الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَنَزَّلْنا مِنَ السَماءِ ماءً مُبارَكًا فَأنْبَتْنا بِهِ جَنّاتٍ وحَبَّ الحَصِيدِ﴾ ﴿والنَخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ﴾ ﴿رِزْقًا لِلْعِبادِ وأحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الخُرُوجُ﴾ ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهم قَوْمُ نُوحٍ وأصْحابُ الرَسِّ وثَمُودُ﴾ ﴿وَعادٌ وفِرْعَوْنُ وإخْوانُ لُوطٍ﴾ ﴿وَأصْحابُ الأيْكَةِ وقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُسُلَ فَحَقَّ وعِيدِ﴾ ﴿أفَعَيِينا بِالخَلْقِ الأوَّلِ بَلْ هم في لَبْسٍ مِن خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَنَزَّلْنا مِنَ السَماءِ ماءً مُبارَكًا﴾ قِيلَ: يَعْنِي جَمِيعَ المَطَرِ، كُلُّهُ يَتَّصِفُ بِالبَرَكَةِ، وإنَّ ضَرَّ بَعْضُهُ أحْيانًا فَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ الضُرِّ الخاصِّ البَرَكَةُ العامَّةُ، وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ: «كانَ النَبِيُّ ﷺ إذا جاءَ المَطَرُ فَسالَتِ المَيازِيبُ قالَ: "لا مَحْلَ عَلَيْكُمُ العامُّ"،» وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: "ماءً مُبارَكًا" يُرِيدُ بِهِ ماءً مَخْصُوصًا خالِصًا لِلْبَرَكَةِ يُنْزِلُهُ اللهُ تَعالى كُلَّ سَنَةٍ، ولَيْسَ كُلُّ المَطَرِ يَتَّصِفُ بِذَلِكَ. وحَبَّ الحَصِيدِ هو البُرُّ والشَعِيرُ ونَحْوُهُ مِمّا هو نَباتٌ مُحَبَّبٌ يُحْصَدُ، و"الحَصِيدُ" صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، وقالَ مُجاهِدٌ: حَبَّ الحَصِيدِ الحِنْطَةُ.
(p-٣٦)وَ "باسِقاتٍ" مَعْناهُ: طَوِيلاتٌ ذاهِباتٌ في السَماءِ، ومِنهُ قَوْلُ أبِي نَوْفَلٍ في ابْنِ هُبَيْرَةَ:
؎ يابْنَ الَّذِينَ بِجِدِّهِمْ بَسَقَتْ عَلى قَيْسٍ فَزارَهْ
ورَوى قُطْبَةُ بْنُ مالِكٍ «عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قَرَأ: "باصِقاتٌ" بِالصادِ،» قالَ أبُو الفَتْحِ: الأصْلُ السِينُ، وإنَّما الصادُ بَدَلٌ مِنها لِاسْتِعْلاءِ القافِ. و"الطَلْعُ" أوَّلُ ظُهُورِ التَمْرِ في الكُفُرّى وهو أبْيَضٌ مُنَضَّدٌ كَحَبِّ الرُمّانِ، فَما دامَ مُلْتَصِقًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَهو نَضِيدٌ، فَإذا خَرَجَ مِنَ الكُفُرّى تَفَرَّقَ فَلَيْسَ بِنَضِيدٍ. و"رِزْقًا" نُصِبَ عَلى المَصْدَرِ، والضَمِيرُ فِي: "بِهِ" عائِدٌ عَلى المَطَرِ، ووَصَفَ البَلْدَةَ بِـ "مَيِّتٍ" عَلى تَقْدِيرِ القُطْرِ والبَلَدِ، وقَرَأ الناسُ: "مَيِّتًا" مُخَفَّفًا، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، وخالِدٌ: "مَيِّتًا" بِالتَثْقِيلِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَبارَكَ وتَعالى مَوْضِعَ الشَبَهِ فَقالَ: "كَذَلِكَ الخُرُوجُ"، وهَذِهِ الآياتُ كُلُّها إنَّما هي أمْثِلَةٌ وأدِلَّةٌ عَلى البَعْثِ، و"الخُرُوجُ" يُرِيدُ بِهِ مِنَ القُبُورِ.
