الباحث القرآني

(p-٦١)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ الذارِياتِ هَذِهِ السُورَةُ مَكِّيَّةٌ بِإجْماعٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ. قوله عزّ وجلّ: ﴿والذارِياتِ ذَرْوًا﴾ ﴿فالحامِلاتِ وِقْرًا﴾ ﴿فالجارِياتِ يُسْرًا﴾ ﴿فالمُقَسِّماتِ أمْرًا﴾ ﴿إنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ﴾ ﴿وَإنَّ الدِينَ لَواقِعٌ﴾ ﴿والسَماءِ ذاتِ الحُبُكِ﴾ ﴿إنَّكم لَفي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾ ﴿يُؤْفَكُ عنهُ مَن أُفِكَ﴾ ﴿قُتِلَ الخَرّاصُونَ﴾ ﴿الَّذِينَ هم في غَمْرَةٍ ساهُونَ﴾ ﴿يَسْألُونَ أيّانَ يَوْمُ الدِينِ﴾ ﴿يَوْمَ هم عَلى النارِ يُفْتَنُونَ﴾ ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكم هَذا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ ﴿إنَّ المُتَّقِينَ في جَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾ ﴿آخِذِينَ ما آتاهم رَبُّهم إنَّهم كانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾ أقْسَمَ اللهُ تَعالى بِهَذِهِ المَخْلُوقاتِ تَنْبِيهًا عَلَيْها، وتَشْرِيفًا لَها، ودَلالَةً عَلى الِاعْتِبارِ فِيها، حَتّى يَصِيرَ الناظِرُ فِيها إلى تَوْحِيدِ اللهِ تَعالى. و"الذارِياتِ": الرِياحُ، بِإجْماعٍ مِنَ المُتَأوِّلِينَ، يُقالُ: ذَرَتِ الرِيحُ وأذْرَتْ بِمَعْنًى، وفي الرِياحِ مُعْتَبَرٌ مِن شِدَّتِها حِينًا، ولِينِها حِينًا، وكَوْنِها مَرَّةً رَحْمَةً ومَرَّةً عَذابًا إلى غَيْرِ ذَلِكَ، و"ذَرْوًا" نُصِبَ عَلى المَصْدَرِ. "الحامِلاتِ وِقْرًا" قالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: هي السَحابُ المُوَقَّرَةُ بِالماءِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وغَيْرُهُ: هي السُفُنُ المُوَقَّرَةُ بِالناسِ وأمْتاعُهُمْ، وقالَ جَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ: هي أيْضًا -مَعَ هَذا- جَمِيعُ الحَيَوانِ الحامِلِ، وفي جَمِيعِ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ، و"وِقْرًا" مَفْعُولٌ صَرِيحٌ. و"الجارِياتِ يُسْرًا" قالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وغَيْرُهُ: هي السُفُنُ في البَحْرِ، وقالَ آخَرُونَ: هي السَحابُ بِالرِيحِ، وقالَ آخَرُونَ: هي الجَوارِي مِنَ الكَواكِبِ، واللَفْظُ يَقْتَضِي جَمِيعَ هَذا، و"يُسْرًا" نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وصِفاتُ المَصادِرِ (p-٦٢)المَحْذُوفَةِ تَعُودُ أحْوالًا، و: "يُسْرًا" مَعْناهُ: بِسُهُولَةٍ وقِلَّةِ تَكَلُّفٍ. و"المُقَسِّماتِ أمْرًا": المَلائِكَةُ، و"الأمْرُ" هُنا اسْمُ الجِنْسِ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: والجَماعاتُ الَّتِي تُقْسِّمُ أُمُورَ المَلَكُوتِ مِنَ الأرْزاقِ والآجالِ والخَلْقِ في الأرْحامِ وأمْرِ الرِياحِ وغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأنَّ كُلَّ هَذا إنَّما هو بِمَلائِكَةٍ تَخْدِمُهُ، فالآيَةُ تَتَضَمَّنُ جَمِيعَ المَلائِكَةِ لِأنَّهم كُلَّهم في أُمُورٍ مُخْتَلِفَةٍ، وأنَّثَ "المُقَسِّماتِ" مِن حَيْثُ أرادَ الجَماعاتِ، وقالَ أبُو الطُفَيْلِ عامِرُ بْنُ واثِلَةَ: كانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عنهُ عَلى المِنبَرِ، فَقالَ: لا تَسْألُونِي عن آيَةٍ مِن كِتابِ اللهِ تَعالى أو سُنَّةٍ ماضِيَةٍ إلّا قُلْتُ، فَقامَ إلَيْهِ ابْنُ الكِواءِ فَسَألَهُ عن هَذِهِ، فَقالَ: الذارِياتُ الرِياحُ، والحامِلاتُ: السَحابُ، والجارِياتُ: السُفُنُ، والمُقَسِّماتُ: المَلائِكَةُ، ثُمَّ قالَ لَهُ: سَلْ سُؤالَ تَعَلُّمٍ ولا تَسْألْ سُؤالَ تَعَنُّتٍ. وهَذا القَسَمُ واقِعٌ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ﴾، و"تُوعَدُونَ" يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِنَ الإيعادِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِنَ الوَعْدِ، وأيُّهُما؛ كانَ فالوَصْفُ لَهُ بِالصِدْقِ صَحِيحٌ، و"صادِقٌ" هُنا مَوْضُوعُ بَدَلٍ "صِدْقٍ" وُضِعَ الِاسْمُ مَوْضِعَ المَصْدَرِ. و"الدِينَ": الجَزاءُ، وقالَ مُجاهِدٌ: الحِسابُ، والأظْهَرُ في الآيَةِ أنَّها لِلْكُفّارِ وأنَّها وعِيدٌ مَحْضٌ بِيَوْمِ القِيامَةِ. ثُمَّ أقْسَمَ اللهُ تَعالى بِمَخْلُوقٍ آخَرَ فَقالَ: ﴿والسَماءِ ذاتِ الحُبُكِ﴾، فَظاهِرُ لَفْظَةِ "السَماءِ" أنَّها لِجَمِيعِ السَماواتِ، وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العاصِ: هي السَماءُ السابِعَةُ، و"الحُبُكِ" -بِضَمِّ الحاءِ والباءِ- الطَرائِقُ الَّتِي هي عَلى نِظامٍ في الأجْرامِ، فَحَبْكُ الرِمالِ (p-٦٣)والماءِ: الطَرائِقُ الَّتِي تُصْنَعُ فِيها الرِيحُ الهابَّةُ عَلَيْها، ومِنهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: ؎ مُكَلَّلٌ بِعَمِيمِ النَبْتِ تَنْسِجُهُ رِيحٌ خَرِيفٌ لِضاحِي مائِهِ حُبُكُ وحَبُكُ الدِرْعِ: الطَرائِقُ المُتَّصِلَةُ في مَوْضِعِ اتِّصالِ الحِلَقِ بَعْضِها بِبَعْضٍ، وفي بَعْضِ أجْنِحَةِ الطَيْرِ حُبُكٌ عَلى نَحْوِ هَذا، ويُقالُ لِتَكْسِيرِ الشَعْرِ: حُبُكٌ، وفي الحَدِيثِ: « "إنَّ مِن ورائِكُمُ الكَذّابَ المُضِلَّ، وإنَّ رَأْسَهُ مِن ورائِهِ حُبُكًاحُبُكًا"،» يَعْنِي جُعُودَةَ شِعْرِهِ، فَهو تَكَسُّرُهُ، ويَظْهَرُ في المَنسُوجاتِ مَنِ الأكْسِيَةِ وغَيْرِها طَرائِقٌ في مَوْضِعِ تَداخُلِ الخُيُوطِ هُنَّ حُبُكٌ، ويُقالُ: نَسَجَ الثَوْبَ فَأجادَ حَبْكَهُ، فَهَذِهِ هي الحَبْكُ في اللُغَةِ، وقالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: إنَّ السَماءَ في تَأْلُّفِ جِرْمِها هي هَكَذا لَها حُبُكٌ، وذَلِكَ لِجَوْدَةِ خِلْقَتِها وإتْقانِ صَنْعَتِها، ولِذَلِكَ عَبَّرَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والسَماءِ ذاتِ الحُبُكِ﴾ بِأنْ قالَ: حُبُكُها: حُسْنُ خِلْقَتِها، وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الحُبُكُ الزِينَةُ، وقالَ الحَسَنُ: حُبُكُها كَواكِبُها، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: الحُبُكُ الشِدَّةُ، حُبِكَتْ: شُدَّتْ، وقَرَأ: "سَبْعًا شِدادًا"، وقالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: الحُبُكُ طَرائِقُ الغَيْمِ ونَحْوِ هَذا، وواحِدُ "الحُبُكِ" حَباكٌ، ويُقالُ لِلظَّفِيرَةِ الَّتِي يُشَدُّ بِها حِظارُ القَصَبِ ونَحْوُهُ، وهي مُسْتَطِيلَةٌ تُصْنَعُ في تَرْحِيبِ الغِراساتِ المُصْطَفَّةِ-: حِباكٌ، وقَدْ يَكُونُ واحِدُ الحُبُكِ حَبِيكَةٌ، وقالَ الراجِزُ: ؎ كَأنَّما جَلَّلَها الحَوّاكُ ∗∗∗ طِنْفَسَةً في وشْيِها حِباكُ (p-٦٤)وَقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "الحُبُكُ" بِضَمِّ الحاءِ والباءِ، وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ، وأبُو مالِكٍ الغِفارِيُّ بِضَمِّ الحاءِ وسُكُونِ الباءِ تَخْفِيفًا، وهي لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، كَرُسْلٍ في رُسُلٍ، وهي قِراءَةُ أبِي حَيْوَةَ، وأبِي السَمالِ، وقَرَأ الحَسَنُ أيْضًا، وأبُو مالِكٍ الغِفارِيُّ: "الحِبِكُ" بِكَسْرِ الحاءِ والباءِ عَلى أنَّها لُغَةٌ كَإطِلٍ وإبِلٍ، وقَرَأ الحَسَنُ أيْضًا: "الحِبْكُ" بِكَسْرِ الحاءِ وسُكُونِ الباءِ، كَما قالُوا عَلى جِهَةِ التَخْفِيفِ: "إبِلٌ" و"إطِلٌ" بِسُكُونِ الباءِ والطاءِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "الحَبَكُ" بِفَتْحِ الحاءِ والباءِ، وقَرَأ الحَسَنُ أيْضًا فِيما رُوِيَ عنهُ: "الحِبُكُ" بِكَسْرِ الحاءِ وضَمَّ الباءَ، وهي لُغَةٌ شاذَّةٌ غَيْرُ مُتَوَجِّهَةٍ، وكَأنَّهُ أرادَ كَسْرَهُما ثُمَّ تَوَهَّمَ "الحَبُكَ" قِراءَةُ الضَمِّ بَعْدَ أنْ كَسَرَ الحاءَ فَضَمَّ الباءَ، وهَذا عَلى تَداخُلِ اللُغاتِ، ولَيْسَ في كَلامِ العَرَبِ هَذا البِناءُ، وقَرَأ عِكْرِمَةُ: "الحُبَكُ" بِضَمِّ الحاءِ وفَتْحِ الباءِ جَمْعُ حُبْكَةٍ، وهَذِهِ كُلُّها لُغاتٌ، والمَعْنى ما ذَكَرْناهُ، والفَرَسُ المَحْبُوكُ: الشَدِيدُ الخِلْقَةِ الَّذِي لَهُ حُبَكٌ في مَواضِعَ مِن مَنابِتِ شَعْرِهِ، وذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى حُسْنِ بِنْيَتِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّكم لَفي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خِطابًا لِجَمِيعِ الناسِ، مُؤْمِنٌ وكافِرٌ، أيِ: اخْتَلَفْتُمْ بِأنْ قالَ مِنكُمْ: فَرِيقٌ: آمَنّا بِمُحَمَّدٍ وكِتابِهِ، وقالَ فَرِيقٌ آخَرُ: كَفَرْنا، وهَذا قَوْلُ قَتادَةَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خِطابًا لِلْكَفَرَةِ فَقَطْ، أيْ: أنْتُمْ في جِنْسٍ مِنَ الأقْوالِ مُخْتَلِفٍ في نَفْسِهِ، قَوْمٌ مِنكم يَقُولُونَ: ساحِرٌ، وقَوْمٌ يَقُولُونَ كاهِنٌ، وقَوْمٌ يَقُولُونَ: شاعِرٌ، وقَوْمٌ يَقُولُونَ: مَجْنُونٌ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ، والضَمِيرُ فِي: "عنهُ" قالَ الحَسَنُ، وقَتادَةُ: هو عائِدٌ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ، أو كِتابِهِ أو شَرْعِهِ، و"يُؤْفَكُ" مَعْناهُ: يُصْرَفُ، فالمَعْنى: يُصْرَفُ مِنَ الكُفّارِ عن كِتابِ اللهِ تَعالى كَثِيرٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ (p-٦٥)يَعُودَ الضَمِيرُ عَلى القَوْلِ الَّذِي يُصْرَفُ بِسَبَبِهِ مَن أرادَ الإسْلامَ بِأنْ يُقالَ: هو سِحْرٌ، هو كَهانَةٌ، وهَذا قَوْلٌ حَكاهُ الزَهْراوِيُّ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ الضَمِيرُ في "عنهُ" عَلى القَوْلِ، أيْ: يُصْرَفُ عنهُ بِتَوْفِيقِ اللهِ تَعالى إلى الإسْلامِ مَن غَلَبَتْ سَعادَتُهُ، وهَذا عَلى أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّكم لَفي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾ لِلْكُفّارِ فَقَطْ، وهَذا وجْهٌ حَسَنٌ لا يُخِلُّ بِهِ، إلّا أنْ عُرِفَ الِاسْتِعْمالُ في "أُفُكٍ" إنَّما هو في الصَرْفِ مِن خَيْرٍ إلى شَرٍّ، وتَأمَّلْ ذَلِكَ تَجِدْها أبَدًا في المَصْرُوفِينَ المَذْمُومِينَ، وحَكى أبُو عَمْرٍو عن قَتادَةَ أنَّهُ قَرَأ: "مَن أفَكَ" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ والفاءِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "قُتِلَ الخَرّاصُونَ" دُعاءٌ عَلَيْهِمْ، كَما تَقُولُ: قاتَلَهُ اللهُ، وقَتَلَهُ اللهُ، وعَقْرى حَلْقى، وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: مَعْناهُ: لُعِنَ الخَرّاصُونَ، وهَذا تَفْسِيرٌ لا تُعْطِيهِ اللَفْظَةُ، و"الخَرّاصُ": المُخَمِّنُ القائِلُ بِظَنِّهِ وتَقْدِيرُهُ، فَتَحْتَهُ الكاهِنُ والمُرْتابُ ونَحْوُهُ مِمَّنْ لا يَقِينَ لَهُ، والإشارَةُ إلى مُكَذِّبِي مُحَمَّدٍ ﷺ عَلى كُلِّ جِهَةٍ مِن طُرُقِهِمْ. و"الغَمْرَةُ" ما يُغَشِّي الإنْسانَ ويُغَطِّيهِ كَغَمْرَةِ الماءِ، والمَعْنى: في غَمْرَةٍ مِنَ الجَهالَةِ، و"ساهُونَ" مَعْناهُ: عن أنَّهم في غَمْرَةٍ وعن غَيْرِ ذَلِكَ مِن وُجُوهِ النَظَرِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَسْألُونَ أيّانَ يَوْمُ الدِينِ﴾ مَعْناهُ: يَقُولُونَ: مَتى يَوْمُ الدِينِ؟ عَلى مَعْنى التَكْذِيبِ، وجائِزٌ أنْ يَقْتَرِنَ بِذَلِكَ مِن بَعْضِهِمْ هُزُؤٌ وألّا يَقْتَرِنَ، وقَرَأ السُلَمِيُّ، والأعْمَشُ: "إيانَ" بِكَسْرِ الهَمْزَةِ وفَتْحِ الياءِ مُخَفَّفَةً. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ هم عَلى النارِ يُفْتَنُونَ﴾، قالَ الزَجّاجُ: نَصَبُوا "يَوْمَ" عَلى الظَرْفِ مِن مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ؛ هو كائِنٌ يَوْمَ هم عَلى النارِ، أوَ نَحْوَ هَذا، وقالَ الخَلِيلُ وسِيبَوَيْهِ: نَصْبَهُ عَلى البِناءِ لِما أُضِيفَ إلى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ، قالَ بَعْضُ النُحاةِ: وهو في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى البَدَلِ مِن "يَوْمُ الدِينِ"، و"يُفْتَنُونَ" مَعْناهُ: يُحْرَقُونَ ويُعَذَّبُونَ في النارِ، قالَهُ ابْنُ (p-٦٦)عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وعِكْرِمَةُ، والجَمِيعُ، ومِنهُ قِيلَ لِلْحُرَّةِ: فَتِينٌ، كَأنَّ الشَمْسَ أحْرَقَتْ حِجارَتَها، ومِنهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ مالِكٍ: ؎ مَعاطِي تَهْوى إلَيْها الحَقْو ∗∗∗ قُ يَحْسَبُها مَن رَآها الفَتِينا وفَتَنْتُ الذَهَبَ: أحْرَقَتْهُ، ولَمّا كانَ لا يُحْرَقُ إلّا لِمَعْنى الِاخْتِبارِ قِيلَ لِكُلِّ اخْتِبارٍ: فِتْنَةٌ، واسْتَعْمَلُوا افْتُتِنَ بِمَعْنى اخْتَبَرَ، و"عَلى" هُنا مُوَصِّلَةً إلى مَعْنى "فِي"، وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ﴾ إضْمارٌ، أيْ: يُقالُ لَهُمْ: ذُوقُوا حَرْقَكم وعَذابَكُمْ، قالَهُ قَتادَةُ وغَيْرُهُ، والذَوْقُ اسْتِعارَةٌ، و"هَذا" إشارَةٌ إلى حَرْقِهِمْ، واسْتِعْجالُهم هو قَوْلُهُمْ: ﴿أيّانَ يَوْمُ الدِينِ﴾ وغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ الَّتِي تَقْتَضِي اسْتِعْجالَهم عَلى جِهَةِ التَكْذِيبِ مِنهم. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى حالَةَ الكَفَرَةِ وما يُلْقُونَ مِن عَذابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ المُتَّقِينَ وما يُلْقُونَ مِنَ النَعِيمِ لِيُبَيِّنَ الفَرْقَ ويَتَّبِعَ الناسُ طَرِيقَ الهُدى، و"الجَنّاتُ" والعُيُونُ مَعْرُوفٌ، والمُتَّقِي في الآيَةِ مُطْلَقٌ في اتِّقاءِ الكُفْرِ والمَعاصِي، وقَوْلُهُ تَعالى: "آخِذِينَ" نُصِبَ عَلى الحالِ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "آخِذُونَ" بِواوٍ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: المَعْنى: آخِذِينَ في دُنْياهم ما آتاهم رَبُّهم مِن أوامِرِهِ ونَواهِيهِ وفَرائِضِهِ وشَرْعِهِ، فالحالُ عَلى هَذا مَحْكِيَّةٌ، وهي مُتَقَدِّمَةٌ في الزَمانِ عَلى كَوْنِهِمْ في جَنّاتٍ وعُيُونٍ، وقالَ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿آخِذِينَ ما آتاهم رَبُّهُمْ﴾ أيْ: مُخْلِصِينَ لِنِعَمِ اللهِ تَعالى الَّتِي أعْطاهم مِن جَنَّتِهِ ورِضْوانِهِ، وهَذِهِ حالٌ مُتَّصِلَةٌ في المَعْنى لِكَوْنِهِمْ في الجَنّاتِ، وهَذا التَأْوِيلُ أرْجَحُ عِنْدِي لِاسْتِقامَةِ الكَلامِ بِهِ، وقَوْلُهُ (p-٦٧)تَعالى: ﴿قَبْلَ ذَلِكَ﴾ يُرِيدُ: في الدُنْيا، "مُحْسِنِينَ" بِالطاعَةِ والعَمَلِ الصالِحِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب