الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿أفَسِحْرٌ هَذا أمْ أنتُمْ لا تُبْصِرُونَ﴾ ﴿اصْلَوْها فاصْبِرُوا أو لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكم إنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ﴿إنَّ المُتَّقِينَ في جَنّاتٍ ونَعِيمٍ﴾ ﴿فاكِهِينَ بِما آتاهم رَبُّهم ووَقاهم رَبُّهم عَذابَ الجَحِيمِ﴾ ﴿كُلُوا واشْرَبُوا هَنِيئًا بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ﴿مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وزَوَّجْناهم بِحُورٍ عِينٍ﴾ (p-٩٠)لِما قِيلَ لَهُمْ: "هَذِهِ النارُ" وقَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلى الجِهَتَيْنِ الَّتِي يُمَكِّنُ مِنهُما دُخُولُ الشَكِّ في أنَّها النارُ، وهُما: إمّا أنْ يَكُونَ ثُمَّ سِحْرٌ يُلَبِّسُ ذاتَ المَرْئِي، وإمّا أنْ يَكُونَ في بَصَرِ الناظِرِ اخْتِلالٌ، وأمْرُهم بِصَلْيِها عَلى جِهَةِ التَقْرِيعِ، ثُمَّ قِيلَ لَهم عَلى جِهَةِ قَطْعِ رَجائِهِمْ: ﴿فاصْبِرُوا أو لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ﴾ أيْ: عَذابُكم حَتْمٌ، فَسَواءٌ جَزْعُكم وصَبْرُكُمْ، لا بُدَّ مِن جَزاءِ أعْمالِكم. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ المُتَّقِينَ في جَنّاتٍ ونَعِيمٍ﴾ الآيَةُ... يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خِطابَ أهْلِ النارِ فَيَكُونُ إخْبارُهم بِذَلِكَ زِيادَةً في غَمِّهِمْ وسُوءِ حالِهِمْ، ويُحْتَمَلُ -وَهُوَ الأظْهَرُ- أنْ يَكُونَ إخْبارًا لِمُحَمَّدٍ ﷺ ومُعاصِرِيهِ، لَمّا فَرَغَ مِن ذِكْرِ عَذابِ الكَفّار عَقَّبَ ذَلِكَ بِنَعِيمِ المُتَّقِينَ لِيُبَيِّنَ الفَرْقَ ويَقَعَ التَحْرِيضُ عَلى الإيمانِ. و"المُتَّقُونَ" هُنا مُتَّقُو الشِرْكِ لِأنَّهم لا بُدَّ مِن مَصِيرِهِمْ إلى الجَنّاتِ وكُلَّما زادَتِ الدَرَجَةُ في التَقْوى قَوِيَ الحُصُولُ في حُكْمِ الآيَةِ حَتّى أنَّ المُتَّقِينَ عَلى الإطْلاقِ هم في حُكْمِ الآيَةِ قَطْعًا عَلى اللهِ تَعالى بِحُكْمِ خَبَرِهِ الصادِقِ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "فاكِهِينَ"، فَرِحِينَ مَسْرُورِينَ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: هو مِن بابِ "لِابْنٍ وتامِرٍ" أيْ: لَهم فاكِهَةٌ، قالَ القاضِي والمَعْنى الأوَّلُ أبْرَعُ، وقَرَأ خالِدٌ فِيما حَكى أبُو حاتِمٍ: "فاكِهِينَ"، والفَكِهُ والفاكِهُ: المَسْرُورُ المُتَنَعِّمُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِما آتاهم رَبُّهُمْ﴾ أيْ: مِن إنْعامِهِ ورِضاهُ عنهُمْ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَوَقاهم رَبُّهم عَذابَ الجَحِيمِ﴾، هَذا مُتَمَكِّنٌ في مُتَّقِي المَعاصِي الَّذِي لا يَدْخُلُ النارَ، ويَكُونُ في مُتَّقِي الشِرْكِ الَّذِي يُنَفَّذُ عَلَيْهِ الوَعِيدُ بِمَعْنى: ووَقاهم رَبُّهم عَذابَ الخُلُودِ في الجَحِيمِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ "الجَحِيمِ" مِن طَبَقاتِ جَهَنَّمَ لَيْسَتْ بِمَأْوًى لِلْعُصاةِ المُؤْمِنِينَ، بَلْ هي مُخَصَّصَةٌ لِلْكَفَرَةِ، فَهم وإنْ عُذِّبُوا في نارٍ فَلَيْسُوا في عَذابِ الجَحِيمِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "وَوَقاهُمْ" بِتَخْفِيفِ القافِ، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ بِتَشْدِيدِها عَلى المُبالَغَةِ، وذَلِكَ كُلُّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الوِقايَةِ وهي الحائِلُ بَيْنَ الشَيْءِ وبَيْنَ ما يَضُرُّهُ. والمَعْنى: يُقالُ لَهُمْ: ﴿كُلُوا واشْرَبُوا هَنِيئًا﴾، و"هَنِيئًا" نُصِبَ عَلى المَصْدَرِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ مَعْناهُ أنَّ رُتَبَ الجَنَّةِ ونَعِيمَها هي بِحَسَبِ الأعْمالِ، وأمّا نَفْسُ دُخُولِها فَهو بِرَحْمَةِ اللهِ تَعالى وتَغَمُّدِهِ، والأكْلُ والشُرْبُ والتَهَنِّي لَيْسَ مِنَ الدُخُولِ في شَيْءٍ، وأعْمالُ العِبادِ الصالِحَةِ لا تُوجِبُ عَلى اللهِ تَعالى التَنْعِيمَ إيجابًا، لَكِنَّهُ سُبْحانَهُ قَدْ جَعَلَها أمارَةً عَلى مَن (p-٩١)سَبَقَ في عِلْمِهِ تَنْعِيمُهُ، وعَلَّقَ الثَوابَ والعِقابَ بِالتَكَسُّبِ الَّذِي في الأعْمالِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "مُتَّكِئِينَ" نُصِبَ عَلى الحالِ، عَلى حَدِّ قَوْلِهِ تَعالى: "فاكِهِينَ"، والعامِلُ في هاتَيْنِ الحالَتَيْنِ الفِعْلُ مُقَدَّرٌ في قَوْلِهِ تَعالى: "فِي جَنّاتٍ"، ويَجُوزُ غَيْرُ هَذا، وفي هَذا نَظَرٌ، وقَرَأ أبُو السَمالِ: "عَلى سُرُرٍ" بِفَتْحِ الراءِ الأُولى و"زَوَّجْناهُمْ" مَعْناهُ: جَعَلْنا لِكُلِّ فَرْدٍ مِنهم زَوْجًا، و"الحُورُ" جَمْعُ حَوْراءَ، وهي البَيْضاءُ القَوِيَّةُ بَياضَ بَياضِ العَيْنِ وسَوادَ سَوادِها، و"العَيْنُ" جَمْعُ عَيْناءَ، وهي الكَسِيرَةُ العَيْنَيْنِ مَعَ جَمالِهِما، وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وإبْراهِيمَ النَخْعِيِّ: "وَزَوَّجْناهم بِعَيْسٍ عِينٍ"، قالَ أبُو الفَتْحِ: العَيْساءُ: البَيْضاءُ، وقَرَأ عِكْرِمَةُ: "وَزَوَّجْناهم حُورًا عِينًا"، وحَكى أبُو عَمْرٍو عن عِكْرِمَةَ أنَّهُ قَرَأ: "بِعِيسٍ عَيْنٍ" عَلى إضافَةِ "عِيسٍ" إلى "عَيْنٍ".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب