قوله عزّ وجلّ:
﴿أفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى﴾ ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى﴾ ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى﴾ ﴿عِنْدَها جَنَّةُ المَأْوى﴾ ﴿إذْ يَغْشى السِدْرَةَ ما يَغْشى﴾ ﴿ما زاغَ البَصَرُ وما طَغى﴾ ﴿لَقَدْ رَأى مِن آياتِ رَبِّهِ الكُبْرى﴾
قَوْلُهُ تَعالى: "أفَتُمارُونَهُ" خِطابٌ لِقُرَيْشٍ، وهو مِنَ المِراءِ، والمَعْنى: أتُجادِلُونَهُ في شَيْءٍ رَآهُ وأبْصَرَهُ؟ وهَذِهِ قِراءَةُ الجُمْهُورِ وأهْلُ المَدِينَةِ، وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ: "أفَتَمْرُونَهُ" بِفَتْحِ التاءِ دُونَ ألْفٍ بَعْدِ المِيمِ، (p-١١٣)والمَعْنى: أفَتَجِدُونَهُ؟ وذَلِكَ أنْ قُرَيْشًا لَمّا أخْبَرَها رَسُولُ اللهِ ﷺ بِأمْرِهِ في الإسْراءِ كَذَّبُوا واسْتَخَفُّوا حَتّى وصَفَ لَهم بَيْتَ المَقْدِسِ وأمَرَ عِيرَهم وغَيْرَ ذَلِكَ مِمّا هو في حَدِيثِ الإسْراءِ مُسْتَقْصًى، ورَواها سَعِيدٌ عَنِ النَخْعِيِّ: "أفَتُمْرُونَهُ" بِضَمِّ التاءِ، قالَ أبُو حاتِمٍ: وذَلِكَ غَلَطٌ مِن سَعِيدٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: "يَرى" مُسْتَقْبَلًا والرُؤْيَةُ قَدْ مَضَتْ عِبارَةٌ تَعُمُّ جَمِيعَ ما مَضى وتُشِيرُ إلى ما يُمْكِنُ أنْ يَقَعَ بَعْدُ، وفي هَذا نَظَرٌ.
واخْتَلَفَ الناسُ في الضَمِيرِ في قَوْلِهِ تَعالى: "وَلَقَدْ رَآهُ" حَسَبَ ما قَدَّمْناهُ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وكَعْبُ الأحْبارِ: هو عائِدٌ عَلى اللهِ تَعالى، وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وعائِشَةُ، ومُجاهِدٌ، والرَبِيعُ: هو عائِدٌ عَلى جِبْرِيلَ و"نَزْلَةً" مَعْناهُ: مَرَّةَ، ونَصْبُهُ عَلى المَصْدَرِ في مَوْضِعِ الحالِ. و"سِدْرَةِ المُنْتَهى" هي شَجَرَةُ نَبْقٍ قالَ كَعْبٌ: هي في السَماءِ السابِعَةِ، ورَوى ذَلِكَ مالِكُ بْنُ صَعْصَعَةَ عَنِ النَبِيِّ ﷺ، وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: في السَماءِ السادِسَةِ وقِيلَ لَها "سِدْرَةِ المُنْتَهى" لِأنَّها إلَيْها يَنْتَهِي عِلْمُ كُلِّ عالِمٍ، ولا يَعْلَمُ ما وراءَها صَعِدًا إلّا اللهُ تَبارَكَ وتَعالى، وقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأنَّها إلَيْها يَنْتَهِي مَن ماتَ عَلى سُنَّةِ النَبِيِّ ﷺ، وهُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا مَن كُلِّ جِيلٍ، وقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأنَّ ما نَزَلَ مِن أمْرِ اللهِ تَعالى فَعِنْدَها يُتَلَقّى، ولا يَتَجاوَزُها مَلائِكَةُ العُلُوِّ، وما صَعِدَ مِنَ الأرْضِ فَعِنْدَها يَتَلَقّى ولا يَتَجاوَزُها مَلائِكَةُ السُفْلِ، ورُوِيَ عن رَسُولِ اللهِ ﷺ، أنَّ الأُمَّةَ مِنَ الأُمَمِ تَسْتَظِلُّ بِظِلِّ الفَنَنِ مِنها، وقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (p-١١٤)« "رُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ المُنْتَهى فَإذا نَبْقُها مِثْلُ قِلالِ هَجَرٍ، وإذا ورَقُها مِثْلُ آذانِ الفِيَلَةِ".»
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿عِنْدَها جَنَّةُ المَأْوى﴾، قالَ الجُمْهُورُ: أرادَ تَعالى أنْ يُعَظِّمَ مَكانَ السِدْرَةِ ويُشَرِّفَهُ بِأنَّ جَنَّةَ المَأْوى عِنْدَها، قالَ الحَسَنُ: وهي الجَنَّةُ الَّتِي وُعِدَ بِها المُؤْمِنُ العالِمُ، وقالَ قَتادَةُ، وابْنُ عَبّاسٍ بِخِلافٍ-: هي جَنَّةٌ تَأْوِي إلَيْها أرْواحُ الشُهَداءِ والمُؤْمِنِينَ ولَيْسَتْ بِالجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ بِها المُؤْمِنُونَ جَنَّةَ النَعِيمِ، وهَذا يَحْتاجُ إلى سَنَدٍ، وما أراهُ يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وأنَسُ بْنُ مالِكٍ -بِخِلافٍ- وابْنُ الزُبَيْرِ، وأبُو الدَرْداءِ، وزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، وقَتادَةُ، ومُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: "عِنْدَها جَنَّةُ المَأْوى" بِالهاءِ في "جَنَّةِ"، وهو ضَمِيرُ مُحَمَّدٍ ﷺ، والمَعْنى: سَتَرَهُ وضَمَّهُ إيواءُ اللهِ تَعالى وجَمِيلُ صُنْعِهِ بِهِ، يُقالُ: "جَنَّهُ اللَيْلُ وأجَنَّهُ"، ورَدَّتْ عائِشَةُ وصَحابَةٌ مَعَها رَضِيَ اللهُ عنهم هَذِهِ القِراءَةَ وقالُوا: أجَنَّ اللهُ مَن قَرَأها، والجُمْهُورُ قَرَأ: "جَنَّةُ" كالآيَةِ الأُخْرى: ﴿فَلَهم جَنّاتُ المَأْوى نُزُلا﴾ [السجدة: ١٩] وحَكى الثَعْلَبِيُّ أنَّ مَعْنى "جَنَّةُ المَأْوى" ضَمَّهُ المَبِيتُ واللَيْلُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ يَغْشى السِدْرَةَ ما يَغْشى﴾، العامِلُ في "إذْ" "رَآهُ"، المَعْنى: رَآهُ في هَذِهِ الحالِ، و"ما يَغْشى" مَعْناهُ: مِن قُدْرَةِ اللهِ تَعالى وأنْواعِ الصِفاتِ الَّتِي يَخْتَرِعُها لَها، وذَلِكَ مُبْهَمٌ عَلى جِهَةِ التَفْخِيمِ والتَعْظِيمِ، وقالَ مُجاهِدٌ: ذَلِكَ تَبَدُّلُ أغْصانِها دُرًّا وياقُوتًا ونَحْوَهُ، وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، ومَسْرُوقٌ، ومُجاهِدٌ، وإبْراهِيمُ: ذَلِكَ جَرادٌ مَن ذَهَبٍ كانَ يَغْشاها، ورَوى ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّ النَبِيَّ ﷺ قالَ: « "رَأيْتُها ثُمَّ حالَ دُونَها فِراشٌ مِنَ الذَهَبِ"،» وقالَ الرَبِيعُ، وأبُو هُرَيْرَةَ: كانَ يَغْشاها المَلائِكَةُ كَما يَغْشى الطَيْرُ الشَجَرَ، وقِيلَ غَيْرُ هَذا مِمّا هو تَكَلُّفٌ في الآيَةِ لِأنَّ اللهَ تَعالى أبْهَمَ ذَلِكَ وهم يُرِيدُونَ شَرْحَهُ، وقَدْ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: « "فَغَشِيَها ألْوانٌ لا أدْرِي ما هِيَ؟"».
(p-١١٥)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما زاغَ البَصَرُ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: مَعْناهُ: ما حالَ هَكَذا ولا هَكَذا، وقَوْلُهُ تَعالى: "وَما طَغى" مَعْناهُ: ولا تَجاوَزَ المَرْئِيَّ بَلْ وقَعَ عَلَيْهِ وُقُوعًا صَحِيحًا، وهَذا تَحْقِيقٌ لِلْأمْرِ ونَفْيٌ لِوُجُوهِ الرَيْبِ عنهُ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ رَأى مِن آياتِ رَبِّهِ الكُبْرى﴾. قالَتْ جَماعَةٌ مِن أهْلِ التَأْوِيلِ: لَقَدْ رَأى الكُبْرى مِن آياتِ رَبِّهِ، والمَعْنى: مِن آياتِ رَبِّهِ الَّتِي يُمْكِنُ أنْ يَراها البَشَرُ، فَـ "الكُبْرى"- عَلى هَذا- مَفْعُولٌ بـِ "رَأى"، وقالَ آخَرُونَ: المَعْنى: لَقَدْ رَأى بَعْضًا مِن آياتِ رَبِّهِ الكُبْرى، فـَ "الكُبْرى"- عَلى هَذا- وصْفٌ لـ "آياتٍ"، والجَمْعُ مِمّا لا يَعْقِلُ في المُؤَنَّثِ يُوصَفُ أبَدًا عَلى حَدِّ وصْفِ الواحِدَةِ، وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، رَأى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ في الصُورَةِ الَّتِي هو بِها في السَماواتِ.
{"ayahs_start":12,"ayahs":["أَفَتُمَـٰرُونَهُۥ عَلَىٰ مَا یَرَىٰ","وَلَقَدۡ رَءَاهُ نَزۡلَةً أُخۡرَىٰ","عِندَ سِدۡرَةِ ٱلۡمُنتَهَىٰ","عِندَهَا جَنَّةُ ٱلۡمَأۡوَىٰۤ","إِذۡ یَغۡشَى ٱلسِّدۡرَةَ مَا یَغۡشَىٰ","مَا زَاغَ ٱلۡبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ","لَقَدۡ رَأَىٰ مِنۡ ءَایَـٰتِ رَبِّهِ ٱلۡكُبۡرَىٰۤ"],"ayah":"مَا زَاغَ ٱلۡبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ"}