و"أصْحابُ الرَسِّ" قَوْمٌ كانَ لَهم بِئْرٌ عَظِيمَةٌ وهي الرَسّ، وكُلُّ ما لَمْ يُطْوَ مِن بِئْرٍ أو مَعْدِنٍ أو نَحْوِهِ فَهو رَسٌّ، وأنْشَدَ أبُو عُبَيْدَةَ لِلنّابِغَةِ الجَعْدِيِّ:
؎ سَبَقْتَ إلى فَرَطٍ ناهِلٍ ∗∗∗ تَنابِلَةً يَحْفُرُونَ الرِساسا
(p-٣٧)وَجاءَهم نَبِيٌّ يُسَمّى حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوانَ فِيما رُوِيَ، فَجَعَلُوهُ في الرَسِّ ورَدَمُوا عَلَيْهِ فَأهْلَكَهُمُ اللهُ تَعالى، وقالَ كَعْبُ الأحْبارِ في كِتابِ الزَهْراوِيِّ: أصْحابُ الرَسِّ هم أصْحابُ الأُخْدُودِ، وهَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ أصْحابَ الأُخْدُودِ لَمْ يُكَذِّبُوا نَبِيًّا، إنَّما هو مَلِكٌ أحْرَقَ قَوْمًا، وقالَ الضَحّاكُ: الرَسُّ بِئْرٌ قُتِلَ فِيها صاحِبُ ياسٍ، قالَ مُنْذِرٌ: ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّهم قَوْمُ عادٍ.
و"الأيْكَةِ" شَجَرٌ مُلْتَفٌّ، وهم قَوْمُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَلامُ، والألِفُ واللامُ مِن "الأيْكَةِ" غَيْرُ مُعَرَّفَتَيْنِ لِأنَّ، "أيْكَةَ" اسْمٌ عَلَمٌ كَطَلْحَةَ، يُقالُ: أيْكَةُ ولَيْكَةُ، فَهي كالألِفِ واللامِ في الشَمْسِ والقَمَرِ وفي الصِفاتِ الغالِبَةِ، وفي هَذا نَظَرٌ، وقَرَأ: "الأيْكَةَ" بِالهَمْزِ أبُو جَعْفَرٍ، ونافِعٌ، وشَيْبَةُ، وطَلْحَةُ.
و"قَوْمُ تُبَّعٍ" هم حَمِيرٌ، و"تُبَّعٍ" اسْمٌ فِيهِمْ، يَذْهَبُ تَبَعٌ ويَجِيءُ تَبَعٌ، مِثْلُ كِسْرى في الفَرَسِ وقَيْصَرَ في الرُومِ، وكانَ أسْعَدُ أبُو كَرْبٍ أحَدُ التَبابِعَةِ رَجُلًا صالِحًا صَحِبَ حَبْرَيْنِ فَتَعَلَّمَ مِنهُما دِينَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ، ثُمَّ إنْ قَوْمَهُ أنْكَرُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَنَدَبَهم إلى مُحاجَّةِ الحَبْرَيْنِ فَوَقَعَتْ بَيْنَهم مُجادَلَةٌ عَظِيمَةٌ، واتَّفَقُوا عَلى أنْ يَدْخُلُوا جَمِيعُهُمُ النارَ الَّتِي في القُرْبانِ فَمَن أكَلَتْهُ فَهو المُبْطِلُ، فَدَخَلُوا فاحْتَرَقَ قَوْمُ تُبَّعٍ وخَرَجَ الحَبْرانِ تَعْرَقُ جِباهُهُما، فَهَلَكَ القَوْمُ المُخالِفُونَ وآمِنَ سائِرُ قَوْمِ تُبَّعٍ بِدِينِ الحِبْرَيْنِ، وفي الحَدِيثِ اخْتِلافٌ كَثِيرٌ أثْبَتُّ أصَحَّ ذَلِكَ عَلى ما في سِيَرِ ابْنِ هِشامٍ. وذَكَرَ الطَبَرِيُّ عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: « "لا تَلْعَنُوا تُبَّعًا فَإنَّهُ كانَ قَدْ أسْلَمَ"،» وذَكَرَ الثَعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ تُبَّعًا كانَ نَبِيًّا.
(p-٣٨)قَوْلُهُ تَعالى: "كُلٌّ"، قالَ سِيبَوَيْهِ: التَقْدِيرُ: كُلُّهُمْ، وحُذِفَ لِدَلالَةِ "كُلٍّ" عَلَيْهِ إيجازًا والوَعِيدُ الَّذِي حَقَّ: هو ما سَبَقَ بِهِ القَضاءُ مِن تَعْذِيبِ الكَفَرَةِ وإهْلاكِ الأُمَمِ المُكَذِّبَةِ، فَفي هَذا تَخْوِيفُ مَن كَذَّبَ مُحَمَّدًا ﷺ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَعَيِينا بِالخَلْقِ الأوَّلِ﴾ تَوْقِيفٌ لِلْكُفّارِ وتَوْبِيخٌ وإقامَةٌ لِلْحُجَّةِ الواضِحَةِ عَلَيْهِمْ، وذَلِكَ أنَّ جَوابَهم عَلى هَذا التَوْقِيفِ هُوَ: لَمْ يَقَعْ عِيٌّ، ثُمَّ هم مَعَ ذَلِكَ في لَبْسٍ مِنَ الإعادَةِ، وهَذا تَناقُضٌ، يُقالُ: عَيِيَ يَعْيا إذا عَجَزَ عَنِ الأمْرِ، ويُدْغَمُ هَذا الفِعْل الماضِي مِن هَذا الفِعْلِ، ولا يُدْغَمُ المُسْتَقْبَل مِنهُ، فَيُقالُ: عَيَّ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ عَيُّوا بِأمْرِهِمْ كَما ∗∗∗ عَيَّتْ بِبَيْضَتِها الحَمامَهْ
و"الخَلْقُ الأوَّلُ" إنْشاءُ الإنْسانِ مِن نُطْفَةٍ عَلى التَدْرِيجِ المَعْلُومِ، وقالَ الحَسَنُ: الخَلْقُ الأوَّلُ آدَمُ عَلَيْهِ السَلامُ، وحَكاهُ الرُمّانِيُّ، و"اللَبْسُ": الشَكُّ والرَيْبُ واخْتِلاطُ النَظَرِ، و"الخَلْقُ الجَدِيدُ": البَعْثُ مِنَ القُبُورِ.
{"ayahs_start":9,"ayahs":["وَنَزَّلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ مُّبَـٰرَكࣰا فَأَنۢبَتۡنَا بِهِۦ جَنَّـٰتࣲ وَحَبَّ ٱلۡحَصِیدِ","وَٱلنَّخۡلَ بَاسِقَـٰتࣲ لَّهَا طَلۡعࣱ نَّضِیدࣱ","رِّزۡقࣰا لِّلۡعِبَادِۖ وَأَحۡیَیۡنَا بِهِۦ بَلۡدَةࣰ مَّیۡتࣰاۚ كَذَ ٰلِكَ ٱلۡخُرُوجُ","كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحࣲ وَأَصۡحَـٰبُ ٱلرَّسِّ وَثَمُودُ","وَعَادࣱ وَفِرۡعَوۡنُ وَإِخۡوَ ٰنُ لُوطࣲ","وَأَصۡحَـٰبُ ٱلۡأَیۡكَةِ وَقَوۡمُ تُبَّعࣲۚ كُلࣱّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِیدِ","أَفَعَیِینَا بِٱلۡخَلۡقِ ٱلۡأَوَّلِۚ بَلۡ هُمۡ فِی لَبۡسࣲ مِّنۡ خَلۡقࣲ جَدِیدࣲ"],"ayah":"أَفَعَیِینَا بِٱلۡخَلۡقِ ٱلۡأَوَّلِۚ بَلۡ هُمۡ فِی لَبۡسࣲ مِّنۡ خَلۡقࣲ جَدِیدࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق