الباحث القرآني

وَقوله عزّ وجلّ: ﴿ثُمَّ إنَّكم أيُّها الضالُّونَ المُكَذِّبُونَ﴾ ﴿لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِن زَقُّومٍ﴾ ﴿فَمالِئُونَ مِنها البُطُونَ﴾ ﴿فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحَمِيمِ﴾ ﴿فَشارِبُونَ شُرْبَ الهِيمِ﴾ ﴿هَذا نُزُلُهم يَوْمَ الدِينِ﴾ ﴿نَحْنُ خَلَقْناكم فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ﴾ ﴿أفَرَأيْتُمْ ما تُمْنُونَ﴾ ﴿أأنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أمْ نَحْنُ الخالِقُونَ﴾ ﴿نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ ﴿عَلى أنْ نُبَدِّلَ أمْثالَكم ونُنْشِئَكم في ما لا تَعْلَمُونَ﴾ ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَشْأةَ الأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: "ثُمَّ إنَّكُمْ" مُخاطَبَةٌ لِكُفّارِ قُرَيْشٍ ومَن كانَ في حالِهِمْ، و"مِن" في قَوْلِهِ تَعالى: "مِن شَجَرٍ" يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِابْتِداءِ الغايَةِ، و"مِن" في قَوْلِهِ تَعالى: "مِن زَقُّومٍ" لِبَيانِ الجِنْسِ، والضَمِيرُ فِي: "مِنها" عائِدٌ عَلى الشَجَرِ، و"مِن" لِلتَّبْعِيضِ أو لِابْتِداءِ الغايَةِ، والضَمِيرُ في "عَلَيْهِ" عائِدٌ عَلى المَأْكُولِ أو عَلى الأكْلِ، وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "لَآكِلُونَ مِن شَجَرَةٍ" عَلى الإفْرادِ. و"الهِيمِ" قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وعِكْرِمَةُ، والضَحّاكُ: هو جَمْعُ "أهْيَمُ" وهو الجَمَلُ الَّذِي أصابَهُ الهُيامُ -بِضَمِّ الهاءِ- وهو داءٌ مُعَطِّشٌ يَشْرَبُ مَعَهُ الجُمَلُ حَتّى يَمُوتَ أو يُسْقَمَ سَقَمًا شَدِيدًا، والأُنْثى هَيْماءُ، وقالَ بَعْضُهُمْ: هو جَمْعُ هَيْماءَ كَعَيْناءَ وعَيْنَ وبَيْضاءَ وبِيضَ، وقالَ قَوْمٌ آخَرُونَ: هو جَمْعُ هايمٌ وهايِمَةٌ، وهَذا أيْضًا مِن هَذا المَعْنى لِأنَّ الجَمَلَ إذا أصابَهُ ذَلِكَ هامَ عَلى وجْهِهِ وذَهَبَ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وسُفْيانُ الثَوْرِيُّ: الهِيمُ هُنا الرِمالُ الَّتِي لا تُرْوى مِنَ الماءِ، وذَلِكَ أنَّ الهُيامَ -بِفَتْحِ الهاءِ- هو الرَمْلُ الدَقُّ الغَمْرُ المُتَراكِمُ، وقالَ ثَعْلَبُ: الهُيامُ: -بِضَمِّ الهاءِ- الرَمْلُ الَّذِي لا يَتَماسَكُ. وقَرَأ ابْنُ كَثِرٍ وابْنُ عامِرٍ، وأبُو عَمْرٍو، والكِسائِيُّ: "شَرِبَ الهِيمَ" بِفَتْحِ الشِينِ، وهي قِراءَةُ الأعْرَجِ، وابْنِ المُسَيِّبِ، وشُعَيْبِ بْنِ الحَبْحابِ، ومالِكِ بْنِ دِينارٍ، وابْنِ جُرَيْجٍ، ولا خِلافَ أنَّهُ مَصْدَرٌ، وقَرَأ مُجاهِدٌ: "شِرْبُ الهِيمِ" بِكَسْرِ الشِينِ، ولا خِلافَ أنَّهُ اسْمٌ، وقَرَأ أهْلُ المَدِينَةِ وباقِي السَبْعَةِ: "شُرْبَ الهِيمِ" بِضَمِّ الشِينِ، واخْتُلِفَ فِيهِ - فَقالَ قَوْمٌ: وهو مَصْدَرٌ، وقالَ آخَرُونَ: هو اسْمٌ لِما يُشْرَبُ. (p-٢٠٤)وَ"النُزُلُ": أوَّلُ ما يَأْكُلُ الضَيْفُ، وقَرَأ عَمْرُو -فِي رِوايَةِ ابْنِ عَيّاشٍ -: "نُزُلُهُمْ" بِسُكُونِ الزايِ، وقَرَأ الباقُونَ، واليَزِيدِيُّ عن أبِي عَمْرٍو بِضَمِّ الزايِ، وهُما بِمَعْنى كالشُغْلِ والشُغُلِ. و"الدِينُ": الجَزاءُ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ الخالِقُ، وحَضَّ عَلى التَصْدِيقِ عَلى وجْهِ التَقْرِيعِ، ثُمَّ ساقَ تَعالى الحُجَّةَ المُوحِيَةَ لِلتَّصْدِيقِ، كانَ مُعْتَرِضًا مِنَ الكُفّارِ قالَ: ولِمَ أُصَدِّقُ؟ فَقِيلَ لَهُ: أفَرَأيْتَ كَذا وكَذا؟ الآياتُ، ولَيْسَ يُوجَدُ مَفْطُورٌ يَخْفى عَلَيْهِ أنَّ المَنِيَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنهُ لَيْسَ لَهُ فِيهِ عَمَلٌ ولا إرادَةٌ ولا قُدْرَةٌ، و"أمْ" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أمْ نَحْنُ الخالِقُونَ﴾ لَيْسَتِ المُعادَلَةَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ ؛ لِأنَّ الفِعْلَ قَدْ تَكَرَّرَ، وإنَّما المُعادَلَةُ عِنْدَهُ: أقامَ زَيْدٌ أمْ عَمْرٌو؟ وهَذِهِ الَّتِي في هَذِهِ الآيَةِ مُعادَلَةٌ عِنْدَ قَوْمٍ مِنَ النُحاةِ. وأمّا إذا تَغايَرَ الفِعْلانِ فَلَيْسَتْ بِمُعادَلَةٍ إجْماعًا، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "تُمَنُّونَ" بِضَمِّ التاءِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وأبُو السَمالِ: "تُمَنُّونَ" بِفَتْحِ التاءِ، ويُقالُ: "أمْنى الرَجُلُ ومَنّى" بِمَعْنًى واحِدٍ. وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ: "نَحْنُ قَدَّرْنا" بِشَدِّ الدالِ، وقَرَأ كُثَيِّرٌ وحْدَهُ: "نَحْنُ قَدَرْنا" بِتَخْفِيفِ الدالِّ، والمَعْنى فِيهِما يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى: قَضَيْنا وأثْبَتْنا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى: سَوَّيْنا وعَدَلْنا التَقَدُّمُ والتَأخُّرُ، أيْ: جَعَلْنا المَوْتَ رُتَبًا، لَيْسَ يَمُوتُ العالَمُ دُفْعَةً واحِدَةً، بَلْ بِتَرْتِيبٍ لا يَعْدُوهُ أحَدٌ، وقالَ الطَبَرِيُّ: مَعْنى الآيَةِ: قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ المَوْتَ عَلى أنْ نُبَدِّلَ أمْثالَكُمْ، أيْ: تَمُوتُ طائِفَةٌ ونُبْدِلُها بِطائِفَةٍ، هَكَذا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ عَلى تَبْدِيلِكم إنْ أرَدْناهُ، وإنْ نُنْشِئْكم بِأوصافٍ لا يَصِلُها عَمَلُكم ولا تُحِيطُ بِها فِكَرُكُمْ، قالَ الحَسَنُ: مِن كَوْنِهِمْ قِرَدَةً وخَنازِيرَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: تَأوَّلَ الحَسَنُ هَذا لِأنَّ الآيَةَ تَنْحُو إلى الوَعِيدِ، وجاءَتْ لِفَظَّةُ السَبْقِ هُنا عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ ﷺ: « "فَإنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ لا تَغْلِبُوا عَلى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَمْسِ وصَلاةٍ قَبْلَ غُرُوبِها فافْعَلُوا لا تَفُوتَنَّكُمْ"». وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "النَشْأةُ" بِسُكُونِ الشِينِ، وقَرَأ قَتادَةُ وأبُو (p-٢٠٥)الأشْهَبِ، وأبُو عَمْرٍو بِخِلافٍ-: "النَشاءَةَ" بِفَتْحِها وبِالمَدِّ، وقالَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ: أشارَ إلى خَلْقِ آدَمَ ووَقَفَ عَلَيْهِ لِأنَّكَ لا تَجِدُ أحَدًا يُنْكِرُ أنَّهُ مِن وُلِدِ آدَمَ عَلَيْهِ السَلامُ، وأنَّهُ مِن طِينٍ، وقالَ بَعْضُهُمْ: أرادَ بِالنَشْأةِ الأُولى نَشْأةَ إنْسانٍ في طُفُولَتِهِ، فَيَعْلَمُ المَرْءُ نَشْأتَهُ كَيْفَ كانَتْ بِما يَرى مِن نَشْأةِ غَيْرِهِ. ثُمَّ حَضَّضَ تَعالى عَلى التَذَكُّرِ والنَظَرِ المُؤَدِّي إلى الإيمانِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "فَلَوْلا تَذْكُرُونَ" مُشَدَّدَةَ الذالِ، وقَرَأ طَلْحَةُ: "فَلَوْلا تَذْكُرُونَ" بِسُكُونِ الذالِ وضَمِّ الكافِ، وهَذِهِ الآيَةُ نَصٌّ في اسْتِعْمالِ القِياسِ والحَضِّ عَلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب