الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُجُومِ﴾ ﴿وَإنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ ﴿إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ ﴿فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ﴾ ﴿لا يَمَسُّهُ إلا المُطَهَّرُونَ﴾ ﴿تَنْزِيلٌ مِن رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿أفَبِهَذا الحَدِيثِ أنْتُمْ مُدْهِنُونَ﴾ ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكم أنَّكم تُكَذِّبُونَ﴾ ﴿فَلَوْلا إذا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ﴾ ﴿وَأنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ﴾ ﴿وَنَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِنكم ولَكِنْ لا تُبْصِرُونَ﴾ ﴿فَلَوْلا إنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ﴾ ﴿تَرْجِعُونَها إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾
اخْتَلَفَ الناسُ في "لا" مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُجُومِ﴾ - فَقالَ بَعْضُ النَحْوِيِّينَ: هي زائِدَةٌ، والمَعْنى: فَأُقْسِمُ، وزِيادَتُها في بَعْضِ المَواضِعِ مَعْرُوفٌ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِئَلا يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ﴾ [الحديد: ٢٩]، وغَيْرُ ذَلِكَ، وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وبَعْضُ النَحْوِيِّينَ: هي نافِيَةٌ، كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: فَلا صِحَّةَ لِما يَقُولُهُ الكُفّارُ، ثُمَّ (p-٢٠٩)ابْتَدَأ تَبارَكَ وتَعالى فَقالَ: "أُقْسِمُ"، وقالَ بَعْضُ المُتَأوِّلِينَ: هي مُؤَكَّدَةٌ تُعْطِي في القِسْمِ مُبالِغَةً، وهي كاسْتِفْتاحِ كَلامٍ يُشْبِهُ في القَسَمِ ألّا في شائِعِ الكَلامِ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ فَلا وأبِي........... لا أخُونُها
المَعْنى: "فَوَأبِي"، أعْدائِها، ولِهَذا نَظائِرُ، وقَرَأ الحَسَنُ والثَقَفِيُّ: "فَلْأُ قْسِمُ" بِغَيْرِ ألْفٍ، قالَ أبُو الفَتْحِ: التَقْدِيرُ: فَلَأنا أُقْسِمُ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ مِنَ القُرّاءِ: "بِمَواقِعَ" عَلى الجَمْعِ، وقَرَأ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عنهُمْ- وأهْلُ الكُوفَةِ: حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ "بِمَوْقِعٍ" عَلى الإفْرادِ، وهو مُرادٌ بِهِ الجَمْعُ، ونَظِيرُ هَذا كَثِيرٌ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ أنْكَرَ الأصْواتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ﴾ [لقمان: ١٩]، جَمْعٌ مِن حَيْثُ لِكُلِّ حِمارٍ صَوْتٌ مُخْتَصٌّ، وأفْرَدَ مِن حَيْثُ الأصْواتُ كُلُّها نَوْعٌ.
واخْتَلَفَ الناسُ في "النُجُومِ" هُنا- فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ، ومُجاهِدٌ، وغَيْرُهُمْ: هي نُجُومُ القُرْآنِ الَّتِي نَزَلَتْ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ، وذَلِكَ أنَّهُ رُوِيَ أنَّ القُرْآنَ نَزَلَ مِن عِنْدِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ في لَيْلَةِ القَدْرِ إلى السَماءِ الدُنْيا- وقِيلَ: إلى البَيْتِ المَعْمُورِ - جُمْلَةً واحِدَةً، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ نُجُومًا مُقَطَّعَةً في مُدَّةٍ مِن عِشْرِينَ سَنَةً، ويُؤَيِّدُ هَذا القَوْلَ عَوْدُ الضَمِيرِ عَلى القُرْآنِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾، وذَلِكَ أنَّ ذِكْرَهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ إلّا عَلى هَذا التَأْوِيلِ، ومَن لا يَتَأوَّلُ هَذا التَأْوِيلَ يَقُولُ: إنَّ الضَمِيرَ يَعُودُ عَلى القُرْآنِ وإنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ لِشُهْرَةِ الأمْرِ ووُضُوحِ المَعْنى، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى تَوارَتْ بِالحِجابِ﴾ [ص: ٣٢]، و﴿كُلُّ مَن عَلَيْها فانٍ﴾ [الرحمن: ٢٦]، وغَيْرِ ذَلِكَ. وقالَ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: النُجُومُ هُنا (p-٢١٠)الكَواكِبُ المَعْرُوفَةُ، واخْتُلِفَ في مَوْقِعِها، فَقالَ مُجاهِدٌ وأبُو عُبَيْدَةَ: هي مَواقِعُها عِنْدَ غُرُوبِها وطُلُوعُها، وقالَ قَتادَةُ: مَواقِعُها هي مَواضِعُها مِنَ السَماءِ، وقِيلَ: مَواقِعُها عِنْدَ الِانْقِضاضِ إثْرَ العَفارِيتِ، وقالَ الحَسَنُ: مَواقِعُها عِنْدَ انْكِدارِ النُجُومِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: "وَإنَّهُ لَقَسَمٌ" تَأْكِيدٌ لِلْأمْرِ وتَنْبِيهٌ مِنَ المَقْسِمِ بِهِ، ولَيْسَ هَذا بِاعْتِراضٍ بَيْنَ الكَلامَيْنِ، بَلْ هَذا مَعْنًى قُصِدَ التَهَمُّمُ بِهِ، وإنَّما الِاعْتِراضُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَوْ تَعْلَمُونَ﴾، وقَدْ قالَ قَوْمٌ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: "وَإنَّهُ لَقَسَمٌ" اعْتِراضٌ، وإنَّ "لَوْ تَعْلَمُونَ" اعْتِراضٌ في اعْتِراضٍ، والتَحْرِيرُ هو الَّذِي ذَكَرْناهُ، وقَوْلُهُ تَعالى: "إنَّهُ لَقُرْآنٌ" هو الَّذِي وقَعَ القَسَمُ عَلَيْهِ، ووَصَفَهُ بِالكَرَمِ عَلى مَعْنى إثْباتِ صِفاتِ المَدْحِ لَهُ ودَفْعِ صِفاتِ الحَطِيطَةِ عنهُ.
واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ﴾ بَعْدَ اتِّفاقِهِمْ عَلى أنَّ "المَكْنُونَ": المَصُونُ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ: أرادَ الكِتابَ الَّذِي في السَماءِ، وقالَ عِكْرِمَةُ: أرادَ التَوْراةَ والإنْجِيلَ، كَأنَّهُ تَعالى قالَ: إنَّهُ لِكِتابٌ كَرِيمٌ ذَكَرَ كَرَمَهُ وشَرَفَهُ في كِتابٍ مَكْنُونٍ، فَمَعْنى الآيَةِ -عَلى هَذا- الِاسْتِشْهادُ بِالكُتُبِ المُنَزَّلَةِ، وهَذا كَقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿إنَّ عِدَّةَ الشُهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا في كِتابِ اللهِ﴾ [التوبة: ٣٦]، وقالَ بَعْضُ المُتَأوِّلِينَ: أرادَ مَصاحِفَ المُسْلِمِينَ، وكانَتْ يَوْمَ نَزَلَتِ الآيَةُ لَمْ تَكُنْ، فَهي -عَلى هَذا- إخْبارٌ بِغَيْبٍ، وكَذَلِكَ هو في كِتابٍ مَصُونٍ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، ويُؤَيِّدُ هَذا لَفْظَةَ "المَسِّ" فَإنَّها تُشِيرُ إلى المَصاحِفِ، وهي مُسْتَعارَةٌ مِن مَسِّ المَلائِكَةِ.
واخْتَلَفَ الناسُ في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا يَمَسُّهُ إلا المُطَهَّرُونَ﴾ وفي حُكْمِهِ- فَقالَ بَعْضُ مَن قالَ إنَّ الكِتابَ المَكْنُونَ هو الَّذِي في السَماءِ، قالَ: المُطَهَّرُونَ هُنا: المَلائِكَةُ، قالَ قَتادَةُ: فَأمّا عِنْدَكم فَيَمَسُّهُ المُشْرِكُ المُنَجَّسُ والمُنافِقُ، قالَ الطَبَرِيُّ: المُطَهَّرُونَ: المَلائِكَةُ والأنْبِياءُ عَلَيْهِمُ السَلامُ ومَن لا ذَنْبَ لَهُ، ولَيْسَ في الآيَةِ -عَلى هَذا القَوْلِ- حُكْمُ مَسِّ المُصْحَفِ لِسائِرِ بَنِي آدَمَ، ومَن قالَ بِأنَّها مَصاحِفُ المُسْلِمِينَ قالَ: إنَّ قَوْلُهُ تَعالى: "لا يَمَسُّهُ" إخْبارٌ مُضَمِّنُهُ النَهْيُ، وضَمَّةُ السِينِ -عَلى هَذا- ضَمَّةُ إعْرابٍ وقالَ بَعْضُ هَذِهِ الفِرْقَةِ: الكَلامُ نَهْيٌ، وضَمَّةُ السِينِ ضَمَّةُ بِناءٍ، قالَ جَمِيعُهُمْ: فَلا يَمَسُّ المُصْحَفَ مِن بَنِي آدَمَ إلّا الطاهِرُ مِنَ الكُفْرِ والجَنابَةِ والحَدَثِ الأصْغَرِ، قالَ مالِكٌ: (p-٢١١)لا يَحْمِلُهُ غَيْرُ طاهِرٍ بِعَلاقَتِهِ ولا عَلى وِسادَةٍ، وفي كِتابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: « "وَلا يَمَسُّ القُرْآنَ إلّا الطاهِرُ"»، وقَدْ رَخَّصَ أبُو حَنِيفَةَ وقَوْمٌ بِأنْ يَمَسَّهُ الجُنُبُ والحائِضُ عَلى حائِلٍ، غُلافٌ ونَحْوُهُ، ورَخَّصَ بَعْضُ العُلَماءِ في مَسِّهِ في الحَدَثِ الأصْغَرِ وفي قِراءَتِهِ عن ظَهْرِ قَلْبٍ، مِنهُمُ ابْنُ عَبّاسٍ وعامِرٌ الشَعْبِيُّ، ولا سِيَّما لِلْمُعَلِّمِ والصِبْيانِ، وقَدْ رَخَّصَ بَعْضُهم لِلْجُنُبِ في قِراءَتِهِ، وهَذا التَرْخِيصُ كُلُّهُ إنَّما هو عَلى القَوْلِ الَّذِي ذَكَرْناهُ مِن أنْ "المُطَهَّرِينَ" هُمُ المَلائِكَةُ، أو عَلى مُراعاةِ لِفْظِ المَسِّ، فَقَدْ قالَ سَلْمانُ رَضِيَ اللهُ عنهُ لا أمَسُّ المُصْحَفَ ولَكِنْ أقْرَأُ القُرْآنَ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "المُطَهَّرُونَ" بِفَتْحِ الطاءِ والهاءِ المُشَدَّدَةِ. وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو -بِخِلافٍ عنهُما-: "المُطَهَّرُونَ" بِسُكُونِ الطاءِ وفَتْحِ الهاءِ خَفِيفَةً، وهي قِراءَةُ عِيسى الثَقَفِيِّ. وقَرَأ سَلْمانُ الفارِسِيُّ: "المُطَهَّرُونَ" بِفَتْحِ الطاءِ خَفِيفَةً وكَسْرِ الهاءِ وشَدِّها، عَلى مَعْنى الَّذِينَ يُطَهِّرُونَ أنْفُسَهُمْ، ورُوِيَتْ عنهُ بِشَدِّ الطاءِ والهاءِ، وقَرَأ الحَسَنُ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ عَوْنٍ، وسَلْمانُ الفارِسِيُّ -بِخِلافٍ عنهُ-: "المُطَهَّرُونَ" بِمَعْنى: المُتَطَهِّرِينَ، والقَوْلُ بِأنَّ "لا يَمَسُّهُ" نَهْيٌ، قَوْلٌ فِيهِ ضَعْفٌ، وذَلِكَ أنَّهُ إذا كانَ خَبَرًا فَهو في مَوْضِعِ الصِفَةِ، وقَوْلُهُ تَعالى بَعْدَ ذَلِكَ: "تَنْزِيلٌ" صِفَةٌ أيْضًا، فَإذْ جَعَلْناهُ نَهْيًا جاءَ مَعْنًى أجْنَبِيًّا مُعْتَرِضًا بَيْنَ الصِفاتِ، وذَلِكَ لا يَحْسُنُ في رَصْفِ الكَلامِ فَتُدَبِّرُهُ، وفي حِرَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "ما يَمَسُّهُ" وهَذا يُقَوِّي ما رَجَّحْتُهُ مِنَ الخَبَرِ الَّذِي مَعْناهُ: حَقُّهُ وقَدْرُهُ أنْ ألّا يَمَسَّهُ إلّا طاهِرٌ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَبِهَذا الحَدِيثِ أنْتُمْ مُدْهِنُونَ﴾ مُخاطَبَةٌ لِلْكُفّارِ، و"الحَدِيثِ" المُشارِ إلَيْهِ هو القُرْآنُ المُتَضَمِّنُ البَعْثَ، وإنَّ اللهَ تَعالى هو خالِقُ الكُلِّ، وإنَّ ابْنَ آدَمَ مَصَرَّفٌ بِقَدَرِهِ وقَضائِهِ، وغَيْرِ ذَلِكَ، و"مُدْهِنُونَ" مَعْناهُ: يُلايِنُ بَعْضُكم بَعْضًا ويَتْبَعُهُ في الكُفْرِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الدُهْنِ لِلِينِهِ وإمْلاسِهِ، وقالَ أبُو قَيْسِ بْنِ الأسْلَتِ:
؎ الحَزْمُ والقُوَّةُ خَيْرٌ مِنَ الـ ∗∗∗ إدْهانِ والفَهَّةِ والهاعِ
(p-٢١٢)وَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: هو المُهاوَدَةُ فِيما لا يَحِلُّ، والمُداراةُ هي المُهاوَدَةُ فِيما يَحِلُّ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "مُدْهِنُونَ": مُكَذِّبُونَ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكم أنَّكم تُكَذِّبُونَ﴾، أجْمَعَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّ الآيَةَ تَوْبِيخٌ لِلْقائِلِينَ في المَطَرِ الَّذِي نَزَّلَهُ اللهُ تَعالى رِزْقًا لِلْعِبادِ: هَذا بِنَوْءِ كَذا وكَذا وهَذا بِنَوْءِ الأسَدِ، وهَذا بِنَوْءِ الجَوْزاءِ وغَيْرِ ذَلِكَ، والمَعْنى: وتَجْعَلُونَ شُكْرَ رِزْقِكُمْ، كَما تَقُولُ لِرَجُلٍ: جَعَلْتَ يا فُلانُ إحْسانِي إلَيْكَ أنْ سَبَبْتَنِي، فالمَعْنى: جَعَلْتُ شَكَرَ إحْسانِي، وحَكى الهَيْثَمُ بْنُ عُدَيٍّ أنَّ مِن لُغَةِ أزِدْ شَنُوءَةَ: ما رِزْقُ فُلانٍ؟ بِمَعْنى: ما شُكْرُهُ؟ وكانَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ يَقْرَؤُها: "وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكم أنَّكم تَكْذِبُونَ"، وكَذَلِكَ قَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، ورُوِيَتْ عَنِ النَبِيِّ ﷺ إلّا أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما ضَمَّ التاءِ وفَتَحَ الكافَ، وعَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عنهُ فَتَحَ التاءَ وسَكَّنَ الكافَ وخَفَّفَ الذالَ، ومِن هَذا المَعْنى قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ وكانَ شُكْرُ القَوْمِ عِنْدَ المِنَنِ ∗∗∗ كَيُّ الصَحِيحاتِ وفَقْءُ الأعْيُنِ
وقَدْ أخْبَرَ اللهُ تَعالى أنَّهُ أنْزَلَ مِنَ السَماءِ ماءً مُبارَكًا فَأنْشَأ بِهِ جَنّاتٍ وحَبَّ الحَصِيدِ، والنَخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقًا لِلْعِبادِ، فَهَذا مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنَّكم تُكَذِّبُونَ﴾، أيْ: بِهَذا الخَبَرِ، وقَرَأ عاصِمٌ في رِوايَةِ المُفَضَّلِ عنهُ: "تُكَذِّبُونَ" بِفَتْحِ التاءِ وسُكُونِ الكافِ وتَخْفِيفِ الذالِ كَقِراءَةِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وكَذِبُهم في مَقالِهِمْ بَيِّنٌ (p-٢١٣)لِأنَّهم يَقُولُونَ: هَذا بِنَوْءِ كَذا، وذَلِكَ كَذِبٌ مِنهم وتَخَرُّصٌ. وذَكَرَ الطَبَرِيُّ «أنَّ النَبِيَّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلام سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: مُطِرْنا بِبَعْضِ عُثانَيْنِ الأسَدِ، فَقالَ لَهُ: "كَذَبْتَ بَلْ هو رِزْقُ اللهِ"،» والمَنهِيُّ عنهُ المَكْرُوهُ هو أنْ يَعْتَقِدَ أنَّ لِلطّالِعِ مِنَ النُجُومِ تَأْثِيرًا في المَطَرِ، وأمّا مُراعاةُ بَعْضِ الطَوالِعِ عَلى مُقْتَضى العادَةِ فَقَدْ قالَ عُمَرُ لِلْعَبّاسِ رَضِيَ اللهُ عنهُما وهُما في الِاسْتِسْقاءِ: يا عَبّاسُ، يا عَمَّ النَبِيِّ ﷺ: كَمْ بَقِيَ مِن نَوْءِ الثُرَيّا؟ فَقالَ العَبّاسُ رَضِيَ اللهُ عنهُ: العُلَماءُ يَقُولُونَ إنَّها تَعْتَرِضُ الأُفُقَ بَعْدَ سُقُوطِها سَبْعًا، قالَ ابْنُ المُسَيِّبِ: فَما مَضَتْ سَبْعٌ حَتّى مُطِرُوا.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَوْلا إذا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ﴾ تَوْقِيفٌ عَلى مَوْضِعِ عَجْزٍ يَقْتَضِي النَظَرُ فِيهِ أنَّ اللهَ تَبارَكَ وتَعالى مالِكُ كُلِّ شَيْءٍ، والضَمِيرُ في "بَلَغَتِ الحُلْقُومَ" لِنَفْسِ الإنْسانِ، والمَعْنى يَقْتَضِيها وإنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَها ذِكْرٌ، "والحُلْقُومَ" مَجْرى الطَعامِ، وهَذِهِ الحالُ هي نِزاعُ المَرْءِ لِلْمَوْتِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "أنْتُمْ" إشارَةٌ إلى جَمِيعِ البَشَرِ، وهَذا مِنَ الِاقْتِضابِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩]. وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ: "حِينَئِذٍ" بِكَسْرِ النُونِ، و"تَنْظُرُونَ" مَعْناهُ: إلى المُنازِعِ في المَوْتِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَنَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِنكُمْ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ مَلائِكَتَهُ ورُسُلَهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: بِقُدْرَتِنا وغَلَبَتِنا، فَعَلى الِاحْتِمالِ الأوَّلِ يَجِيءُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ﴾ مِنَ النَظَرِ بِالعَيْنِ، وعَلى التَأْوِيلِ الثانِي يَجِيءُ مِنَ النَظَرِ بِالقَلْبِ. وقالَ عامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ: ما نَظَرْتُ إلى شَيْءٍ إلّا رَأيْتُ اللهَ تَعالى أقْرَبَ إلَيْهِ مِنِّي.
ثُمَّ عادَ التَوْقِيفُ والتَقْرِيرُ ثانِيَةً بِلَفْظِ التَحْضِيضِ، و"المَدِينُ": المَمْلُوكُ، هَذا أصَحُّ ما يُقالُ في مَعْنى اللَفْظَةِ هُنا، ومَن عَبَّرَ عنها بِالمُجازى أوِ المُحاسَبِ فَذَلِكَ هُنا قَلَقٌ، والمَمْلُوكُ يُقَلِّبُ كَيْفَ يَشاءُ المالِكَ، ومِن هَذا المِلْكِ قَوْلُ الأخْطَلِ:(p-٢١٤)
؎ رَبَتْ فَرَبّى في حِجْرِها ابْنُ مَدِينَةَ ∗∗∗ تَراهُ عَلى مِسْحاتِهِ يَتَرَكَّلُ
أرادَ: ابْنُ أُمَّةٍ مَمْلُوكَةٍ، وهو عَبْدٌ يَخْدِمُ الكَرَمَ، وقَدْ قِيلَ في مَعْنى هَذا البَيْتِ: أرادَ أكّارًا حَضَرِيًّا لِأنَّ الأعْرابَ في البادِيَةِ لا يَعْرِفُونَ الفِلاحَةَ وعَمَلَ الكَرْمِ، فَنَسَبَهُ إلى المَدِينَةِ لِما كانَ مِن أهْلِها، فَمَعْنى الآيَةِ: فَلَوْلا تَرْجِعُونَ النَفْسَ البالِغَةَ الحُلْقُومَ إنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَمْلُوكِينَ ولا مَقْهُورِينَ، ودِينُ المَلِكِ حُكْمُهُ وسُلْطانُهُ، وقَدْ نَحا إلى هَذا المَعْنى الفَرّاءُ، وذَكَرَهُ مُسْتَوْعِبًا النَقّاشَ. وقَوْلُهُ تَعالى: "تَرْجِعُونَها" سَدَّتْ مَسَدَّ الأجْوِبَةِ والبَياناتِ الَّتِي تَقْتَضِيها التَخْصِيصاتُ، وإذا مِن قَوْلِهِ تَعالى: "فَلَوْلا إذا" و"إنْ" المُتَكَرِّرَةُ، وحَمَلَ بَعْضُ القَوْلِ بَعْضًا إيجازًا واقْتِضابًا.
{"ayahs_start":75,"ayahs":["۞ فَلَاۤ أُقۡسِمُ بِمَوَ ٰقِعِ ٱلنُّجُومِ","وَإِنَّهُۥ لَقَسَمࣱ لَّوۡ تَعۡلَمُونَ عَظِیمٌ","إِنَّهُۥ لَقُرۡءَانࣱ كَرِیمࣱ","فِی كِتَـٰبࣲ مَّكۡنُونࣲ","لَّا یَمَسُّهُۥۤ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ","تَنزِیلࣱ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ","أَفَبِهَـٰذَا ٱلۡحَدِیثِ أَنتُم مُّدۡهِنُونَ","وَتَجۡعَلُونَ رِزۡقَكُمۡ أَنَّكُمۡ تُكَذِّبُونَ","فَلَوۡلَاۤ إِذَا بَلَغَتِ ٱلۡحُلۡقُومَ","وَأَنتُمۡ حِینَىِٕذࣲ تَنظُرُونَ","وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَیۡهِ مِنكُمۡ وَلَـٰكِن لَّا تُبۡصِرُونَ","فَلَوۡلَاۤ إِن كُنتُمۡ غَیۡرَ مَدِینِینَ","تَرۡجِعُونَهَاۤ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ"],"ayah":"فَلَوۡلَاۤ إِذَا بَلَغَتِ ٱلۡحُلۡقُومَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











