الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ مِن قَبْلُ إنَّهم كانُوا هم أظْلَمَ وأطْغى﴾ ﴿والمُؤْتَفِكَةَ أهْوى﴾ ﴿فَغَشّاها ما غَشّى﴾ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى﴾ ﴿هَذا نَذِيرٌ مِنَ النُذُرِ الأُولى﴾ ﴿أزِفَتِ الآزِفَةُ﴾ ﴿لَيْسَ لَها مِن دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ﴾ ﴿أفَمِن هَذا الحَدِيثِ تَعْجَبُونَ﴾ ﴿وَتَضْحَكُونَ ولا تَبْكُونَ﴾ ﴿وَأنْتُمْ سامِدُونَ﴾ ﴿فاسْجُدُوا لِلَّهِ واعْبُدُوا﴾ نُصِبَ "قَوْمَ نُوحٍ" عَطْفًا عَلى "ثَمُودَ"، وقَوْلُهُ تَعالى: "مِن قَبْلُ" لِأنَّهم كانُوا أوَّلَ أُمَّةٍ كَذَّبَتْ مِن أهْلِ الأرْضِ، و"نُوحٌ" أوَّلُ الرُسُلِ، وجَعَلَهم "أظْلَمَ وأطْغى" لِأنَّهم سَبَقُوا إلى التَكْذِيبِ دُونَ اقْتِداءٍ بِأحَدٍ قَبْلَهُمْ، وأيْضًا فَإنَّهم كانُوا في غايَةٍ مِنَ العُتُوِّ، وكانَ عُمْرُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَلامُ قَدْ طالَ في دُعائِهِمْ، وكانَ الرَجُلُ يَأْتِي إلَيْهِ مَعَ ابْنِهِ فَيَقُولُ: أُحَذِّرُكَ مِن هَذا الرَجُلِ فَإنَّهُ كَذّابٌ، ولَقَدْ حَذَّرَنِي مِنهُ أبِي وأخْبَرَنِي أنَّ جَدِّي حَذَّرَهُ مِنهُ، فَمَشَتْ عَلى هَذا أخْلاقُهم ألْفًا إلّا خَمْسِينَ عامًا. و"المُؤْتَفِكَةَ" قَرْيَةُ قَوْمِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَلامُ بِإجْماعٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ، ومَعْنى "المُؤْتَفِكَةَ": المُتَقَلِّبَةُ؛ لِأنَّها أفِكَتْ فائْتَفَكَتْ، ومِنهُ "الإفْكُ" لِأنَّهُ قَلْبُ الحَقِّ كَذِبًا، وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "والمُؤْتَفِكاتِ" عَلى الجَمْعِ، و"أهْوى" مَعْناهُ: طَرَحَها مِن هَواءٍ عالٍ إلى أسْفَلَ، وهَذا ما رُوِيَ مِن أنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ اقْتَلَعَها بِجَناحِهِ حَتّى بَلَغَ بِها قُرْبَ السَماءِ فَهَبَطَ الجَمِيعُ، ثُمَّ أُتْبِعُوا بِحِجارَةٍ، وهي الَّتِي غَشّاها اللهُ تَبارَكَ وتَعالى. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى﴾ مُخاطَبَةٌ لِلْإنْسانِ الكافِرِ، كَأنَّهُ قِيلَ لَهُ: هَذا هو اللهُ الَّذِي لَهُ هَذِهِ الأفاعِيلُ، وهو خالِقُكَ المُنْعِمُ عَلَيْكَ بِكُلِّ النِعَمِ، فَفي أيُّها تَشُكُّ؟ و"تَتَمارى" مَعْناهُ: تَتَشَكَّكُ، وقَرَأ يَعْقُوبُ: "رَبِّكَ تَّمارى" بِتاءٍ واحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ، وقالَ أبُو مالِكٍ الغِفارِيُّ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ألا تَزِرُ وازِرَةٌ﴾ [النجم: ٣٨] إلى قَوْلِهِ تَعالى: "تَتَمارى" هو في صُحُفِ إبْراهِيمَ ومُوسى عَلَيْهِما السَلامُ. وقَوْلُهُ تَعالى: "هَذا نَذِيرٌ" يُحْتَمَلُ أنْ يُشِيرَ إلى مُحَمَّدٍ ﷺ، وهَذا قَوْلُ قَتادَةَ، وأبِي جَعْفَرٍ ومُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُشِيرَ إلى القُرْآنِ، وهو تَأْوِيلُ قَوْمٍ، وقالَ (p-١٣٣)أبُو مالِكٍ: الإشارَةُ بِهَذا النَذِيرِ إلى ما سَلَفَ مِنَ الأخْبارِ عَنِ الأُمَمِ، و"نَذِيرٌ" يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بِناءَ اسْمِ فاعِلٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، و"نَذَرَ" جَمْعُ نَذِيرٍ، وقالَ: "الأُولى" بِمَعْنى أنَّهُ في الرُتْبَةِ والأوصافُ والمَنزِلَةُ مِن تِلْكَ المُتَقَدِّمَةِ، والأشْبَهُ أنْ تَكُونَ الإشارَةُ إلى مُحَمَّدٍ ﷺ. وقَوْلُهُ تَعالى: "أزِفَتِ الآزِفَةُ" مَعْناهُ: قَرُبَتِ القَرِيبَةً، و"الآزِفَةُ" عِبارَةٌ عَنِ القِيامَةِ بِإجْماعٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ، و"أزِفَ" مَعْناهُ: قَرُبَ جِدًّا، قالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: ؎ بانَ الشَبابُ وأمْسى الشَيْبُ قَدْ أزِفا ولا أرى لِشَبابٍ ذاهِبٍ خَلَفا وقَوْلُهُ تَعالى: "كاشِفَةٌ" يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ صِفَةً لِمُؤَنَّثٍ، التَقْدِيرُ: حالَةٌ كاشِفَةٌ، أو مِنَّةٌ كاشِفَةٌ، أو سِعايَةٌ، قالَ الرُمّانِيُّ: أو جَماعَةٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كالعاقِبَةِ و"خائِنَةَ الأعْيُنِ"، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى "كاشِفٍ" والهاءُ لِلْمُبالَغَةِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿فَهَلْ تَرى لَهم مِن باقِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٨]، وأمّا مَعْنى "كاشِفَةٌ" فَقالَ الطَبَرِيُّ، والزَجّاجُ: هو مِن كَشْفِ السِرِّ، أيْ: لَيْسَ مِن دُونِ اللهِ مَن يَكْشِفُ وقْتَها ويَعْلَمُهُ، وقالَ الزَهْراوِيُّ عن مُنْذِرِ بْنِ سَعِيدٍ: هو مَن كَشْفِ الضُرِّ ودَفْعِهِ، أيْ: لَيْسَ مَن يَكْشِفُ هَوْلَها وخَطْبَها، وقَرَأ طَلْحَةُ: "لَيْسَ لَها مِمّا تَدَّعُونَ مِن دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ وهي عَلى الظالِمِينَ ساءَتِ الغاشِيَةُ". و"هَذا الحَدِيثُ" هو القُرْآنُ، وقَوْلُهُ تَعالى: "أفَمَن"؟ تَوْقِيفٌ وتَوْبِيخٌ، وفي حَرْفِ (p-١٣٤)أُبَيٍّ، وابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما "تَعْجَبُونَ"، تَضْحَكُونَ" بِغَيْرِ واوِ عَطْفٍ، وقَرَأ الحَسَنُ: "تَعْجَبُونَ تَضْحَكُونَ" بِضَمِّ التاءِ فِيهِما وكَسْرِ الجِيمِ والحاءِ وحَذْفِ واوِ العَطْفِ، وفي قَوْلِهِ تَعالى وجَلَّ: "وَلا تَبْكُونَ" حَضٌّ عَلى البُكاءِ عِنْدَ سَماعِ القُرْآنِ، ورَوى سَعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: « "إنَّ هَذا القُرْآنَ أُنْزِلَ يُخَوِّفُ، فَإذا قَرَأْتُمُوهُ فابْكُوا، فَإنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَباكَوْا"،» ذَكَرَهُ الثَعْلَبِيُّ. و"السامِدُ": اللاعِبُ اللاهِي، وبِهَذا فَسَّرَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما وغَيْرُهُ مِنَ المُفَسِّرِينَ، وقالَ الشاعِرُ: ؎ قِيلَ قُمْ فانْظُرْ إلَيْهِمْ ∗∗∗ ثُمَّ دَعْ عنكَ السُمُودا و"سَمَدَ" بِلُغَةِ حِمْيَرٍ: غَنّى، وهَذا كُلُّهُ مَعْنًى قَرِيبٌ بَعْضُهُ مِن بَعْضٍ، وأسْنَدَ الطَبَرِيُّ عن أبِي خالِدٍ الوالِبِيِّ، قالَ: خَرَجَ عَلَيْنا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عنهُ ونَحْنُ قِيامٌ نَنْتَظِرُ لِلصَّلاةِ فَقالَ: ما لِي أراكم سامِدِينَ؟ (p-١٣٥)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: يُشْبِهُ أنَّهُ رَآهم في أحادِيثَ ونَحْوِها مِمّا يَظُنُّ أنَّهُ غَفْلَةٌ ما، وقالَ إبْراهِيمُ: كانُوا يَكْرَهُونَ أنْ يَنْتَظِرُوا خُرُوجَ الإمامِ قِيامًا، وفي الحَدِيثِ: « "إذا أُقِيمَتِ الصَلاةُ فَلا تَقُومُوا حَتّى تَرَوْنِي"». ثُمَّ أمَرَ تَعالى بِالسُجُودِ وعِبادَةِ اللهِ تَحْذِيرًا وتَخْوِيفًا، وهاهُنا سَجْدَةٌ في قَوْلِ كَثِيرٍ مِن أهْلِ العِلْمِ مِنهم عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ ورَدَتْ بِها أحادِيثُ صِحاحٌ، ولَيْسَ يَراها مالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ تَعالى، وقالَ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: «إنَّهُ قَرَأ بِها عِنْدَ النَبِيِّ ﷺ فَلَمْ يَسْجُدْ.» تَمَّ تَفْسِيرُ سُورَةِ [النَجْمِ] والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب