الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿إنّا مُرْسِلُو الناقَةِ فِتْنَةً لَهم فارْتَقِبْهم واصْطَبِرْ﴾ ﴿وَنَبِّئْهم أنَّ الماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهم كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ﴾ ﴿فَنادَوْا صاحِبَهم فَتَعاطى فَعَقَرَ﴾ ﴿فَكَيْفَ كانَ عَذابِي ونُذُرِ﴾ ﴿إنّا أرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ المُحْتَظِرِ﴾ ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ﴾ ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُذُرِ﴾ ﴿إنّا أرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِبًا إلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهم بِسَحَرٍ﴾ ﴿نِعْمَةً مِن عِنْدِنا كَذَلِكَ نَجْزِي مِن شَكَرَ﴾
هَذِهِ الناقَةُ الَّتِي اقْتَرَحُوها أنَّ تَخْرُجَ لَهم مِن صَخْرَةٍ صَمّاءَ مِنَ الجَبَلِ، وقَدْ تَقَدَّمَ قَصَصُها، فَأخْبَرَ اللهُ تَعالى صالِحًا عَلَيْهِ السَلامُ -عَلى وُجْهَةِ التَأْنِيسِ- أنَّهُ يُخْرِجُ لَهُمُ الناقَةَ ابْتِلاءً واخْتِبارًا، ثُمَّ أمَرَهُ تَعالى بِارْتِقابِ الفَرَجِ وبِالصَبْرِ، و"اصْطَبِرْ" أصْلُهُ: اصْتَبَرَ ا"فْتَعَلَ"، أُبْدِلَتِ التاءُ طاءً لِتُناسِبَ الصادَ، ثُمَّ أمَرَهُ تَعالى أنْ يُخْبِرَ ثَمُودَ بِأنَّ الماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ، وهو ماءُ البِئْرِ كانَ لَهم.
واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في مَعْنى هَذِهِ القِسْمَةِ، فَقالَ جُمْهُورٌ مِنهُمْ: قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ، يَتَساوُونَ في اليَوْمِ الَّذِي لا تَرِدُهُ الناقَةُ فِيهِ، وذَلِكَ -فِيما رُوِيَ- أنَّ الناقَةَ كانَتْ تَرِدُ البِئْرَ غَبًّا، وتَحْتاجُ جَمِيعَ مائِهِ يَوْمَها، فَنَهاهُمُ اللهُ تَعالى عن أنْ يَسْتَأْثِرَ أهْلُ اليَوْمَ الَّذِي لا تَرِدُ الناقَةُ فِيهِ بِيَوْمِهِمْ، وأمَرَهم بِالتَساوِي مَعَ الَّذِينَ تَرِدُ الناقَةُ في يَوْمِهِمْ. وقالَ آخَرُونَ: مَعْناهُ: الماءُ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ وبَيْنَ الناقَةِ قِسْمَةٌ. "مُحْتَضَرٌ" مَعْناهُ: مَحْضُورٌ مَشْهُودٌ مُتَواسًى فِيهِ، وقالَ مُجاهِدٌ: المَعْنى: "كُلُ شِرْبٍ"، أيْ: مِنَ الماءِ يَوْمًا ومِن لَبَنِ الناقَةِ يَوْمًا "مُحْتَضَرٌ" لَهُمْ، فَكَأنَّهُ أنْبَأهم بِنِعْمَةِ اللهِ تَعالى عَلَيْهِمْ في ذَلِكَ.
و"صاحِبَهُمْ" هو قِدارُ بْنُ سالِفٍ، وبِسَبَبِهِ سُمِّيَ الجَزّارُ القُدارُ لِشَبَهٍ في الفِعْلِ، قالَ الشاعِرُ:
؎ إنّا لَنَضْرِبُ بِالسُيُوفِ رُؤُوسَهم ضَرْبَ القِدارِ نَقِيعَةَ القُدّامِ
(p-١٥٠)وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ أمْرِ قِدارِ بْنِ سالِفٍ.
و"تَعاطى" هو مُطاوِعُ "عاطى"، فَكَأنَّ هَذِهِ الفِعْلَةَ تَدافَعُها الناسُ وأعْطاها بَعْضُهم بَعْضًا، فَتَعاطاها هو وتَناوَلَ العُقْرَ بِيَدِهِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، ويُقالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي يُدْخِلُ نَفْسَهُ في تَحَمُّلِ الأُمُورِ الثِقالِ: مُتَعاطٍ عَلى الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْناهُ، والأصْلُ "عَطا يَعْطُو" إذا تَناوَلَ، ثُمَّ يُقالُ: عاطى غَيْرَهُ، ثُمَّ يُقالُ: تَعاطى، وهَذا كَما يُقالُ: جَرى وجارى وتَجارى، وهَذا كَثِيرٌ.
ويُرْوى أنَّهُ كانَ مَعَ شَرْبٍ -وَهُمُ التِسْعَةُ رَهْطٍ- فاحْتاجُوا ماءً فَلَمْ يَجِدُوهُ بِسَبَبِ وِرْدِ الناقَةِ، فَحَمَلَهُ أصْحابُهُ عَلى عَقْرِها، ويُرْوى أنَّ مَلَأ القَبِيلِ اجْتَمَعَ عَلى أنَّ عَقْرَها، ورُوِيَتْ أسْبابٌ غَيْرُ هَذَيْنَ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ.
و"الصَيْحَةُ" يُرْوى أنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ صاحَها في طَرَفٍ مِن مَنازِلِهِمْ فَتَفَتَّتُوا وهَمَدُوا وكانُوا كَهَشِيمِ المُحْتَظِرِ، و"الهَشِيمُ" ما تَهَشَّمَ وتَفَتَّتَ مِنَ الأشْياءِ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "كَهَشِيمِ المُحْتَظِرِ" بِكَسْرِ الظاءِ، ومَعْناهُ الَّذِي يَصْنَعُ حَظِيرَةً مِنَ الرِعاءِ ونَحْوِهِمْ، قالَهُ ابْنُ إسْحاقَ السُبَيْعِيُّ والضَحّاكُ، وابْنُ زَيْدٍ، وهي مَأْخُوذَةٌ مِنَ الحَظْرِ وهو المَنعُ، والعَرَبُ وأهْلُ البَوادِي يَصْنَعُونَها لِلْمَواشِي والسُكْنى أيْضًا مِنَ الأغْصانِ والشَجَرِ المُورِقِ والقَصَبِ ونَحْوِهِ، ولِهَذا كُلُّهُ هَشِيمٌ يَتَفَتَّتُ، إمّا في أوَّلِ الصَنْعَةِ وإمّا عِنْدَ بَلْيِ الحَظِيرَةِ وتَساقُطِ أجْزائِها، وحَكى الطَبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقَتادَةَ أنَّ "المُحْتَظِرَ" مَعْناهُ: المُحْتَرِقُ، قالَ قَتادَةُ: كَهَشِيمٍ مُحْرِقٍ. وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ، وأبُو رَجاءٍ: "المُحْتَظَرِ" بِفَتْحِ الظاءِ، ومَعْناهُ: المَوْضِعُ الَّذِي احْتَظَرَ، فَهو مُفْتَعَلٌ مِنَ الحَظْرِ، أوِ الشَيْءُ الَّذِي احْتَظَرَ بِهِ، وقَدْ رُوِيَ عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أنَّهُ فَسَّرَ "كَهَشِيمِ المُحْتَظِرِ" بِأنْ قالَ: هو التُرابُ الَّذِي يَسْقُطُ مِنَ الحائِطِ البالِي، وهَذا مُتَوَجِّهٌ، لِأنَّ الحائِطَ حَظِيرَةُ، والساقِطُ هَشِيمٌ، وقالَ أيْضًا هو وغَيْرُهُ: المُحْتَظِرُ مَعْناهُ: المُحْرِقُ بِالنارِ، أيْ: كَأنَّهُ ما في المَوْضِعِ (p-١٥١)المُحْتَظِرِ بِالنارِ، وما ذَكَرْناهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وقَتادَةَ هو عَلى قِراءَةِ كَسْرِ الظاءِ، وفي هَذا التَأْوِيلِ بَعْضُ البُعْدِ، وقالَ قَوْمٌ: "المُحْتَظِرَ" بِالفَتْحِ-: الهَشِيمُ نَفْسُهُ، وهو مُفْتَعَلٌ، وهو كَمَسْجِدِ الجامِعِ وشَبْهِهِ.
وقَدْ تَقَدَّمَ قِصَصُ قَوْمِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَلامُ و"الحاصِبُ": السَحابُ الرامِي بِالبَرْدِ وغَيْرِهِ، فَشَبَّهَ تِلْكَ الحِجارَةَ الَّتِي رَمى بِها قَوْمَ لُوطٍ بِهِ في الكَثْرَةِ والتَوالِي، وهو مَأْخُوذٌ مِنَ الحَصْباءِ، كَأنَّ السَحابُ يُحَصِّبُ مَقْصِدَهُ، ومِنهُ قَوْلُ الفَرَزْدَقِ:
؎ مُسْتَقْبِلِينَ شَمالَ الشامِ تَحْصِبُهم ∗∗∗ بِحاصِبٍ كَنَدِيفِ القُطْنِ مَنثُورِ
وقالَ ابْنُ المُسَيِّبِ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ يَقُولُ لِأهْلِ المَدِينَةِ: حَصِّبُوا المَسْجِدَ، و"آلُ لُوطٍ": ابْنَتاهُ فِيما رُوِيَ، و"سَحَرٍ" مَصْرُوفٌ لِأنَّهُ نَكِرَةٌ لَمْ يُرَدْ بِهِ يَوْمٌ مُعَيَّنٌ.
وقَوْلُهُ تَعالى: "نِعْمَةً" نُصِبَ عَلى المَصْدَرِ، أيْ: فَعَلْنا ذَلِكَ إنْعامًا عَلى القَوْمِ الَّذِينَ نَجَّيْناهُمْ، وهَذا هو جَزاؤُنا لِمَن شَكَرَ نِعَمَنا وآمَنَ وأطاعَ.
{"ayahs_start":27,"ayahs":["إِنَّا مُرۡسِلُوا۟ ٱلنَّاقَةِ فِتۡنَةࣰ لَّهُمۡ فَٱرۡتَقِبۡهُمۡ وَٱصۡطَبِرۡ","وَنَبِّئۡهُمۡ أَنَّ ٱلۡمَاۤءَ قِسۡمَةُۢ بَیۡنَهُمۡۖ كُلُّ شِرۡبࣲ مُّحۡتَضَرࣱ","فَنَادَوۡا۟ صَاحِبَهُمۡ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ","فَكَیۡفَ كَانَ عَذَابِی وَنُذُرِ","إِنَّاۤ أَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِمۡ صَیۡحَةࣰ وَ ٰحِدَةࣰ فَكَانُوا۟ كَهَشِیمِ ٱلۡمُحۡتَظِرِ","وَلَقَدۡ یَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرࣲ","كَذَّبَتۡ قَوۡمُ لُوطِۭ بِٱلنُّذُرِ","إِنَّاۤ أَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِمۡ حَاصِبًا إِلَّاۤ ءَالَ لُوطࣲۖ نَّجَّیۡنَـٰهُم بِسَحَرࣲ","نِّعۡمَةࣰ مِّنۡ عِندِنَاۚ كَذَ ٰلِكَ نَجۡزِی مَن شَكَرَ"],"ayah":"إِنَّا مُرۡسِلُوا۟ ٱلنَّاقَةِ فِتۡنَةࣰ لَّهُمۡ فَٱرۡتَقِبۡهُمۡ وَٱصۡطَبِرۡ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق