الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿سَيُهْزَمُ الجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُبُرَ﴾ ﴿بَلِ الساعَةُ مَوْعِدُهم والساعَةُ أدْهى وأمَرُّ﴾ ﴿إنَّ المُجْرِمِينَ في ضَلالٍ وسُعُرٍ﴾ ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ ﴿إنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ﴾ ﴿وَما أمْرُنا إلا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ﴾ ﴿وَلَقَدْ أهْلَكْنا أشْياعَكم فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ﴾ ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ في الزُبُرِ﴾ ﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ ﴿إنَّ المُتَّقِينَ في جَنّاتٍ ونَهَرٍ﴾ ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ هَذِهِ عِدَّةٌ مِنَ اللهِ تَعالى لِرَسُولِهِ ﷺ أنَّ جَمْعَ قُرَيْشٍ سَيُهْزَمُ نُصْرَةً لَهُ، والجُمْهُورُ عَلى أنَّ الآيَةَ مَكِّيَّةٌ، ورُوِيَ عن عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ الله تَعالى عنهُ أنَّهُ قالَ: «كُنْتُ أقُولُ في نَفْسِي: أيُّ جَمْعٍ يُهْزَمُ؟ فَلَمّا كانَ يَوْمُ بَدْرٍ رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ في الدِرْعِ وهو يَقُولُ: ﴿سَيُهْزَمُ الجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُبُرَ﴾.» قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَإنَّما كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ في بَدْرٍ مُسْتَشْهِدًا بِالآيَةِ. وقالَ قَوْمٌ: إنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ يَوْمَ بَدْرٍ، وذَلِكَ ضَعِيفٌ، والصَوابُ أنَّ الوَعْدَ أُنْجِزَ يَوْمَ بَدْرٍ قالَ أبُو حاتِمٍ: قَرَأ بَعْضُ القُرّاءِ: "سَيُهْزَمُ" بِفَتْحِ الياءِ وكَسْرِ الزايِ "الجَمْعُ" نَصْبًا، (p-١٥٤)قالَ أبُو عَمْرٍو الدانِيُّ قَرَأ أبُو حَيْوَةَ: "سَنَهْزِمُ" بِالنُونِ وكَسْرِ الزايِ "الجَمْعَ" بِالنَصْبِ "وَتُوَلُّونَ" بِالتاءِ مِن فَوْقٍ. ثُمَّ تُرِكَتْ هَذِهِ الأقْوالُ وأضْرَبَ عنها تَهَمُّمًا بِأمْرِ الساعَةِ الَّتِي عَذابُها أشُدُّ عَلَيْهِمْ مِن كُلِّ هَزِيمَةٍ وقَتْلٍ، فَقالَ تَعالى: ﴿بَلِ الساعَةُ مَوْعِدُهم والساعَةُ أدْهى وأمَرُّ﴾، "أدْهى" أفْعَلُ مِنَ الداهِيَةِ وهي الرَزِيَّةُ العُظْمى تَنْزِلُ بِالمَرْءِ، و"أمَرُّ" مِنَ المَرارَةِ، واللَفْظَةُ هاهُنا مُسْتَعارَةٌ لِأنَّها لَيْسَتْ فِيما يُذاقُ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى عَنِ المُجْرِمِينَ أنَّهم في الدُنْيا في حَيْرَةٍ وإتْلافٍ وفَقْدِ هُدًى، وفي الآخِرَةِ في احْتِراقٍ وتَسَعُّرٍ مِن حَيْثُ هم صائِرُونَ إلَيْهِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: المَعْنى: في خُسْرانٍ وجُنُونٍ، و"السُعُرُ" الجُنُونُ، وأكْثَرُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ المُجْرِمِينَ هُنا يُرادُ بِهِمُ الكُفّارُ، وقالَ قَوْمٌ: المُرادُ بِالمُجْرِمِينَ القَدَرِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ أفْعالَ العِبادِ لَيْسَتْ بِقَدَرٍ مِنَ اللهِ تَعالى. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهْم المُتَوَعِّدُونَ بِالسَحْبِ في جَهَنَّمَ، والسَحْبُ هو الجَرُّ، وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "إلى النارِ". وقَوْلُهُ تَعالى: "فَذُوقُوا" اسْتَعارَةٌ، والمَعْنى: يُقالُ لَهُمْ: ذُوقُوا، عَلى جِهَةِ التَوْبِيخِ. واخْتَلَفَ الناسُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ﴾ فَقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "إنّا كُلَّ شَيْءٍ" بِالنَصْبِ، وقالُوا: المَعْنى: إنّا خَلَقْنا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ، ولَيْسَتْ "خَلَقْناهُ" في مَوْضِعِ الصِفَةِ لـ "شَيْءٍ"، بَلْ هو فِعْلٌ دالٌّ عَلى الفِعْلِ المُضْمَرِ، وهَذا المَعْنى يَقْتَضِي أنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَخْلُوقٌ، إلّا ما قامَ دَلِيلُ العَقْلِ عَلى أنَّهُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كالقُرْآنِ والصِفَةِ وقَرَأ أبُو السَمالِ -وَرَجَّحَهُ أبُو الفَتْحِ-: "إنّا كُلُّ" بِالرَفْعِ عَلى الِابْتِداءِ، والخَبَرُ "خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ"، قالَ أبُو حاتِمٍ: "هَذا هو الوَجْهُ في العَرَبِيَّةِ، وقِراءَتُنا بِالنَصْبِ مَعَ الجَماعَةِ". (p-١٥٥)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقَرَأها قَوْمٌ مِن أهْلِ السُنَّةِ بِالرَفْعِ، والمَعْنى عِنْدَهم عَلى نَحْوِ ما هو عِنْدَ الأوَّلِينَ مِن أنَّ كُلَّ شَيْءٍ فَهو مَخْلُوقٌ بِقَدْرٍ سابِقٍ، و"خَلَقْناهُ" -عَلى هَذا- لَيْسَتْ صِفَةً لِـ "شَيْءٍ"، وهَذا مَذْهَبُ أهْلِ السُنَّةِ، ولَهُمُ احْتِجاجٌ قَوِيٌّ بِالآيَةِ عَلى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ. وقالَتِ القَدَرِيَّةُ، وهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لا قَدَرَ، والمَرْءُ وحْدَهُ فاعِلُ أفْعالِهِ، القِراءَةُ: "إنّا كُلُّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ" بِرَفْعِ "كُلُّ"، و"خَلَقْناهُ" في مَوْضِعِ الصِفَةِ لِـ "كُلُّ"، أيْ: إنَّ أمْرَنا وشَأْنَنا كُلُّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ فَهو بِقَدَرٍ، أيْ: بِمِقْدارٍ وعَلى حَدِّ ما في هَيْئَتِهِ وزَمَنِهِ وغَيْرِ ذَلِكَ، فَيُزِيلُونَ بِهَذا التَأْوِيلِ مَوْضِعَ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِالآيَةِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: إنِّي أجِدُ في كِتابِ اللهِ تَعالى قَوْمًا يُسْحَبُونَ في (p-١٥٦)النارِ عَلى وُجُوهِهِمْ لِأنَّهم كانُوا يُكَذِّبُونَ بِالقَدَرِ، يَقُولُونَ: المَرْءُ يَخْلُقُ أفْعالَهُ، وإنِّي لا أراهُمْ، فَلا أدْرِي أشَيْءٌ مَضى قَبْلَنا أمْ شَيْءٌ بَقِيَ، وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ: «خاصَمَتْ قُرَيْشٌ رَسُولَ اللهِ ﷺ في القَدَرِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، قالَ أبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ السُلَمِيُّ: فَقالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللهِ، فَفِيمَ العَمَلُ؟ أفِي شَيْءٍ نَسْتَأْنِفُهُ أمْ في شَيْءٍ قَدْ فَرَغَ مِنهُ؟ فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ، سَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى، سَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى".» وقالَ أنَسُ بْنُ مالِكٍ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: « "القَدَرِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ الخَيْرَ والشَرَّ بِأيْدِينا، لَيْسَ لَهم في شَفاعَتِي نَصِيبٌ، ولا أنا مِنهم ولا هم مُنِّيَ".» وقَوْلُهُ تَعالى: "إلّا واحِدَةٌ" أيْ: إلّا قَوْلَةً واحِدَةً وهي "كُنْ"، وقَوْلُهُ تَعالى: "كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ" تَفْهِيمٌ لِلنّاسِ بِأعْجَلَ ما يُحِسُّونَ، وفي أشْياءَ مِن أمْرِ اللهِ تَعالى أوحى مِن لَمْحِ البَصَرِ، و"الأشْياعُ": الفِرَقُ المُتَشابِهَةُ في مَذْهَبٍ ودِينٍ، ونَحْوِهِ، الأوَّلُ شِيعَةٌ لِلْآخَرِ، الآخَرُ شِيعَةٌ لِلْأوَّلِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّ كُلَّ أفْعالِ الأُمَمِ المُهْلِكَةِ مَكْتُوبَةٌ مَحْفُوظَةٌ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ الحِسابِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، سَطَرْتُ وأسْطَرْتُ بِمَعْنًى، ورُوِيَ عن عاصِمٍ شَدُّ الراءِ مِن "مُسْتَطَرٌ"، قالَ أبُو عَمْرٍو: وهَذا لا يَكُونُ إلّا عِنْدَ الوُقُوفِ، لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "وَنَهَرٍ" بِفَتْحِ الهاءِ والنُونِ عَلى أنَّها اسْمُ الجِنْسِ يُرِيدُ بِهِ الأنْهارَ، أو عَلى أنَّهُ بِمَعْنى سِعَةٍ في الرِزْقِ والمَنازِلِ، ومِنهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الخَطِيمِ: ؎ مَلَكْتُ بِها كَفِّي فَأنْهَرْتُ فَتْقَها يَرى قائِمٌ مِن خَلْفِها ما وراءَها (p-١٥٧)فَقَوْلُهُ: "أنَهَرْتُ" مَعْناهُ جَعَلْتُ فَتْقَها كَنَهْرٍ، وقَرَأ زُهَيْرُ الفَرْقَبِيُّ، والأعْمَشُ: "وَنُهْر" بِضَمِّ النُونِ والهاءِ عَلى أنَّهُ جَمَعَ نَهار، إذْ لا لَيْلَ في الجَنَّةِ، وهَذا سائِغ في اللَفْظِ قَلِقٌ في المَعْنى، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ جَمْعُ نَهَرٍ، وقَرَأ مُجاهِدٌ، وحُمَيْدٌ، وأبُو السَمالِ، والفَيّاضُ بْنُ غَزَوانَ: "نَهْرٍ" بِسُكُونِ الهاءِ عَلى الإفْرادِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ الصِدْقَ الَّذِي هو ضِدُّ الكَذِبِ، أيْ: في المَقْعَدِ الَّذِي صَدَّقُوا في الخَبَرِ بِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن قَوْلِكَ: "عَوْدُ صِدْقٍ" أيْ: جِيِّدٌ، و"رَجُلُ صِدْقٍ "أيْ: خَيِّرٌ وذُو خِلالٍ حِسانٍ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "فِي مَقْعَدِ" عَلى اسْمِ الجِنْسِ، وقَرَأ عُثْمانُ البَتِّيُّ: "فِي مَقاعِدَ" عَلى الجَمْعِ، و"المَلِيكُ المُقْتَدِرُ" هو اللهُ تَبارَكَ وتَعالى. كَمُلَ تَفْسِيرُ سُورَةِ القَمَرِ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب