الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿فَأمّا إنْ كانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ﴾ ﴿فَرَوْحٌ ورَيْحانٌ وجَنَّتُ نَعِيمٍ﴾ ﴿وَأمّا إنْ كانَ مِن أصْحابِ اليَمِينِ﴾ ﴿فَسَلامٌ لَكَ مِن أصْحابِ اليَمِينِ﴾ ﴿وَأمّا إنْ كانَ مِنَ المُكَذِّبِينَ الضالِّينَ﴾ ﴿فَنُزُلٌ مِن حَمِيمٍ﴾ ﴿وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾ ﴿إنَّ هَذا لَهو حَقُّ اليَقِينِ﴾ ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ﴾
ذَكَرَ اللهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ حالَ الأزْواجِ الثَلاثَةِ المَذْكُورَةِ في أوَّلِ السُورَةِ، وحالَ كُلِّ امْرِئٍ مِنهُمْ، فَأمّا المَرْءُ مِنَ السابِقِينَ المُقَرَّبِينَ فَسَيَلْقى عِنْدَ مَوْتِهِ رُوحًا ورَيْحانًا، و"الرُوحُ": الرَحْمَةُ والسِعَةُ والفَرَجُ والفَرَحُ، ومِنهُ: رَوْحُ اللهِ، و"الرَيْحانُ": الطَيِّبُ، وهو دَلِيلُ النَعِيمِ، وقالَ مُجاهِدٌ: الرَيْحانُ: الرِزْقُ، وقالَ أبُو العالِيَةِ، وقَتادَةُ، والحَسَنُ: الرَيْحانُ هو الشَجَرُ المَعْرُوفُ في الدُنْيا، يَلْقى المُقَرَّبُ رَيْحانًا مِنَ الجَنَّةِ، (p-٢١٥)وَقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، وجَماعَةٌ كَثِيرَةٌ: "فَرُوِّحْ" بِضَمِّ الراءِ، وقالَ الحَسَنُ: مَعْناهُ: رُوحُهُ يَخْرُجُ في رَيْحانِهِ، وقالَ الضَحّاكُ: الرَيْحانُ: الِاسْتِراحَةُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
الرَيْحانُ ما تَنْبَسِطُ إلَيْهِ النُفُوسُ، وقالَ الخَلِيلُ: هو طَرَفُ كُلٍّ بِقِلَّةٍ طَيِّبَةٍ فِيها أوائِلُ النُورِ، وقَدْ «قالَ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ في الحَسَنِ والحُسَيْنِ رَضِيَ الله تَعالى عنهُما: "هُما رَيْحانَتايْ مِنَ الدُنْيا"،» وقالَ النَمِرُ بْنُ تَوْلَبٍ:
؎ سَلامُ الإلَهِ ورَيْحانُهُ ورَحْمَتُهُ وسَماءٌ دِرَرْ
وقالَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقْرَأُ: "فَرُوِّحْ" بِضَمِّ الراءِ.»
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَسَلامٌ لَكَ مِن أصْحابِ اليَمِينِ﴾ عِبارَةٌ تَقْتَضِي جُمْلَةَ مَدْحٍ، وصِفَةَ تَخَلُّصٍ وحَصُولًا في عالٍ مِنَ المَراتِبِ، والمَعْنى لَيْسَ في أمْرِهِمْ إلّا السَلامُ والنَجاةُ مِنَ العَذابِ، وهَذا كَما تَقُولُ في مَدْحِ رَجُلٍ: أما فُلانٌ فَناهِيكَ بِهِ، أو بِحَسْبِكَ أمْرُهُ، فَهَذا يَقْتَضِي جُمْلَةً غَيْرَ مُفَصَّلَةٍ مِن مَدْحِهِ، وقَدِ اضْطَرَبَتْ عِباراتُ المُتَأوِّلِينَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَسَلامٌ لَكَ﴾ فَقالَ قَوْمٌ: المَعْنى: فَيُقالُ لَهُ: " مُسَلَّمٌ لَكَ إَنَّكَ مِن أصْحابِ اليَمِينِ"، وقالَ الطَبَرِيُّ: المَعْنى: فَسَلامٌ لَكَ أنْتَ مِن أصْحابِ اليَمِينِ، وقِيلَ: المَعْنى: فَسَلامٌ لَكَ يا مُحَمَّدُ، أيْ: لا تَرى فِيهِمْ إلّا السَلامَةَ مِنَ العَذابِ، فَهَذِهِ الكافُ في "ذَلِكَ" إمّا أنْ تَكُونَ لِلنَّبِيِّ ﷺ -وَهُوَ الأظْهَرُ- ثُمَّ لِكُلِّ مُعْتَبَرٍ فِيها مَن أُمَّتِهِ، وإمّا أنْ تَكُونَ لِمَن يُخاطِبُهُ مِن أصْحابِ اليَمِينِ، وغَيْرِ هَذا مِمّا قِيلَ فِيهِ تَكَلُّفٌ.
و"المُكَذِّبُونَ الضالُّونَ" هُمُ الكُفّارُ أصْحابُ الشِمالِ والمَشْأمَةِ، و"النُزُلُ": أوَّلُ شَيْءٍ يُقَدَّمُ لِلضَّيْفِ، و"التَصْلِيَةُ" أنْ تُباشِرَ بِهِمُ النارُ، و"الجَحِيمُ" مُعْظَمُ النارِ وحَيْثُ تَراكُمُها. ولَمّا كَمُلَ تَقْسِيمُ أحْوالِهِمْ وانْقَضى الخَبَرُ بِذَلِكَ أكَّدَ تَعالى الإخْبارَ بِأنْ قالَ لِنَبِيِّهِ (p-٢١٦)مُحَمَّدٍ ﷺ مُخاطَبَةً تُدْخِلُ مَعَهُ أُمَّتُهُ فِيها: إنَّ هَذا الَّذِي أخْبَرْتُكَ بِهِ لَهو حَقُّ اليَقِينِ، وإضافَةُ الحَقِّ إلى اليَقِينِ عِبارَةٌ فِيها مُبالَغَةٌ لِأنَّهُما بِمَعْنًى واحِدٍ، فَذَهَبَ بَعْضُ الناسِ إلى أنَّهُ مِن بابِ "دارِ الآخِرَةِ" و"مَسْجِدِ الجامِعِ"، وذَهَبَتْ فِرْقَةٌ مَنِ الحُذّاقِ إلى أنَّهُ كَما تَقُولُ في أمْرٍ تُؤَكِّدُهُ: هَذا يَقِينُ اليَقِينِ أو صَوابُ الصَوابِ، بِمَعْنى أنَّهُ نِهايَةُ الصَوابِ، وهَذا أحْسَنُ ما قِيلَ فِيهِ، وذَلِكَ لِأنَّ "دارَ الآخِرَةِ" وما أشْبَهَها يُحْتَمَلُ أنْ تُقَدِّرَ شَيْئًا أضْفَتِ الدارُ إلَيْهِ ووَصَفَتْهُ بِالآخِرَةِ ثُمَّ حَذَفَتْهُ وأقَمْتَ الصِفَةَ مَقامَهُ، كَأنَّكَ قُلْتَ: "دارُ الرَجْعَةِ الآخِرَةِ"، أو دارُ النَشْأةِ الآخِرَةِ"، أو "الحَلْقَةُ الآخِرَهُ"، وهُنا لا يَتَّجِهُ هَذا، وإنَّما هي عِبارَةٌ مُبالَغَةٌ وتَأْكِيدُ مَعْناها أنَّ هَذا الخَبَرَ هو نَفْسُ اليَقِينِ وحَقِيقَتُهُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ﴾ عِبارَةٌ تَقْتَضِي الأمْرَ بِالإعْراضِ عن أقْوالِ الكَفَرَةِ وسائِرِ أُمُورِ الدُنْيا المُخْتَصَّةِ بِها، والإقْبالِ عَلى أُمُورِ الآخِرَةِ، وعِبادَةِ اللهِ تَعالى والدُعاءِ إلَيْهِ، ورَوى عُقْبَةُ بْنُ عامِرٍ «أنَّهُ لَمّا نَزَلَ ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ﴾ قالَ النَبِيُّ ﷺ: "اجْعَلُوها في رُكُوعِكُمْ"، فَلَمّا نَزَلَتْ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلى﴾ [الأعلى: ١] قالَ: "اجْعَلُوها في سُجُودِكُمْ"،» ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: سَبَّحَ لِلَّهِ تَعالى بِذِكْرِ أسْمائِهِ العُلى، و"الِاسْمُ" هُنا بِمَعْنى الجِنْسِ، أيْ: بِأسْماءِ رَبِّكَ، و"العَظِيمِ" صِفَةٌ لَهُ، فَكَأنَّهُ أمَرَهُ أنْ يُسَبِّحَهُ بِاسْمِهِ الأعْظَمِ وإنْ كانَ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ، ويُؤَيِّدُ هَذا ويُشِيرُ إلَيْهِ إيصالُ سُورَةِ الحَدِيدِ وأوَّلُها فِيهِ التَسْبِيحُ وجُمْلَةٌ مِن أسْماءِ اللهِ تَعالى، وقَدْ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "اسْمُ اللهِ الأعْظَمُ مَوْجُودٌ في سِتِّ آياتٍ مِن أوَّلِ سُورَةِ الحَدِيدِ"، فَتَأمَّلْ هَذا فَإنَّهُ مِن دَقِيقِ النَظَرِ، ولِلَّهِ تَعالى في كِتابِهِ العَزِيزِ غَوامِضُ لا تَكادُ الأذْهانُ تُدْرِكُها.
كَمُلَ تَفْسِيرُ سُورَةِ [الواقِعَةِ] والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ.
{"ayahs_start":88,"ayahs":["فَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُقَرَّبِینَ","فَرَوۡحࣱ وَرَیۡحَانࣱ وَجَنَّتُ نَعِیمࣲ","وَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلۡیَمِینِ","فَسَلَـٰمࣱ لَّكَ مِنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلۡیَمِینِ","وَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُكَذِّبِینَ ٱلضَّاۤلِّینَ","فَنُزُلࣱ مِّنۡ حَمِیمࣲ","وَتَصۡلِیَةُ جَحِیمٍ","إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلۡیَقِینِ","فَسَبِّحۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلۡعَظِیمِ"],"ayah":"وَتَصۡلِیَةُ جَحِیمٍ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











