الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَأصْحابُ اليَمِينِ ما أصْحابُ اليَمِينِ﴾ ﴿فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ﴾ ﴿وَطَلْحٍ مَنضُودٍ﴾ ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ ﴿وَماءٍ مَسْكُوبٍ﴾ ﴿وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ﴾ ﴿لا مَقْطُوعَةٍ ولا مَمْنُوعَةٍ﴾ ﴿وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ﴾ ﴿إنّا أنْشَأْناهُنَّ إنْشاءً﴾ ﴿فَجَعَلْناهُنَّ أبْكارًا﴾ ﴿عُرُبًا أتْرابًا﴾ ﴿لأصْحابِ اليَمِينِ﴾ ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ﴾ ﴿وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ﴾ "السِدْرُ" شَجَرٌ مَعْرُوفٌ، وهو الَّذِي يُقالُ لَهُ: شَجَرُ أُمِّ غِيلانَ، وهو مِنَ العِضاه، لَهُ شَوْكٌ، وفي الجَنَّةِ شَجَرٌ عَلى خِلْقَتِهِ لَهُ ثَمَرٌ كَقِلالِ هَجَرٍ، طَيِّبِ الطَعْمِ والرِيحِ، ووَصَفَهُ تَعالى بِأنَّهُ مَخْضُودٌ،أيْ: مَقْطُوعُ الشَوْكِ لا أذًى فِيهِ، وقالَ أُمِّيَّةُ بْنُ أبِي الصَلْتِ: ؎ إنَّ الحَدائِقَ في الجِنانِ ظَلِيلَةٌ فِيها الكَواعِبُ سِدْرُها مَخْضُودُ وعَبَّرَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ عن "مَخْضُودٍ" بِأنَّهُ المُوَقَّرُ حَمْلًا، وقالَ بَعْضُهُمْ: هو قَطْعُ الشَوْكِ، وهو الصَوابُ، أما إنَّ وقْرَهُ هو كَرَمُهُ، ورُوِيَ عَنِ الضَحّاكِ أنَّ بَعْضَ الصَحابَةِ أعْجَبَهم سِدْرُ وجٍّ فَقالُوا: لَيْتَ لَنا في الآخِرَةِ مِثْلَ هَذا، فَنَزَلَتِ الآيَةُ، ولِأهْلِ تَحْرِيرِ النَظَرِ هُنا إشارَةٌ في أنَّ هَذا الخَضْدَ بِإزاءِ أعْمالِهِمُ الَّتِي سَلِمُوا فِيها: إذْ أهْلُ اليَمِينِ تَوّابُونَ لَهم سَلامٌ، ولَيْسُوا بِسابِقِينَ. و"الطَلْحُ" كَذَلِكَ مِنَ العِضاهِ شَجَرٌ عِظامٌ كَثِيرُ الشَوْكِ وشَبَّهَهُ في الجَنَّةِ عَلى صِفاتٍ (p-١٩٨)كَثِيرَةٌ مُبايَنَةٌ لِحالِ الدُنْيا، و"مَنضُودٍ" مَعْناهُ: مُرَكَّبٌ ثَمَرُهُ بَعْضُهُ عَلى بَعْضٍ مِن أرْضِهِ إلى أعْلاهُ. وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وغَيْرُهُما: "وَطَلْعٍ مَنضُودٍ"، فَقِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: إنَّما هو "وَطَلْحٍ" فَقالَ: ما لِلطَّلْحِ ولِلْجَنَّةِ؟ فَقِيلَ لَهُ: أنُصْلِحُها في المُصْحَفِ؟ فَقالَ: إنَّ المُصْحَفَ اليَوْمَ لا يُهاجُ ولا يُغَيَّرُ. وقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُمْ: "الطَلْحُ": المَوْزُ، وقالَهُ مُجاهِدٌ وعَطاءٌ. وقالَ الحَسَنُ: لَيْسَ بِالمَوْزِ ولَكِنَّهُ شَجَرٌ ظِلُّهُ بارِدٌ طَيِّبٌ. و"الظِلُّ المَمْدُودُ" مَعْناهُ: الَّذِي لا تَنْسَخُهُ شَمْسٌ، ويُفَسِّرُ ذَلِكَ في قَوْلِ النَبِيِّ ﷺ: « "إنَّ في الجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَكْبُ الجَوادَ في ظِلِّها مِائَةَ سَنَةٍ لا يَقْطَعُها، واقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ "وَظِلٍّ مَمْدُودٍ".» إلى غَيْرِ هَذا مِنَ الأحادِيثِ في هَذا المَعْنى، وقالَ مُجاهِدٌ: هَذا الظِلُّ هو مِن طَلْحِها وسِدْرِها. وقَوْلُهُ تَعالى: "وَماءٍ مَسْكُوبٍ" أيْ: بِزَوالِ الإبّانِ كَحالِ فاكِهَةِ الدُنْيا، "وَلا مَمْنُوعَةٍ" بِبُعْدِ التَناوُلِ، ولا بِشَوْكِ يُؤْذِي في شَجَراتِها، ولا بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ الَّتِي تَمْتَنِعُ بِها فاكِهَةُ الدُنْيا. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "وَفُرُشٍ" بِضَمِّ الراءِ، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: "وَفُرْشٌ" بِسُكُونِها، والفُرْشُ: الأسِرَّةُ، ورُوِيَ مِن طَرِيقِ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّ في ارْتِفاعِ السَرِيرِ مِنها خَمْسمِائَةَ سَنَةٍ، وهَذا واللهُ أعْلَمُ لا يَثْبُتُ، وإنَّ قُدِّرَ فَمُتَأوِّلٌ خارِجٌ عن ظاهِرِهِ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ وغَيْرُهُ: أرادَ بِالفُرُشِ النِساءَ. و"مَرْفُوعَةٍ" مَعْناهُ في الأقْدارِ والمَنازِلِ، ومِن هَذا المَعْنى قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ ظَلَلْتَ مُفْتَرِشَ الهَلْباءِ تَشْتُمُنِي ∗∗∗ عِنْدَ الرَسُولِ فَلَمْ تَصْدُقْ ولَمْ تُصِبِ (p-١٩٩)وَمِنهُ قَوْلُ الآخَرِ في تَعْدِيدِهِ عَلى صِهْرِهِ: "وَأفْرَشْتُكَ كَرِيمَتِي". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا أنْشَأْناهُنَّ إنْشاءً﴾، قالَ قَتادَةُ: الضَمِيرُ عائِدٌ عَلى "الحُورِ العِينِ" المَذْكُوراتِ قَبْلُ، وهَذا فِيهِ بُعْدٌ لِأنَّ تِلْكَ القِصَّةَ قَدِ انْقَضَتْ جُمْلَةً، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرٌ: قَدْ ذَكَرَهُنَّ في قَوْلِهِ تَعالى: "وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ" فَلِذَلِكَ رَدَّ الضَمِيرَ وإنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ لِدَلالَةِ المَعْنى عَلى المَقْصِدِ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى تَوارَتْ بِالحِجابِ﴾ [ص: ٣٢] ونَحْوِهِ، و: "أنْشَأْناهُنَّ" مَعْناهُ: خَلَقْناهُنَّ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: « "عَجائِزُكُنَّ في الدُنْيا عُمْشًا رُمْصًا،»«وَقالَ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ لِعَجُوزٍ: "إنَّ الجَنَّةَ لا يَدْخُلُها عَجُوزٌ"، فَحَزِنَتْ فَقالَ "إنَّكَ إذا دَخَلْتَ الجَنَّةَ أُنْشِئْتَ خَلْقًا آخَرَ".» وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَجَعَلْناهُنَّ أبْكارًا﴾، قِيلَ: مَعْناهُ دائِماتِ البَكارَةِ، مَتى عاوَدَ الواطِئُ وجَدَها بِكْرًا. و"العَرَبُ" جَمْعُ عَرُوبٍ وهي المُتَحَبِّبَةُ إلى زَوْجِها بِإظْهارِ مَحَبَّتِهِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، وعَبَّرَ عنهُنَّ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أيْضًا بِالعَواشِقِ، ومِنهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: ؎ وفي الحُدُوجِ عُرُوبٌ غَيْرُ فاحِشَةٍ ∗∗∗ رَيّا الرَوادِفِ يُعْشى دُونَها البَصَرُ (p-٢٠٠)وَقالَ ابْنُ زَيْدٍ: العُرُوبُ: الحَسَنَةُ الكَلامِ، وقَدْ تَجِيءُ العُرُوبُ صِفَةَ ذَمٍّ عَلى غَيْرِ هَذا المَعْنى، وهي الفاسِدَةُ الأخْلاقِ كَأنَّها عُرِّبَتْ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ وما بَدَلٌ مِن أُمِّ عُثْمانَ سَلْفَعٌ ∗∗∗ مِنَ السُودِ ورْهاءُ العِنانِ عَرِيبُ وقَرَأ ابْنُ كَثِرٍ، وابْنُ عامِرٍ، والكِسائِيُّ: "عُرُبًا" بِضَمِّ الراءِ، وقَرَأ حَمْزَةُ، والحَسَنُ: والأعْمَشُ: "عُرْبًا" بِسُكُونِها، وهي لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، واخْتَلَفَ عن نافِعٍ، وأبِي عَمْرٍو، وعاصِمٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: "أتْرابًا" مَعْناهُ: في الشَكْلِ والَقَدِّ حَتّى يَقُولَ الرائِي: هم أتْرابٌ، والتِرْبُ هو الَّذِي مَسَّ التُرابَ مَعَ تِرْبِهِ في وقْتٍ واحِدٍ، وقالَ قَتادَةُ: "أتْرابًا" بِمَعْنى: سِنًّا واحِدَةً، ويُرْوى أنَّ أهْلَ الجَنَّةِ هم عَلى قَدْرِ ابْنِ أرْبَعَةَ عَشَرَ عامًا في الشَبابِ والنُضْرَةِ، وقِيلَ: عَلى أمْثالِ أبْناءِ ثَلاثٍ وثَلاثِينَ سَنَةً، مُرْدًا بِيضًا مُكَحَّلِينَ. واخْتَلَفَ الناسُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ﴾ ﴿وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ﴾ - فَقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ وغَيْرُهُ: الأوَّلُونَ: سالِفُ الأُمَمِ، مِنهم جَماعَةٌ عَظِيمَةٌ هم أصْحابُ اليَمِينِ، والآخَرُونَ: هَذِهِ الأُمَّةُ، مِنهم جَماعَةٌ عَظِيمَةٌ أهْلُ يَمِينٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: بَلْ جَمِيعُهم إلّا مَن كانَ مِنَ السابِقِينَ. وقالَ قَوْمٌ مِنَ المُتَأوِّلِينَ: هاتانِ الفِرْقَتانِ في أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، ورَوى ابْنُ عَبّاسٍ (p-٢٠١)رَضِيَ اللهُ عنهُما عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: « "الثُلْثانِ مِن أُمَّتِي"،» فَعَلى هَذا التابِعُونَ بِإحْسانٍ ومَن جَرى مَجْراهم ثُلَّةٌ أُولى، وسائِرُ الأُمَّةِ ثُلَّةٌ أُخْرى في آخِرِ الزَمانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب