الباحث القرآني

(p-١٠٤)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ النَجْمِ وهِيَ مَكِّيَّةٌ بِإجْماعٍ مِنَ المُتَأوِّلِينَ، وهي أوَّلُ سُورَةٍ أعْلَنَ بِها رَسُولُ اللهِ ﷺ، وجَهَرَ بِقِراءَتِها في الحَرَمِ والمُشْرِكُونَ يَسْتَمِعُونَ، وفِيها سَجَدَ وسَجَدَ مَعَهُ المُؤْمِنُونَ والمُشْرِكُونَ والجِنُّ والإنْسُ غَيْرُ أبِي لَهَبٍ فَإنَّهُ رَفَعَ حِفْنَةً مِن تُرابٍ إلى جَبْهَتِهِ وقالَ: يَكْفِينِي هَذا، وسَبَبُ هَذِهِ السُورَةِ أنَّ المُشْرِكِينَ قالُوا إنَّ مُحَمَّدًا يَتَقَوَّلُ القُرْآنَ ويَخْتَلِقُ أقْوالَهُ، فَنَزَلَتِ السُورَةُ في ذَلِكَ. قوله عزّ وجلّ: ﴿والنَجْمِ إذا هَوى﴾ ﴿ما ضَلَّ صاحِبُكم وما غَوى﴾ ﴿وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى﴾ ﴿إنْ هو إلا وحْيٌ يُوحى﴾ ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوى﴾ ﴿ذُو مِرَّةٍ فاسْتَوى﴾ ﴿وَهُوَ بِالأُفُقِ الأعْلى﴾ ﴿ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى﴾ ﴿فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أو أدْنى﴾ ﴿فَأوحى إلى عَبْدِهِ ما أوحى﴾ ﴿ما كَذَبَ الفُؤادُ ما رَأى﴾ أقْسَمَ اللهُ تَعالى بِهَذا المَخْلُوقِ تَشْرِيفًا لَهُ وتَنْبِيهًا مِنهُ لِيَكُونَ مُعْتَبِرًا فِيهِ، حَتّى تُؤَوَّلَ العِبْرَةُ فِيهِ إلى مَعْرِفَةِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى، وقالَ الزَهْراوِيُّ: المَعْنى: ورَبُّ النَجْمِ، وفي هَذا قَلِقَ مَعَ لَفْظِ الآيَةِ، واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في تَعْيِينِ النَجْمِ المُقْسَمِ بِهِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، والفَرّاءُ، وبَيَّنَهُ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: هو الجُمْلَةُ مِنَ القُرْآنِ إذا تَنَزَّلَتْ، وذَلِكَ أنَّهُ رُوِيَ أنَّ القُرْآنَ نَزَلَ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ نُجُومًا، أيْ: أقْدارًا مُقَدَّرَةً في أوقاتٍ ما، ويَجِيءُ "هَوى" -عَلى هَذا التَأْوِيلِ- بِمَعْنى نَزَلَ، وفي هَذا الهَوى بَعْدُ وتَحامَلَ عَلى (p-١٠٥)اللُغَةِ، ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُجُومِ﴾ [الواقعة: ٧٥]، والخِلافُ في هَذا كالخِلافِ في تِلْكَ، وقالَ الحَسَنُ، ومَعْمَرُ بْنُ المُثَنّى، وغَيْرُهُما: النَجْمُ هُنا اسْمُ جِنْسٍ، أرادُوا النُجُومَ إذا هَوَتْ، واخْتَلَفَ قائِلُوا هَذِهِ المَقالَةِ في مَعْنى "هَوى"، فَقالَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ: هَوى لِلْغُرُوبِ، وهَذا هو السابِقُ إلى الفَهْمِ مِن كَلامِ العَرَبِ، وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ، وأبُو حَمْزَةَ اليَمانِيُّ: هَوى عِنْدَ الِانْكِدارِ في القِيامَةِ، فَهي بِمَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذا الكَواكِبُ انْتَثَرَتْ﴾ [الإنفطار: ٢]، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما -فِي كِتابِ الثَعْلَبِيِّ -: هَوى في الِانْقِضاضِ في أثَرِ العِفْرِيَة، وهي رُجُوم الشَياطِين، وهَذا القَوْل تُساعِدُهُ اللُغَةُ، والتَأْوِيلاتُ في "هَوى" مُحْتَمَلَةٌ كُلُّها قَوِيَّةٌ، ومِنَ الشاهِدِ في النَجْمِ الَّذِي هو اسْمُ الجِنْسِ قَوْلُ الراعِي: ؎ فَباتَتْ تَعُدُّ النَجْمَ في مُسْتَحِيرَةٍ سَرِيعٍ بِأيْدِي الآكِلِينَ جُمُودُها يَصِفُ إهالَةً صافِيَةً، والمُسْتَحِيرَةُ: القِدْرُ الَّتِي يُطْبَخُ فِيها، قالَهُ الزَجّاجُ، وقالَ الرُمّانِيُّ: هي شَحْمَةٌ صافِيَةٌ حِينَ ذابَتْ. وقالَ مُجاهِدٌ، وسُفْيانُ: النَجْمُ في قَسَمِ الآيَةِ: الثُرَيّا، وسُقُوطُها مَعَ الفَجْرِ هو هَوِيُّها، والعَرَبُ لا تَقُولُ النَجْمَ مُطْلَقًا إلّا لِلثُّرَيّا ومِنهُ قَوْلُ العَرَبِ: ؎ "طَلَعَ النَجْمُ عِشاءً، ∗∗∗ فابْتَغى الراعِي كِساءَ، ∗∗∗ طَلَعَ النَجْمُ غُدَيَّهْ، ∗∗∗ فابْتَغى (p-١٠٦)الراعِي شُكَيَّهْ"، و"هَوى" -عَلى هَذا القَوْلِ- يُحْتَمَلُ الغُرُوبُ ويُحْتَمَلُ الِانْكِدارُ، و"هَوى" في اللُغَةِ مَعْناهُ: خَرْقُ الهَوى ومَقْصِدُهُ السُفْلُ، أو مَصِيرُهُ وإنْ لَمْ يَقْصِدْهُ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ هَوى ابْنِي مِن شَفا جَبَلٍ ∗∗∗ فَزَلَّتْ رِجْلُهُ ويَدُهُ وقَوْل الشاعِرِ: ؎ وإنَّ كَلامَ المَرْءِ في غَيْرِ كُنْهِهِ ∗∗∗ لَكالنُبْلِ تَهْوِي لَيْسَ فِيها نِصالُها وقَوْلُ زُهَيْرٍ: ؎ ............... ∗∗∗ هَوِيَّ الدَلْوِ أسْلَمَها الرِشاءُ (p-١٠٧)وَمِنهُ قَوْلُهم لِلْجَرادِ: الهاوِي، ومِنهُ هَوى العِقابُ. والقَسَمُ واقِعٌ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما ضَلَّ صاحِبُكم وما غَوى﴾، و"الضَلالُ" أبَدًا يَكُونُ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنَ الإنْسانِ إلَيْهِ، و"الغَيُّ" شَيْءٌ كَأنَّكَ تَتَكَسَّبُهُ وتُرِيدُهُ، فَنَفى اللهُ تَعالى عن نَبِيِّهِ ﷺ أنْ يَكُونَ ضَلَّ في هَذِهِ السَبِيلِ الَّتِي أسْلَكَهُ اللهُ تَعالى إيّاها، وأثْبَتَ اللهُ تَعالى في سُورَةِ [الضُحى] أنَّهُ قَدْ كانَ قَبْلَ النُبُوءَةِ ضالًّا بِالإضافَةِ إلى حالِهِ مِنَ الرُشْدِ بَعْدَها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى﴾ يُرِيدُ تَعالى مُحَمَّدًا ﷺ أنَّهُ لَيْسَ بِمُتَكَلِّمٍ عن هَواهُ، أيْ بِهَواهُ وشَهْوَتِهِ، وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: المَعْنى: وما يَنْطِقُ القُرْآنُ المُنَزَّلُ عن هَوًى وشَهْوَةٍ، ونَسَبٍ تَعالى النُطْقُ إلَيْهِ مِن حَيْثُ يَفْهَمُ مِنهُ كَما قالَ تَعالى: ﴿هَذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكم بِالحَقِّ﴾ [الجاثية: ٢٩]، وأسْنَدَ الفِعْلَ إلى القُرْآنِ ولَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ هو إلا وحْيٌ يُوحى﴾ يُرادُ بِهِ القُرْآنُ بِإجْماعٍ، والوَحْيُ: إلْقاءُ المَعْنى في خَفاءٍ، وهَذِهِ عِبارَةٌ تَعُمُّ المَلَكَ والإلْهامَ والإشارَةَ وكُلَّ ما يُحْفَظُ مِن مَعانِي الوَحْيِ. والضَمِيرُ في قَوْلِهِ تَعالى: "عَلَّمَهُ" يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِلْقُرْآنِ، والأظْهَرُ أنَّهُ لِمُحَمَّدٍ ﷺ، وأمّا المُعَلِّمُ فَقالَ قَتادَةُ، والرَبِيعُ، وابْنُ عَبّاسِ: هو جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَلامُ، أيْ: عَلَّمَ مُحَمَّدًا القُرْآنَ، وقالَ الحَسَنُ: المُعَلِّمُ الشَدِيدُ القُوى هو اللهُ تَعالى، و"القُوى" جَمْعُ قُوَّةٍ، وهَذا في جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ مُتَمَكِّنٌ، ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ﴾ [التكوير: ٢٠]، و"ذُو مِرَّةٍ" مَعْناهُ: ذُو قُوَّةٍ، قالَهُ قَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ، والرَبِيعُ، ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: « "لا تَحِلُّ الصَدَقَةُ لِغَنِيٍّ ولا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ"،» وأصْلُ المِرَّةِ مِن مَرائِرِ الحَبْلِ وهي فَتْلُهُ وإحْكامُ عَمَلِهِ، ومِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: (p-١٠٨) ؎ ................ ∗∗∗ بِكُلِّ مُمَرِّ الفَتْلِ شُدَّتْ بِيَذْبُلِ وقالَ قَوْمٌ مِمَّنْ قالَ إنَّ "ذا المِرَّةِ" جِبْرِيلُ: مَعْنى "ذُو مِرَّةٍ": ذُو هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ، وقالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْناهُ: ذُو جِسْمٍ طَوِيلٍ حَسَنٍ، وهَذا كُلُّهُ ضَعِيفٌ. و"اسْتَوى" مُسْنَدٌ إلى اللهِ تَعالى في قَوْلِ الحَسَنِ الَّذِي قالَ: إنَّهُ المُتَّصِفُ: بِقَوْلِهِ تَعالى: "شَدِيدُ القُوى"، وكَذَلِكَ يَجِيءُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَهُوَ بِالأُفُقِ الأعْلى﴾ صِفَةٌ لِلَّهِ تَعالى عَلى مَعْنًى: وعَظَمَتُهُ وقُدْرَتُهُ وسُلْطانُهُ نَتَتَلَقّى نَحْنُ أنَّهُ بِالأُفُقِ الأعْلى، ويَجِيءُ المَعْنى نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الرَحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥]، ومَن قالَ: إنَّ المُتَّصِفَ بِقَوْلِهِ تَعالى: "شَدِيدُ القُوى" هو جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَلامُ قالَ: إنَّ "اسْتَوى" مُسْتَنِدٌ إلى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ واخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ، فَقالَ الرَبِيعُ، والزَجّاجُ: المَعْنى: فاسْتَوى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَلامُ في الجَوِّ وهو إذْ ذاكَ بِالأُفُقِ الأعْلى، فَرَآهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِحِراءٍ قَدْ سَدَّ الأُفُقَ، لَهُ سَتُّمِائَةِ جَناحٍ، وحِينَئِذٍ دَنا مِن مُحَمَّدٍ ﷺ حَتّى كانَ قابَ قَوْسَيْنِ، وكَذَلِكَ هو المَرْئِيُّ -فِي هَذا القَوْلِ - في "النَزْلَةِ الأُخْرى" في صِفَتِهِ العَظِيمَةِ لَهُ سِتُّمِائَةُ جَناحٍ عِنْدَ السِدْرَةِ، وقالَ الطَبَرِيُّ والفَرّاءُ: المَعْنى: فاسْتَوى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَلامُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَهُوَ بِالأُفُقِ الأعْلى﴾ يَعْنِي مُحَمَّدًا ﷺ وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في الضَمِيرِ في "عِلْمِهِ"، وفي هَذا التَأْوِيلِ العَطْفُ عَلى المُضْمَرِ المَرْفُوعِ دُونَ أنْ يُؤَكَّدَ، وذَلِكَ عِنْدَ النُحاةِ مُسْتَقْبَحٌ، وأنْشَدَ الفَرّاءُ حُجَّةً عَلى قَوْلِهِ: (p-١٠٩) ؎ ألَم تَرَ أنَّ النَبْعَ يَصْلُبُ عُودُهُ ∗∗∗ ولا يَسْتَوِي والخِرْوَعُ المُتَقَصِّفُ وقَدْ يَنْعَكِسُ هَذا التَرْتِيبُ فَيَكُونُ "اسْتَوى" لِمُحَمَّدٍ ﷺ، وهو لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ، وأمّا "الأعْلى" فَهو عِنْدِي لِقِمَّةِ الرَأْسِ وما جَرى مَعَهُ، وقالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ: هو أُفُقٌ مَشْرِقِ الشَمْسِ، وهَذا التَخْصِيصُ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ. واخْتَلَفَ الناسُ، إلى مَنِ اسْتَنَدَ قَوْلُهُ تَعالى: "ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى"، فَقالَ الجُمْهُورُ: اسْتَنَدَ إلى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ، أيْ: دَنا إلى مُحَمَّدٍ ﷺ عِنْدَ حِراءٍ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وأنَسٌ رَضِيَ اللهُ عنهم في حَدِيثِ الإسْراءِ ما يَقْتَضِي أنَّهُ يَسْتَنِدُ إلى اللهِ تَعالى، ثُمَّ اخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ، فَقالَ مُجاهِدُ: كانَ الدُنُوُّ إلى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ، وقالَ بَعْضُهُمْ: كانَ إلى مُحَمَّدٍ ﷺ، و"دَنا فَتَدَلّى" عَلى هَذا القَوْلِ، مَعَهُ حَذْفُ مُضافٍ، أيْ دَنا سُلْطانُهُ ووَحْيُهُ وقَدَرُهُ، والِانْتِقالُ وهَذِهِ الأوصافُ مُنْتَفِيَةٌ في حَقِّ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى. والصَحِيحُ عِنْدِي أنَّ جَمِيعَ ما في هَذِهِ الآياتِ هو مَعَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى﴾ [النجم: ١٣]، فَإنَّ ذَلِكَ يَقْضِي بِنَزْلَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ، وما رُوِيَ قَطُّ أنَّ مُحَمَّدًا رَأى رَبَّهُ عَزَّ وجَلَّ قَبْلَ لَيْلَةِ الإسْراءِ، أما أنَّ رُؤْيَةَ القَلْبِ لا تُمْنَعُ بِحالٍ. (p-١١٠)وَ"دَنا" أعَمُّ مِن "تَدَلّى"، فَبَيَّنَ تَعالى بِقَوْلِهِ: "فَتَدَلّى" هَيْئَةُ الدُنُوِّ كَيْفَ كانَتْ و"قابَ"مَعْناهُ: قَدْرَ، وقالَ قَتادَةُ وغَيْرُهُ: مَعْناهُ: مِن طَرَفِ العُودِ إلى طَرَفِهِ الآخَرِ، وقالَ الحَسَنُ ومُجاهِدٌ: مِنَ الوَتَرِ إلى العُودِ في وسَطِ القَوْسِ عِنْدَ المِقْبَضِ. وقَرَأ مُحَمَّدُ بْنُ السَمَيْفَعِ اليَمانِيُّ: "وَكانَ قَيْسَ قَوْسَيْنِ"، والمَعْنى قَرِيبٌ مِن قابَ، ومِن هَذِهِ اللَفْظَةِ قَوْلُ النَبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ. « "لَقابُ قَوْسِ أحَدِكم في سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُنْيا وما فِيها"،» وفي حَدِيثٍ آخَرَ « "لَقابُ قَوْسِ أحَدِكم في الجَنَّةِ".» وقَوْلُهُ تَعالى: "أو أدْنى" مَعْناهُ: عَلى مُقْتَضى نَظَرِ البَشَرِ، أيْ: لَوْ رَآهُ أحَدُكم لَقالَ في ذَلِكَ: قَوْسانِ أو أدْنى، وقالَ أبُو رَزِينٍ: لَيْسَتْ بِهَذِهِ القَوْسِ ولَكِنْ قَدْرُ الذِراعَيْنِ أو أدْنى، وحَكى الزَهْراوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّ القَوْسَ في هَذِهِ الآيَةِ ذِراعٌ تُقاسُ بِهِ الأطْوالُ، وذَكَرَهُ الثَعْلَبِيُّ وأنَّهُ مِن لُغَةِ الحِجازِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأوحى إلى عَبْدِهِ ما أوحى﴾، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّ القَوْسَ في هَذِهِ الآيَةِ تُقاسُ بِهِ الأطْوالُ، وذَكَرَهُ الثَعْلَبِيُّ وأنَّهُ مِن لُغَةِ الحِجازِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأوحى إلى عَبْدِهِ ما أوحى﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: المَعْنى: فَأوحى اللهُ تَعالى: إلى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، ما أوحى، وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: المَعْنى: فَأوحى اللهُ تَعالى إلى عَبْدِهِ جِبْرِيلَ- عَلَيْهِ السَلامُ- ما أوحى، وفي قَوْلِهِ تَعالى: "ما أوحى" إبْهامٌ عَلى جِهَةِ التَفْخِيمِ والتَعْظِيمِ، والَّذِي عُرِفَ مِن ذَلِكَ فَرْضُ الصَلاةِ. وقالَ الحَسَنُ: المَعْنى: فَأوحى جِبْرِيلُ إلى عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِما الصَلاةُ والسَلامُ ما أوحى، كالأُولى في الإبْهامِ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: المَعْنى: فَأوحى جِبْرِيلُ إلى عَبْدِ اللهِ ما أوحى اللهُ إلى جِبْرِيلَ عَلَيْهِما الصَلاةُ والسَلامُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما كَذَبَ الفُؤادُ ما رَأى﴾، قَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ بِتَخْفِيفِ الذالِ عَلى مَعْنى: لَمْ يُكَذِّبْ قَلْبُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ الشَيْءَ الَّذِي رَأى بَلْ صَدَّقَهُ وتَحَقَّقَهُ نَظَرًا، و"كَذَبَ" يَتَعَدّى، وقالَ أهْلُ التَأْوِيلِ، ومِنهُمُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وأبُو صالِحٍ -: رَأى مُحَمَّدٌ ﷺ اللهَ تَعالى بِفُؤادِهِ، وقالَ آخَرُونَ مِنَ المُتَأوِّلِينَ: ما رَآهُ بِعَيْنِهِ لَمْ يُكَذِّبْ ذَلِكَ (p-١١١)قَلْبُهُ بَلْ صَدَّقَهُ وتَحَقَّقَهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ التَقْدِيرُ: "فِيما رَأى"، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما فِيما رَوى عنهُ- وعِكْرِمَةُ، وكَعْبُ الأحْبارِ: إنَّ مُحَمَّدًا ﷺ رَأى رَبَّهُ عَزَّ وجَلَّ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ، ويَبْسُطُ الزَهْراوِيُّ هَذا الكَلامَ عنهُمْ، وأبَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنهُا، وقالَتْ «أنا سَألْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عن هَذِهِ الآياتِ فَقالَ لِي: "هُوَ جِبْرِيلُ فِيها كُلُّها"،» وقالَ الحَسَنُ: المَعْنى: ما رَأى مِن مَقْدُوراتِ اللهِ تَعالى ومَلَكُوتِهِ، «وَسَألَ أبُو ذَرٍّ (p-١١٢)النَبِيَّ ﷺ: هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟ فَقالَ: "نُورٌ أنّى أراهُ"» وهَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ، وحَدِيثُ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُا عَنِ النَبِيِّ ﷺ قاطِعٌ لِكُلِّ تَأْوِيلٍ في اللَفْظِ؛ لِأنَّ قَوْلَ غَيْرِها إنَّما هو مُنْتَزَعٌ مِن ألْفاظِ القُرْآنِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما -فِيما رَوى عنهُ هِشامٌ -: "ما كَذَّبَ" بِتَشْدِيدِ الذالِ، وهي قِراءَةُ أبِي رَجاءٍ، وأبِي جَعْفَرٍ، وقَتادَةَ، والجَحْدَرَيِّ، وخالِدٍ، ومَعْناهُ بَيِّنٌ عَلى بَعْضِ ما قُلْناهُ، وقالَ كَعْبُ الأحْبارِ: إنَّ اللهَ تَعالى قَسَّمَ الكَلامَ والرُؤْيَةَ بَيْنَ مُوسى ومُحَمَّدٍ عَلَيْهِما الصَلاةُ والسَلامُ فَكَلَّمَ مُوسى مَرَّتَيْنِ، ورَآهُ مُحَمَّدٌ مَرَّتَيْنِ، وقالَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها: لَقَدْ قَفَّ شَعْرِي مِن سَماعِ هَذا، وقُلْتُ ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ [الأنعام: ١٠٣] الآيَةُ. وذَهَبَتْ هي وابْنُ مَسْعُودٍ، وقَتادَةُ وجُمْهُورُ العُلَماءِ إلى أنَّ المَرْئِيَّ هو جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَلامُ في المَرَّتَيْنِ: في الأرْضِ وعِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى لَيْلَةَ الإسْراءِ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ في سُورَةِ [الإسْراءِ]، وهو مَشْهُورٌ في الأرْضِ وعِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى لَيْلَةَ الأُسَراءِ، وهو مَشْهُورٌ في كُتُبِ الصِحاحِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وعاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ هَذِهِ السُورَةُ كُلُّها بِفَتْحِ أواخِرِ الآياتِ فِيها، وأمالَ عاصِمٌ -فِي رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ - "رَأى"، وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، بَيْنَ الفَتْحِ والكَسْرِ، وأمالَ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ جَمِيعَ ما في السُورَةِ، وأمالَ أبُو عَمْرٍو -فِيما رَوى عنهُ أبُو عُبَيْدٍ - "الأعْلى" و"تَدَلّى".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب