الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَكَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهم مِن قَرْنٍ هم أشَدُّ مِنهم بَطْشًا فَنَقَّبُوا في البِلادِ هَلْ مِن مَحِيصٍ﴾ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرى لِمَن كانَ لَهُ قَلْبٌ أو ألْقى السَمْعَ وهو شَهِيدٌ﴾ ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنا السَماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما في سِتَّةِ أيّامٍ وما مَسَّنا مِن لُغُوبٍ﴾ ﴿فاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَمْسِ وقَبْلَ الغُرُوبِ﴾ ﴿وَمِنَ اللَيْلِ فَسَبِّحْهُ وأدْبارَ السُجُودِ﴾ "كَمْ" لِلتَّكْثِيرِ، وهي خَبَرِيَّةٌ، والمَعْنى: كَثِيرًا أهْلَكْنا قَبْلَهم. و"القَرْنُ": الأُمَّةُ مِنَ الناسِ الَّذِينَ يَمُرُّ عَلَيْهِمْ قَدْرٌ مِنَ الزَمانِ، واخْتَلَفَ الناسُ في ذَلِكَ القَدْرِ، فَقالَ (p-٥٤)الجُمْهُورُ: مِائَةُ سَنَةٍ، وقِيلَ غَيْرُ هَذا، وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ فِيهِ غَيْرَ مَرَّةٍ، و"شِدَّةُ البَطْشِ" هي بِكَثْرَةِ القُوَّةِ والأمْوالِ والمُلْكِ والصِحَّةِ والأذْهانِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ مِنَ الناسِ: "فَنَقَّبُوا" بِشَدِّ القافِ المَفْتُوحَةِ عَلى إسْنادِ الفِعْلِ إلى القُرُونِ الماضِيَةِ، والمَعْنى: ولَجُوا البِلادَ مِن أنْقابِها، وفي الحَدِيثِ: « "إنَّ عَلى أنْقابِ المَدِينَةَ مَلائِكَةٌ لا يَدْخُلُها الطاعُونُ ولا الدَجّالُ"،» والمُرادُ تَطَوَّفُوا ومَشَوْا طَماعِيَةً في النَجاةِ مِنَ الهَلَكَةِ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ وقَدْ نَقَّبْتُ في الآفاقِ حَتّى رَضِيتُ مِنَ الغَنِيمَةِ بِالإيابِ ومِنهُ قَوْلُ الحارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ اليَشْكُرِيِّ: ؎ نَقَّبُوا في البِلادِ مَن حَذِرِ المَوْ ∗∗∗ تِ وجالُوا في الأرْضِ كُلَّ مَجالِ وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وابْنُ يَعْمُرَ، ونَصّارُ بْنُ يَسارٍ، وأبُو العالِيَةِ: "فَنَقَّبُوا" بِشَدِّ القافِ المَكْسُورَةِ عَلى الأمْرِ لِهَؤُلاءِ الحاضِرِينَ، و: ﴿هَلْ مِن مَحِيصٍ﴾ تَوْقِيفٌ وتَقْرِيرٌ، أيْ: لا مَحِيصَ، و"المَحِيصُ" مَوْضِعُ الحَيْصِ وهو الرَوَغانُ والحِيادُ، قالَ قَتادَةُ: حاصَ الكَفَرَةُ فَوَجَدُوا أمْرَ اللهِ مُتَّبِعًا مُدْرَكًا، وفي صَدْرِ البُخارِيِّ: "فَحاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ إلى الأبْوابِ" وقالَ ابْنُ عَبْدِ شَمْسٍ في وصْفِ ناقَتِهِ: (p-٥٥) إذا حاصَ الدَلِيلُ رَأيْتَ مِنها جُنُوحًا لِلطَّرِيقِ عَلى اتِّساقِ وقَرَأ أبُو عَمْرٍو -فِي رِوايَةِ عُبَيْدٍ عنهُ-: "فَنَقَبُوا" بِفَتْحِ القافِ وتَخْفِيفِها، وهي بِمَعْنى التَشْدِيدِ، واللَفْظَةُ أيْضًا قَدْ تُقالُ بِمَعْنى البَحْثِ والطَلَبِ، تَقُولُ: نَقَّبَ عن كَذا أيِ اسْتَقْصى عنهُ، ومِنهُ "نَقِيبُ القَوْمِ" لِأنَّهُ الَّذِي يَبْحَثُ عن أُمُورِهِمْ ويُباحِثُ عنها، وهَذا عِنْدِي تَشْبِيهٌ بِالدُخُولِ مِنَ الأنْقابِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرى﴾ يَعْنِي إهْلاكَ مَن مَضى، و"الذِكْرى": التَذْكِرَةُ، و"القَلْبُ" عِبارَةٌ عَنِ العَقْلِ إذْ هو مَحَلُّهُ، والمَعْنى: لِمَن كانَ لَهُ قَلْبٌ واعٍ يَنْتَفِعُ بِهِ، وقالَ الشِبْلِيُّ: مَعْناهُ: قَلْبٌ حاضِرٌ مَعَ اللهِ تَعالى لا يَغْفُلُ عنهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أو ألْقى السَمْعَ وهو شَهِيدٌ﴾ مَعْناهُ: صَرَفَ سَمْعَهُ إلى هَذِهِ الأنْباءِ الواعِظَةِ، وأنْتَبَهَ في سَماعِها، فَذَلِكَ إلْقاءٌ لَهُ عَلَيْها، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَألْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ [طه: ٣٩]، أيْ: أثْبَتَها عَلَيْكَ، وقالَ بَعْضُ الناسِ: قَوْلُهُ تَعالى: "ألْقى السَمْعَ" وقَوْلُهُ: "فَضَرَبْنا عَلى آذانِهِمْ"، وقَوْلُهُ: ﴿سُقِطَ في أيْدِيهِمْ﴾ [الأعراف: ١٤٩]، هي مِمّا قَلَّ اسْتِعْمالُها الآنَ وبَعُدَتْ (p-٥٦)مَعانِيهِ. وقَوْلُ هَذا القائِلِ ضَعِيفٌ، بَلْ هي بَيِّنَةُ المَعانِي، وقَدْ مَضَتْ في مَوْضِعِها، وقَوْلُهُ تَعالى: "وَهُوَ شَهِيدٌ" قالَ بَعْضُ المُتَأوِّلِينَ: مَعْناهُ: وهو مُشاهَدٌ مُقْبِلٌ عَلى الأمْرِ غَيْرُ مُعَرَّضٍ ولا مُتَفَكِّرٍ في غَيْرِ ما يَسْمَعُ، وقالَ قَتادَةُ: هي إشارَةٌ إلى أهْلِ الكِتابِ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: إنَّ هَذِهِ العِبْرَةَ لَتَذْكِرَةٌ لِمَن لَهُ فَهْمٌ فَيَتَدَبَّرُ الأمْرَ، أو لِمَن سَمِعَها مِن أهْلِ الكِتابِ فَيَشْهَدُ بِصِحَّتِها لِعِلْمِهِ بِها مِن كِتابِ التَوْراةِ وسائِرِ كُتُبِ بَنِي إسْرائِيلَ، فـَ "شَهِيدٌ" عَلى التَأْوِيلِ الأوَّلِ مِنَ المُشاهَدَةِ، وعَلى التَأْوِيلِ الثانِي مِنَ الشَهادَةِ، وقَرَأ السُدِّيُّ: "أو ألْقى السَمْعَ"، قالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: أيْ: أُلْقِيَ السَمْعُ مِنهُ، حَكى أبُو عَمْرٍو الدانِيُّ أنَّ قِراءَةَ السُدِّيِّ ذُكِرَتْ لِعاصِمٍ فَمَقَتَ السُدِّيَّ وقالَ: ألَيْسَ اللهُ تَعالى يَقُولُ: "يُلْقُونَ السَمْعَ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنا السَماواتِ والأرْضَ﴾ الآيَةُ... خَبَرٌ مُضَمِّنُهُ الرَدُّ عَلى اليَهُودِ الَّذِينَ قالُوا: إنَّ اللهَ خَلَقَ الأشْياءَ كُلَّها في سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَراحَ يَوْمَ السَبْتِ، فَنَزَلَتْ ﴿وَما مَسَّنا مِن لُغُوبٍ﴾، واللُغُوبُ: الإعْياءُ والنَصَبُ والسَأمُ، يُقالُ: لَغَبَ الرَجُلُ يَلْغُبُ إذا أعْيا، وقَرَأ السِلْمِيُّ، وطَلْحَةُ: "لَغُوبٌ" بِفَتْحِ اللامِ. وتَظاهَرَتِ الأحادِيثُ بِأنَّ بَدْءَ خَلْقِ الأشْياءِ كانَ يَوْمَ الأحَدِ، وفي كِتاب مُسْلِمٍ، وفي الدَلائِلِ لِثابِتٍ حَدِيثٌ مُضَمِّنُهُ أنَّ ذَلِكَ كانَ يَوْمَ السَبْتِ، وعَلى كُلِّ قَوْلٍ فَأجْمَعُوا عَلى أنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَلامُ خُلِقَ يَوْمَ الجُمْعَةِ، فَمَن قالَ إنَّ البَداءَةَ يَوْمَ السَبْتِ جَعَلَ خَلْقَ آدَمَ عَلَيْهِ (p-٥٧)السَلامُ كَخَلْقِ بَنِيهِ لا يُعَدُّ مَعَ الجُمْلَةِ الأُولى، وجَعَلَ اليَوْمَ الَّذِي كَمُلَتِ المَخْلُوقاتُ عِنْدَهُ يَوْمَ الجُمْعَةِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ﴾ قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: المُرادُ أهْلُ الكِتابِ لِقَوْلِهِمْ: ثُمَّ اسْتَراحَ يَوْمَ السَبْتِ، وهَذِهِ المَقالَةُ مِن أهْلِ الكِتابِ كانَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ الهِجْرَةِ. وقالَ النُظّارُ مِنَ المُفَسِّرِينَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ﴾ يُرادُ بِهِ أهْلُ الكِتابِ وغَيْرُهم مِنَ الكَفَرَةِ، وعَمَّ بِذَلِكَ جَمِيعَ الأقْوالِ الزائِفَةِ مِن قُرَيْشٍ وغَيْرِهِمْ، وعَلى هَذا التَأْوِيلِ يَجِيءُ قَوْلُ مَن قالَ الآيَةُ مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ السَيْفِ، و"سَبِّحْ" مَعْناهُ: صِلْ بِإجْماعٍ مِنَ المُتَأوِّلِينَ. وقَوْلُهُ تَعالى: "بِحَمْدِ رَبِّكَ" الباءُ لِلِاقْتِرانِ، أيْ: سَبِّحْ سُبْحَةً يَكُونُ مَعَها حَمْدٌ، ومِثْلُهُ: "تَنْبُتُ بِالدُهْنِ" عَلى بَعْضِ الأقْوالِ فِيها، و"قَبْلَ طُلُوعِ الشَمْسِ" هي الصُبْحُ "وَقَبْلَ الغُرُوبِ" هي العَصْرُ، قالَهُ قَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ، والناسُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "قَبْلَ الغُرُوبِ" الظُهْرُ والعَصْرُ، و"مِنَ اللَيْلِ" هي صَلاةُ العِشاءَيْنِ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: هي العِشاءُ فَقَطْ، وقالَ مُجاهِدٌ: هي صَلاةُ اللَيْلِ وقَوْلُهُ تَعالى: "وَأدْبارَ السُجُودِ"، قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ، وعَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وأبُو هُرَيْرَةَ، والحَسَنُ، والشَعْبِيُّ، وإبْراهِيمُ، ومُجاهِدٌ، والأوزاعِيُّ: هي الرَكْعَتانِ بَعْدَ المَغْرِبِ، وأسْنَدَهُ الطَبَرِيُّ، عَنِ ابْن عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، عَنِ النَبِيِّ ﷺ، كَأنَّهُ رُوعِيَ إدْبارَ صَلاةِ النَهارِ كَما رُوعِيَ إدْبارَ النُجُومِ في صَلاةِ اللَيْلِ فَقِيلَ: هي الرَكْعَتانِ مَعَ الفَجْرِ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ "أدْبارَ السُجُودِ" الوِتْرُ، حَكاهُ الثَعْلَبِيُّ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ، وابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا ومُجاهِدٌ: هي النَوافِلُ إثْرَ الصَلَواتِ، وهَذا جارٍ مَعَ لَفْظِ الآيَةِ، وقالَ بَعْضُ العارِفِينَ: هي صَلاةُ اللَيْلِ، قالَ الثَعْلَبِيُّ: وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ في قَوْلِهِ: ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَمْسِ﴾ رَكْعَتا الفَجْرِ، "وَقَبْلَ الغُرُوبِ" الرَكْعَتانِ قَبْلَ المَغْرِبِ، وقالَ بَعْضُ التابِعِينَ: رَأيْتُ أصْحابَ مُحَمَّدٍ ﷺ يَهُبُّونَ إلَيْها كَما يَهُبُّونَ إلى المَكْتُوبَةِ، وقالَ قَتادَةُ: (p-٥٨)ما أدْرَكْتُ أحَدًا يُصَلِّي الرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ المَغْرِبِ إلّا أنَسًا وأبا بَرْزَةَ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وحَمْزَةُ، وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ، وعِيسى، وشِبْلٌ، وطَلْحَةُ، والأعْمَشُ:"وَإدْبارَ" بِكَسْرِ الألِفِ، وهو مَصْدَرٌ أُضِيفَ إلَيْهِ وقْتٌ ثُمَّ حُذِفَ الوَقْتُ، كَما قالُوا: جِئْتُكَ مَقْدِمَ الحَجِّ وخَفُوقَ النَجْمِ ونَحْوَهُ، وقَرَأ الباقُونَ، والحَسَنُ، والأعْرَجُ: "وَأدْبارَ" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، وهو جَمْعٌ دُبُرٍ كَطُنُبٍ وأطْنابٍ، أيْ: وفي أدْبارِ السُجُودِ، أيْ في أعْقابِهِ، قالَ أوسُ بْنُ حَجَرٍ: ؎ عَلى دُبُرِ الشَهْرِ الحَرامِ فَأرْضُنا ∗∗∗ وما حَوْلَها جَدْبٌ سَنِينٌ تَلْمَعُ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب