-٢٢٣)قَتادَةُ، ومُجاهِدٌ، وزَيْدُ بْنُ أسْلَمَ: هو فَتْحُ مَكَّةَ الَّذِي أزالَ الهِجْرَةَ، وهَذا هو المَشْهُورُ الَّذِي قالَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ: « "لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ ولَكِنْ جِهادٌ ونِيَّةٌ"،»«وَقالَ لَهُ رَجُلٌ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ: أُبايِعُكَ عَلى الهِجْرَةِ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "إنَّ الهِجْرَةَ قَدْ ذَهَبَتْ بِما فِيها".» وإنَّ الهِجْرَةَ لِشَأْنُها شَدِيدٌ، ولَكِنْ أُبايِعُكَ عَلى الجِهادِ"، وحُكْمُ الجِهادِ باقٍ إلى غابِرِ الدَهْرِ، فَمَن أنْفَقَ في وقْتِ حاجَةِ السَبِيلِ أعْظَمُ أجْرًا مِمَّنْ أنْفَقَ مَعَ اسْتِغْناءِ السَبِيلِ، وأكْثَرُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: "يَسْتَوِي" مُسْنَدٌ إلى "مَن" وتَرَكَ ذِكْرَ المُعادِلِ الَّذِي لا يَسْتَوِي مَعَهُ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ أنْفَقُوا مِنَ بَعْدُ﴾ قَدْ فَسَّرَهُ وبَيَّنَهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ فاعِلُ "يَسْتَوِي" مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: لا يَسْتَوِي مِنكُمُ الإنْفاقُ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ أنَّ ذِكْرَهُ قَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما لَكم ألا تُنْفِقُوا﴾ ويَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى: "مَن أنْفَقَ" ابْتِداءٌ وخَبَرُهُ الجُمْلَةُ الآتِيَةُ بَعْدُ. وقَرَأ جُمْهُورُ السَبْعَةِ: "وَكُلًّا وعَدَ اللهُ الحُسْنى"، وهي الوَجْهُ لِأنَّ "وَعْدَ" اللهِ لَيْسَ يَعُوقُهُ عائِقٌ عَلى أنْ يَنْصِبَ الفِعْلَ المُقَدَّمَ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ: "وَكُلٌّ وعَدَ اللهُ الحُسْنى"، فَأمّا سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللهُ فَقَدَّرَ الفِعْلَ خَبَرًا لِابْتِداءٍ، وفِيهِ ضَمِيرٌ عائِدٌ، وحَذْفُهُ عِنْدَهُ قَبِيحٌ (p-٢٢٤)لا يَجْرِي إلّا في شِعْرٍ ونَحْوِهِ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ قَدْ أصْبَحَتْ أُمُّ الخِيارِ تَدَّعِي عَلِيَّ ذَنْبًا كُلُّهُ لَمْ أصْنَعِ قالَ: ولَكِنْ حَمَلُوا الخَبَرَ عَلى الصِفاتِ كَقَوْلِ جَرِيرٍ: ؎ .......... ∗∗∗ وما شَيْءٌ حَمَيْتُ بِمُسْتَباحٍ وعَلى الصِلاتِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولا﴾ [الإسراء: ٩٤]، وذَهَبَ غَيْرُ سِيبَوَيْهِ إلى أنَّ "وَعَدَ" في مَوْضِعِ الصِفَةِ، كَأنَّهُ قالَ: أُولَئِكَ وكُلٌّ وعَدَ اللهُ الحُسْنى، وصاحِبُ هَذا المَذْهَبِ حَصَلَ في هَذا التَعَسُّفِ في المَعْنى فِرارًا مِن حَذْفِ الضَمِيرِ مِن خَبَرِ الِابْتِداءِ، و"الحُسْنى": الجَنَّةُ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، والوَعْدُ يَتَضَمَّنُ ما قَبْلَ الجَنَّةِ مِن نَصْرٍ وغَنِيمَةٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ قَوْلٌ فِيهِ وعْدٌ ووَعِيدٌ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ الآيَةُ. قالَ بَعْضُ النَحْوِيِّينَ: "مَن" (p-٢٢٥)ابْتِداءٌ، و"ذا" خَبَرُهُ، و"الَّذِي" صِفَةٌ، وقالَ آخَرُونَ مِنهُمْ: "مَن" ابْتِداءٌ، و"ذا" زائِدَةٌ مَعَ "الَّذِي"، و"الَّذِي" خَبَرُ الِابْتِداءِ، وقالَ الحَسَنُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في التَطَوُّعِ في جَمِيعِ أمْرِ الدِينِ، و"القَرْضِ "وَ "السَلَفِ" ونَحْوِهِ: أنْ يُعْطِيَ الإنْسانُ شَيْئًا ويَنْتَظِرَ جَزاءَهُ، و"التَضْعِيفُ" مِنَ اللهِ تَعالى هو في الحَسَنِاتِ، يُضاعِفُ اللهُ لِمَن يَشاءُ مِن عَشْرَةٍ إلى سَبْعمِائَةٍ، وقَدْ ورَدَ أنَّ التَضْعِيفَ يُرَبّى عَلى سَبْعمِائَةٍ، وقَدْ مَرَّ ذِكْرُ ذَلِكَ في سُورَةِ [البَقَرَةِ] بِوُجُوهِهِ مِنَ التَأْوِيلِ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، ونافِعٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "فَيُضاعِفُهُ" بِالرَفْعِ عَلى العَطْفِ أو عَلى القَطْعِ والِاسْتِئْنافِ، وقَرَأ عاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ: "فَيُضاعِفُهُ" بِالنَصْبِ بِالفاءِ في جَوابِ الِاسْتِفْهامِ، وفي ذَلِكَ قَلَقٌ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: لِأنَّ السُؤالَ لَمْ يَقَعْ عَنِ القَرْضِ، وإنَّما وقَعَ السُؤالُ عن فاعِلِ القَرْضِ، وإنَّما تَنْصِبُ الفاءُ فِعْلًا مَرْدُودًا عَلى فِعْلٍ مُسْتَفْهَمٍ عنهُ، لَكِنَّ هَذِهِ الفُرْقَةَ حَمَلَتْ ذَلِكَ عَلى المَعْنى، كَأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ﴾ بِمَنزِلَةِ أنْ لَوْ قالَ: أيُقْرِضُ اللهَ أحَدٌ فَيُضاعِفُهُ، وقَرَأ ابْنُ كَثِرٍ: "فَيُضَعِّفُهُ" مُشَدَّدَةَ العَيْنِ مَضْمُومَةَ الفاءِ، وكَذَلِكَ قَرَأ ابْنُ عامِرٍ، إلّا أنَّهُ فَتَحَ الفاءَ. و"الأجْرُ الكَرِيمُ": الَّذِي يُقْتَرَنُ بِهِ رِضًى وإقْبالٌ، وهَذا مَعْنى الدُعاءِ: "يا كَرِيمَ العَفْوِ"، أيْ: أنَّ مَعَ عَفْوِهِ رِضًى ومَغْنَمًا، وعَفْوُ البَشَرِ لَيْسَ كَذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب