الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ العَذابَ الألِيمَ﴾ ﴿وَفِي مُوسى إذْ أرْسَلْناهُ إلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ ﴿فَتَوَلّى بِرُكْنِهِ وقالَ ساحِرٌ أو مَجْنُونٌ﴾ ﴿فَأخَذْناهُ وجُنُودَهُ فَنَبَذْناهم في اليَمِّ وهو مُلِيمٌ﴾ ﴿وَفِي عادٍ إذْ أرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِيحَ العَقِيمَ﴾ ﴿ما تَذَرُ مِن شَيْءٍ أتَتْ عَلَيْهِ إلا جَعَلَتْهُ كالرَمِيمِ﴾ ﴿وَفِي ثَمُودَ إذْ قِيلَ لَهم تَمَتَّعُوا حَتّى حِينٍ﴾ ﴿فَعَتَوْا عن أمْرِ رَبِّهِمْ فَأخَذَتْهُمُ الصاعِقَةُ وهم يَنْظُرُونَ﴾ المَعْنى: وتَرَكْنا في القَرْيَةِ المَذْكُورَةِ -وَهِيَ سَدُومُ- أثَرًا مِنَ العَذابِ باقِيًا مُؤَرَّخًا لا يَفْنى ذِكْرُهُ، فَهو آيَةٌ -أيْ: عَلامَةٌ- عَلى قُدْرَةِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى وانْتِقامِهِ مِنَ الكَفَرَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: وتَرَكْنا في أمْرِها، كَما قالَ: ﴿لَقَدْ كانَ في يُوسُفَ وإخْوَتِهِ آياتٌ لِلسّائِلِينَ﴾ [يوسف: ٧] وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: تَرَكَ فِيها حَجَرًا مَنضُودًا كَثِيرًا جِدًّا، و( الَّذِينَ (p-٧٧)يَخافُونَ العَذابَ ) هُمُ العارِفُونَ بِاللهِ تَعالى. وقَوْلُهُ تَعالى: "وَفِي مُوسى" يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ تَعالى: "فِيها"، أيْ: وتَرَكْنا في مُوسى وقِصَّتِهِ أثَرًا أيْضًا هو آيَةٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ تَعالى قَبْلُ: ﴿وَفِي الأرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ [الذاريات: ٢٠]، وفِرْعَوْنُ هو صاحِبُ مِصْرَ، و"السُلْطانُ" في هَذِهِ الآيَةِ: الحُجَّةُ، و"تَوَلّى" مَعْناهُ أعْرَضَ وأدْبَرَ عن أمْرِ اللهِ تَعالى، و"رُكْنِهِ": سُلْطانُهُ وجُنْدُهُ وشِدَّةُ أمْرِهِ، وهو الأمْرُ الَّذِي يَرْكَنُ فِرْعَوْنُ إلَيْهِ ويَسْنِدُ في شَدائِدِهِ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: "بِرُكْنِهِ": بِجُمُوعِهِ، وقالَ قَتادَةُ: بِقَوْمِهِ، وقَوْلُ فِرْعَوْنَ في مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ: "ساحِرٌ أو مَجْنُونٌ" هو تَقْسِيمُ ظَنٍّ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ أحَدَ هَذَيْنِ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: "أو" هُنا بِمَعْنى "الواوِ"، واسْتَشْهَدَ بِبَيْتِ جَرِيرٍ: ؎ أثَعْلَبَةَ الفَوارِسِ أو رِياحًا عَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيَّةَ والخِشابا؟ والخِشابُ: بُيُوتٌ في بَنِي تَمِيمٍ، وقَوْلُ أبِي عُبَيْدَةَ ضَعِيفٌ لا داعِيَةَ إلَيْهِ في هَذا المَوْضِعِ، "وَنَبَذْناهُمْ" مَعْناهُ: طَرَحْناهم و"اليَمُّ": البَحْرُ، وفي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "فَنَبَذْناهُ"، و"المُلِيمُ": الَّذِي أتى مِنَ المَعاصِي ونَحْوِها ما يُلامُ عَلَيْهِ، وقالَ أُمِّيَّةُ بْنُ أبِي الصَلْتِ: ؎ ......................... ∗∗∗ ومَن يَخْذُلْ أخاهُ فَقَدْ ألاما (p-٧٨)وَقَوْلُهُ تَعالى: "وَفِي عادٍ" عُطِفَ عَلى قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: "وَفِي مُوسى". وعادٍ هي قَبِيلَةُ هُودٍ النَبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ، و"العَقِيمَ" مَعْناهُ: الَّتِي لا بَرَكَةَ فِيها، لا تُلَقِّحُ شَجَرًا ولا تَسُوقُ مَطَرًا، وقالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ: كانَتْ رِيحُ الجَنُوبِ، ورُوِيَ عن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ: كانَتْ نَكْباءَ، وهَذا عِنْدِي لا يَصِحُّ عن عَلِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ لِأنَّهُ يُرادُّ قَوْلَ النَبِيِّ ﷺ: « "نُصِرْتُ بِالصَبا، وأُهْلِكَتْ عادٌ بِالدَبُّورِ"،» و"تَذَرُ" مَعْناهُ: تَدَعُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن شَيْءٍ أتَتْ عَلَيْهِ﴾ يَعْنِي مِمّا أذِنَ اللهُ تَعالى لَها في إهْلاكِهِ، و"الرَمِيمُ": الفانِي المُتَقَطِّعُ يَبِسًا أو قِدَمًا مِنَ الأشْجارِ والوَرَقِ والحِبالِ أوِ العِظامِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ مَن يُحْيِي العِظامَ وهي رَمِيمٌ﴾ [يس: ٧٨]، أيْ في قِوامِ الرَمادِ، ورُوِيَ حَدِيثٌ: « "إنَّ تِلْكَ الرِيحَ كانَتْ تَهُبُّ عَلى الناسِ فِيهِمُ العادِيَّ وغَيْرُهُ، فَتَنْتَزِعُ العادِيَّ مِن بَيْنِ الناسِ وتَذْهَبُ بِهِ".» وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَفِي ثَمُودَ إذْ قِيلَ لَهم تَمَتَّعُوا حَتّى حِينٍ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ: قِيلَ لَهم في أوَّلِ بَعْثِ صالِحٍ عَلَيْهِ السَلامُ: آمِنُوا وأطِيعُوا فَتَمَتَّعُوا مَتاعًا حَسَنًا إلى آجالِكُمْ، وهو "الحِينُ" عَلى هَذا، وهو قَوْلُ الحَسَنِ حَكاهُ عَنِ الرُمّانِيِّ، ويَجِيءُ قَوْلُهُ تَعالى: "فَعَتَوْا" مُرَتَّبًا لَفْظًا في الآيَةِ ومَعْنى في الوُجُودِ مُتَأخِّرًا عَنِ القَوْلِ لَهم "تَمَتَّعُوا"، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: إذْ قِيلَ لَهم بَعْدَ عَقْرِ الناقَةِ: ﴿تَمَتَّعُوا في دارِكم ثَلاثَةَ أيّامٍ﴾ [هود: ٦٥]، وهي "الحِينُ" عَلى هَذا التَأْوِيلِ، وهو قَوْلُ الفَرّاءِ، ويَجِيءُ قَوْلُهُ تَعالى: "فَعَتَوْا" غَيْرُ مُرَتَّبِ المَعْنى في وُجُودِهِ، لِأنَّ عُتُوَّهم كانَ قَبْلَ أنْ يُقالَ لَهُمْ: "تَمَتَّعُوا"، وكَأنَّ المَعْنى: فَكانَ مِن أمْرِهِمْ قَبْلَ هَذِهِ المَقالَةِ أنَّ عُتُوًّا، وهو السَبَبُ في أنْ قِيلَ لَهم ذَلِكَ وعُذِّبُوا. وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ: "الصاعِقَةُ"، وقَرَأ الكِسائِيُّ، وهي قِراءَةُ عُمَرَ وعُثْمانَ رَضِيَ اللهُ عنهُما-: "الصَعْقَةُ"، (p-٧٩)وَهِيَ -عَلى القِراءَتَيْنِ- الصَيْحَةُ العَظِيمَةُ، ومِنهُ يُقالُ لِلْوَقْعَةِ الشَدِيدَةِ مِنَ الرَعْدِ: صاعِقَةٌ، وهي الَّتِي تَكُونُ مَعَها النارُ الَّتِي يُرْوى في الحَدِيثِ أنَّها مِنَ المِخْراقِ الَّذِي بِيَدِ مَلِكٍ يَسُوقُ السَحابَ. وقَوْلُهُ تَعالى: "وَهم يَنْظُرُونَ" يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: فَجْأةً وهم يُبْصِرُونَ بِعُيُونِهِمْ حالَهُمْ، وهَذا قَوْلُ الطَبَرِيِّ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: وهم يَنْظُرُونَ ذَلِكَ في تِلْكَ الأيّامِ الثَلاثَةِ الَّتِي أُعْلِمُوا بِهِ فِيها ورَأوا عَلاماتِهِ في تَلَوُّنِهِمْ، وهَذا قَوْلُ مُجاهِدٍ حَسَبَ تَقَدُّمِ تَفْسِيرِهِ، وانْتِظارُهُمُ العَذابَ هو أشَدُّ مِنَ العَذابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب