الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي ونُذُرِ﴾ ﴿إنّا أرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا في يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ﴾ ﴿تَنْزِعُ الناسَ كَأنَّهم أعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ﴾ ﴿فَكَيْفَ كانَ عَذابِي ونُذُرِ﴾ ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ﴾ ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُذُرِ﴾ ﴿فَقالُوا أبَشَرًا مِنّا واحِدًا نَتَّبِعُهُ إنّا إذًا لَفي ضَلالٍ وسُعُرٍ﴾ ﴿أأُلْقِيَ الذِكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنا بَلْ هو كَذّابٌ أشِرٌ﴾ ﴿سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الكَذّابُ الأشِرُ﴾ "عادٌ" قَبِيلَةٌ، وقَدْ تَقَدَّمَ قَصَصُها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَكَيْفَ كانَ عَذابِي ونُذُرِ﴾، مَوْضِعُ "كَيْفَ" نُصِبَ، إمّا عَلى خَبَرِ "كانَ" وإمّا عَلى الحالِ، و"كانَ" بِمَعْنى: وجَدَ ووَقَعَ في هَذا الوَجْهِ، و"نُذُرٍ" جَمْعُ "نَذِيرٍ" وهو المَصْدَرُ، وقَرَأ ورْشٌ وحْدَهُ: "نُذُرِي" بِالياءِ، وقَرَأ الباقُونَ: "نُذُرِ" بِغَيْرِ ياءٍ عَلى خَطِّ المُصْحَفِ. (p-١٤٦)و"الصَرْصَرُ" قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ، والضَحّاكُ: مَعْناهُ: البارِدَةُ، وهو مِنَ الصَرِّ، وقالَ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: مَعْناهُ: المُصَوِّتَةُ نَحْوُ هَذَيْنَ الحَرْفَيْنِ، مَأْخُوذٌ مِن: صَرَّتِ الرِيحُ إذا هَبَّتْ دَفْعًا كَأنَّها تَنْطِقُ هَذَيْنَ الحَرْفَيْنِ: الصادُ والراءُ، وضُوعِفَ الفِعْلُ كَما قالُوا: "كَبْكَبَ وكَفْكَفَ" مِن "كَبَّ وكَفَّ"، وهَذا كَثِيرٌ، ولَمْ يَخْتَلِفِ القُرّاءُ في سُكُونِ الحاءِ مَن "نَحْسٍ" وإضافَةِ اليَوْمِ إلَيْهِ إلّا ما رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قَرَأ: "فِي يَوْمٍ" بِالتَنْوِينِ "نَحِسٍ" بِكَسْرِ الحاءِ و"مُسْتَمِرٍّ" مَعْناهُ: مُتَتابِعٌ، قالَ قَتادَةُ: اسْتَمَرَّ بِهِمْ ذَلِكَ النَحْسُ حَتّى بَلَغَهم جَهَنَّمَ، قالَ الضَحّاكُ في كِتابِ الثَعْلَبِيِّ: المَعْنى: كانَ مُرًّا عَلَيْهِمْ، وذَكَرَهُ النَقّاشُ عَنِ الحَسَنِ، ورُوِيَ أنَّ ذَلِكَ اليَوْمَ الَّذِي كانَ لَهم فِيهِ نَحْسٌ مُسْتَمِرٌّ كانَ يَوْمَ أرْبِعاءَ، ووَرَدَ في بَعْضِ الأحادِيثِ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ يَوْمِ الأرْبِعاءِ، فَتَأوَّلَ بَعْضُ الناسِ في ذَلِكَ أنَّهُ مُسْتَصْحَبٌ في الزَمانِ كُلِّهِ، وهَذا عِنْدِي ضَعِيفٌ، وإنَّ أبُو بِشْرٍ الدُولابِيُّ ذَكَرَ حَدِيثًا رَواهُ أبُو جَعْفَرٍ المَنصُورُ عن أبِيهِ عَلَيٍّ عن أبِيهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: « "آخِرُ أرْبِعاءَ مِنَ الشَهْرِ يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ"،» ويُوجَدُ نَحْوُ هَذا في كَلامِ الفُرْسِ والأعاجِمِ، وقَدْ وُجِدَ ذِكْرُ الأرْبِعاءِ الَّتِي لا تَدُورُ في بَعْضِ شِعْرِ الخُراسانِيِّينَ المَوْلَّدِينَ، وذَكَرَ الثَعْلَبِيُّ عن زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ لِعادٍ أنَّهُ كانَ في يَوْمِ أرْبِعاءَ لا تَدُورُ، وذَكَرَهُ النَقّاشُ عن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وقالَ: كانَ القَمَرُ مَنحُوسًا في رَجُلٍ، وهَذِهِ نَزْغَةُ سُوءٍ عِياذًا بِاللهِ تَعالى أنْ تَصِحَّ عن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَنْزِعُ الناسَ﴾ مَعْناهُ: تَنْقُلُهم مِن مَواضِعِهِمْ نَزْعًا فَتَطْرَحُهُمْ، ورُوِيَ عن مُجاهِدٍ أنَّها كانَتْ تُلْقِي الرَجُلَ عَلى رَأْسِهِ فَيَتَفَتَّتُ رَأْسُهُ وعُنُقُهُ وما يَلِي ذَلِكَ مِن يَدَيْهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَلِذَلِكَ حَسُنَ التَشْبِيهُ بِأعْجازِ النَخْلِ، لِأنَّهم كانُّو يَحْفِرُونَ حُفَرًا لِيَمْتَنِعُوا فِيها مِن (p-١٤٧)الرِيحِ، فَكَأنَّهُ شَبَّهَ الحُفَرَ بَعْدَ النَزْعِ بِحَفْرِ أعْجازِ النَخْلِ، والنَخْلُ تُذَكَّرُ وتُؤَنَّثُ فَلِذَلِكَ قالَ تَعالى هُنا: "مُنْقَعِرٍ"، وفي غَيْرِ هَذِهِ السُورَةِ "خاوِيَةٍ"، والكافُ في قَوْلِهِ تَعالى: "كَأنَّهم أعْجازُ" في مَوْضِعِ الحالِ، قالَهُ الزَجّاجُ، وما رُوِيَ مِن خَبَرِ الخُلْجانِ وغَيْرِهِ ضَعِيفٌ كُلُّهُ، وفائِدَةُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَكَيْفَ كانَ عَذابِي ونُذُرِ﴾ التَخْوِيفُ وهَزُّ الأنْفُسِ. قالَ الرُمّانِيُّ: لَمّا كانَ الإنْذارُ أنْواعًا كَرَّرَ التَذْكِيرَ والتَنْبِيهَ، وفائِدَةُ تَكْرارِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ﴾ التَأْكِيدُ والتَحْرِيضُ وتَنْبِيهُ الأنْفُسِ، وهَذا مَوْجُودٌ في تَكْرارِ الكَلامِ، مِثْلُ قَوْلِ النَبِيِّ ﷺ: « "ألا هَلْ بَلَّغْتُ؟ ألا هَلْ بَلَّغْتُ؟ ألا هَلْ بَلَّغْتُ؟"،» مِثْلُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: « "ألا وقَوْلُ الزُورِ، ألا وقَوْلُ الزُورِ، ألا وقَوْلُ الزُورِ، ألا وقَوْلُ الزُورِ"،» وكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَيْهِمْ ثَلاثًا، فَهَذا كُلُّهُ نَحْوٌ واحِدٌ وإنْ تَنَوَّعَ. و"ثَمُودُ" قَبِيلَةُ صالِحٍ عَلَيْهِ السَلامُ، وهم أهْلُ الحِجْرِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "أبَشَرًا مِنّا واحِدًا"، ونَصْبُهُ بِإضْمارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ نَتَّبِعُهُ، و"واحِدًا" نَعْتٌ لـ "بَشَرًا"، وقَرَأ أبُو السَمالِ: "أبَشَرٌ مِنّا واحِدًا نَتَّبِعُهُ"، ورَفْعُهُ إمّا عَلى إضْمارِ فِعْلٍ مَبْنِيٍّ لِلْمَفْعُولِ، التَقْدِيرُ: أيُنَبَّأُ بَشَرٌ؟ وإمّا عَلى الِابْتِداءِ، والخَبَرُ في قَوْلِهِ تَعالى: "نَتَّبِعُهُ"، و"واحِدًا" عَلى هَذِهِ القِراءَةِ حالٌ، إمّا مِنَ الضَمِيرِ في "نَتَّبِعُهُ" وإمّا عَنِ المُقَدَّرِ مَعَ "مِنّا"، كَأنَّهم يَقُولُونَ: أبَشَرٌ كائِنٌ مِنّا واحِدًا؟ وفي هَذا نَظَرٌ، وحَكى أبُو عَمْرٍو الدانِيُّ أنَّ قِراءَةَ أبِي السَمالِ: "أبَشَرٌ مِنّا واحِدٌ" بِالرَفْعِ فِيهِما، وهَذِهِ المَقالَةُ مِن ثَمُودَ حَسَدٌ مِنهم لِصالِحٍ عَلَيْهِ (p-١٤٨)السَلامُ، واسْتِبْعادُ أنْ يَكُونَ نَوْعُ البَشَرِ يُفَضَّلُ بَعْضُهُ بَعْضًا هَذا الفَضْلَ، فَقالُوا: أنَكُونُ جَمِيعًا ونُتَّبِعُ واحِدًا، ولَمْ يَعْلَمُوا أنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ تَعالى يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ، ويَفِيضُ نُورُ الهُدى مَن رَضِيَهُ. وقَوْلُهُمْ: "فِي ضَلالٍ" مَعْناهُ: في أمْرٍ مُتْلِفٍ مُهْلِكٍ بِالإتْلافِ، و"سُعُرٍ" مَعْناهُ: في احْتِراقِ أنْفُسٍ واسْتِعارِها حَنَقًا وهَمًّا بِاتِّباعِهِ، وقِيلَ في "السُعُرِ": العَناءُ، وقِيلَ الجُنُونُ، ومِنهُ قِيلَ: ناقَةٌ مَسْعُورَةٌ مَسْعُورَةٌ، إذا كانَتْ تُفْرِطُ في سَيْرِها، ثُمَّ زادُوا بِالتَوْفِيقِ بِقَوْلِهِمْ: ﴿أأُلْقِيَ الذِكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنا﴾ ؟ و"أُلْقِيَ" بِمَعْنى "أنْزِلَ"، وكَأنَّهُ يَتَضَمَّنُ عَجَلَةً في الفِعْلِ، والعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ هَذا الفِعْلَ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَألْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ [طه: ٣٩] ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا﴾ [المزمل: ٥]، و"الذِكْرُ" هُنا: الرِسالَةُ وما يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ جاءَهم بِهِ مِنَ الحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ. ثُمَّ قالُوا: ﴿بَلْ هو كَذّابٌ أشِرٌ﴾ أيْ: لَيْسَ الأمْرُ كَما يَزْعُمُ، و"الأشِرُ" البَطِرُ المَرِحُ، فَكَأنَّهم رَمَوْهُ بِأنَّهُ أشِرٌ فَأرادَ العُلُوَّ عَلَيْهِمْ وأنْ يَقْتادَهم ويَتَمَلَّكَ طاعَتَهُمْ، فَقالَ اللهُ تَعالى لِصالِحٍ عَلَيْهِ السَلامُ: ﴿سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الكَذّابُ الأشِرُ﴾، وهَذِهِ بِالياءِ مِن تَحْتٍ قِراءَةُ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ وجُمْهُورِ الناسِ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، وعاصِمٌ وابْنُ وثّابٍ، وطَلْحَةُ، والأعْمَشُ: "سَتَعْلَمُونَ" بِالتاءِ عَلى مَعْنى: قُلْ لَهم يا صالِحُ، وقَوْلُهُ تَعالى: "غَدًا" تَقْرِيبٌ يُرِيدُ بِهِ الزَمانَ المُسْتَقْبَلَ لا يَوْمًا بِعَيْنِهِ، ونَحْوُ المَثَلِ "مَعَ اليَوْمِ غَدٌ"، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "الأشِرُ" بِكَسْرِ الشِينِ كَحَذِرٍ بِكَسْرِ الذالِ، وقَرَأ مُجاهِدٌ -فِيما ذُكِرَ عنهُ- "الأشُرُ" بِضَمِّ الشِينِ كَحَذُرٍ بِضَمّ الذالِ، وهُما (p-١٤٩)بِناءانِ مِنَ اسْمِ الفاعِلِ، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: "الأشَرِ" بِفَتْحِ الشِينِ كَأنَّهُ وُصِفَ بِالمَصْدَرِ، وقَرَأ أبُو قُلابَةَ: "الأشَرِّ" بِفَتْحِ الشِينِ وشَدِّ الراءِ، وهو الأفْعَلُ، ولا يُسْتَعْمَلُ إلّا بِالألِفِ واللامِ، وهو كانَ الأصِيلُ لَكِنَّهُ رُفِضَ تَخْفِيفًا وكَثْرَةَ اسْتِعْمالٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب