الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَحَسِبُوا ألا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وصَمُّوا كَثِيرٌ مِنهم واللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ﴾ ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إنَّ اللهَ هو المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وقالَ المَسِيحُ يا بَنِي إسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي ورَبَّكم إنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهَ عَلَيْهِ الجَنَّةَ ومَأْواهُ النارُ وما لِلظّالِمِينَ مَن أنْصارٍ﴾ اَلْمَعْنى في هَذِهِ الآيَةِ: وظَنَّ هَؤُلاءِ الكَفَرَةُ والعُصاةُ مِن بَنِي إسْرائِيلَ ألّا يَكُونَ مِنَ اللهِ ابْتِلاءٌ لَهُمْ؛ وأخْذٌ في الدُنْيا؛ وتَمْحِيصٌ؛ فَلَجُّوا في شَهَواتِهِمْ؛ وعَمُوا فِيها؛ إذْ لَمْ يَتَبَصَّرُوا الحَقَّ؛ شُبِّهُوا بِالعُمْيِ؛ وصَمُّوا إذْ لَمْ يَسْمَعُوهُ؛ شُبِّهُوا بِالصُمِّ؛ ونَحْوُ هَذا قَوْلُ النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: « "حُبُّكَ الشَيْءَ يُعْمِي ويُصِمُّ".» وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ﴾ ؛ قالَتْ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: هَذِهِ التَوْبَةُ هي رَدُّهم إلى بَيْتِ المَقْدِسِ بَعْدَ الإخْراجِ الأوَّلِ؛ ورَدُّ مُلْكِهِمْ؛ وحالِهِمْ؛ ثُمَّ عَمُوا؛ وصَمُّوا بَعْدَ ذَلِكَ؛ حَتّى أُخْرِجُوا الإخْراجَ الثانِي؛ ولَمْ يُجْبَرُوا أبَدًا؛ وقالَتْ جَماعَةٌ: ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِبَعْثِ عِيسى - عَلَيْهِ السَلامُ - إلَيْهِمْ؛ وقالَتْ جَماعَةٌ: تَوْبَتُهُ تَعالى عَلَيْهِمْ بَعْثُ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ -؛ وخَصَّ بِهَذا المَعْنى كَثِيرًا مِنهم لِأنَّ مِنهم قَلِيلًا آمَنَ؛ ثُمَّ تَوَعَّدَهم بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ﴾. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ؛ ونافِعٌ ؛ وعاصِمٌ ؛ وابْنُ عامِرٍ: "ألّا تَكُونَ"؛ بِنَصْبِ النُونِ؛ وقَرَأ أبُو عَمْرٍو ؛ وحَمْزَةُ ؛ والكِسائِيُّ: "أنْ لا تَكُونُ"؛ بِرَفْعِ النُونِ؛ ولَمْ يَخْتَلِفُوا في رَفْعِ (p-٢٢٢)"فِتْنَةٌ" لِأنَّ "كانَ"؛ هُنا هي التامَّةُ؛ فَوَجْهُ قِراءَةِ النَصْبِ أنْ تَكُونَ "أنْ" هي الخَفِيفَةُ الناصِبَةُ؛ ووَجْهُ قِراءَةِ الرَفْعِ أنْ تَكُونَ المُخَفَّفَةَ مِنَ الثَقِيلَةِ؛ وحَسُنَ دُخُولُها؛ لِأنَّ "لا" قَدْ وطَّأتْ أنْ يَلِيَها الفِعْلُ؛ وقامَتْ مَقامَ الضَمِيرِ المَحْذُوفِ؛ عِوَضًا مِنهُ؛ ولا بُدَّ في مِثْلِ هَذا مِن عِوَضٍ؛ مِثْلَ قَوْلِكَ: "عَلِمْتُ أنْ قَدْ يَقُومُ زَيْدٌ"؛ وقَوْلِهِ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿عَلِمَ أنْ سَيَكُونُ مِنكم مَرْضى﴾ [المزمل: ٢٠] ؛ وقَوْلِكَ: "عَلِمْتُ أنْ سَوْفَ يَقُومُ زَيْدٌ"؛ و"أنْ لا تَكُونُ فِتْنَةٌ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأنْ لَيْسَ لِلإنْسانِ إلا ما سَعى﴾ [النجم: ٣٩] ؛ حَسُنَ فِيهِ ألّا يَكُونَ عِوَضٌ؛ لِأنَّ "لَيْسَ"؛ لَيْسَ بِفِعْلٍ حَقِيقِيٍّ؛ والأفْعالُ ثَلاثَةُ ضُرُوبٍ: ضَرْبٌ يُجْرى مُجْرى "تَيَقَّنْتُ"؛ نَحْوَ "عَلِمْتُ"؛ و"دَرَيْتُ"؛ فَهَذا الضَرْبُ تَلِيهِ "أنَّ"؛ اَلثَّقِيلَةُ؛ الَّتِي تُناسِبُهُ في الثُبُوتِ؛ وحُصُولِ الوُقُوعِ؛ وضَرْبٌ في الضِدِّ مِن ذَلِكَ؛ نَحْوَ "طَمِعْتُ"؛ و"رَجَوْتُ"؛ و"خِفْتُ"؛ هو مُصَرَّحٌ بِأنْ لَمْ يَقَعْ؛ فَهَذا الضَرْبُ تَلِيهِ "أنْ"؛ اَلْخَفِيفَةُ؛ إذْ هي تُناسِبُهُ؛ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِي أطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لِي﴾ [الشعراء: ٨٢] ؛ وتَخافُونَ أن يَتَخَطَّفَكُمُ الناسُ ؛ ﴿فَإنْ خِفْتُمْ ألا يُقِيما حُدُودَ اللهِ﴾ [البقرة: ٢٢٩] ؛ و﴿فَخَشِينا أنْ يُرْهِقَهُما طُغْيانًا وكُفْرًا﴾ [الكهف: ٨٠] ؛ و﴿أأشْفَقْتُمْ أنْ تُقَدِّمُوا﴾ [المجادلة: ١٣] ؛ ونَحْوِ هَذا؛ وضَرْبٌ ثالِثٌ يَنْجَذِبُ إلى الأوَّلِ مَرَّةً؛ وإلى الثانِي أحْيانًا؛ نَحْوَ "ظَنَنْتُ"؛ و"حَسِبْتُ"؛ و"زَعَمْتُ"؛ فَيُجْرى مُجْرى "أرْجُو"؛ و"أطْمَعُ"؛ مِن حَيْثُ الظَنُّ؛ والزَعْمُ؛ والمَحْسَبَةُ أُمُورٌ غَيْرُ ثابِتَةٍ؛ ولا مُسْتَقِرَّةٍ؛ وقَدْ تُنْزَلُ مَنزِلَةَ العِلْمِ؛ مِن حَيْثُ تُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمالَهُ؛ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿الَّذِينَ (p-٢٢٣)يَظُنُّونَ أنَّهم مُلاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٤٦] ؛ وقَوْلِهِ: ﴿إنِّي ظَنَنْتُ أنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٠]. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "عَمُوا وصَمُّوا"؛ بِفَتْحِ العَيْنِ؛ والصادِ؛ وقَرَأ ابْنُ وثّابٍ ؛ والنَخَعِيُّ: "عُمُوا وصُمُّوا"؛ بِضَمِّ العَيْنِ؛ والمِيمِ مُخَفَّفَةً؛ وبِضَمِّ الصادِ؛ وهَذا هو عَلى أنْ تُجْرى مُجْرى: "زُكِمَ الرَجُلُ"؛ و"أزْكَمَهُ اللهُ"؛ و"حُمَّ الرَجُلُ"؛ و"أحَمَّهُ اللهُ"؛ ولا يُقالُ: "زَكَمَهُ اللهُ"؛ ولا "حَمَّهُ اللهُ"؛ فَكَذَلِكَ يَجِيءُ هَذا: "عُمِيَ الرَجُلُ"؛ و"أعْماهُ غَيْرُهُ"؛ و"صُمَّ"؛ و"أصَمَّهُ غَيْرُهُ"؛ ولا يُقالُ: "عَمَيْتُهُ"؛ ولا "صَمَمْتُهُ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ﴾ ؛ أيْ: رَجَعَ بِهِمْ إلى الطاعَةِ؛ والحَقِّ؛ ومِن فَصاحَةِ اللَفْظِ اسْتِنادُ هَذا الفِعْلِ الشَرِيفِ إلى اللهِ تَعالى؛ واسْتِنادُ العَمى والصَمَمِ اللَذَيْنِ هُما عِبارَةٌ عَنِ الضَلالِ إلَيْهِمْ. وقَوْلُهُ تَعالى: "كَثِيرٌ"؛ يَرْتَفِعُ مِن إحْدى ثَلاثِ جِهاتٍ؛ إمّا عَلى البَدَلِ مِنَ الواوِ في قَوْلِهِ: ﴿ "عَمُوا وصَمُّوا"؛﴾ وإمّا عَلى جَمْعِ الفِعْلِ؛ وإنْ تَقَدَّمَ؛ عَلى لُغَةِ مَن قالَ: "أكَلُونِي البَراغِيثُ"؛ وإمّا عَلى أنْ يَكُونَ "كَثِيرٌ" خَبَرَ ابْتِداءٍ مُضْمَرٍ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى إخْبارًا مُؤَكَّدًا بِلامِ القَسَمِ عن كُفْرِ القائِلِينَ: ﴿إنَّ اللهَ هو المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ ؛ وهَذا قَوْلُ اليَعْقُوبِيَّةِ مِنَ النَصارى؛ ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى عن قَوْلِ المَسِيحِ لَهم (p-٢٢٤)وَتَبْلِيغِهِ كَيْفَ كانَ؛ فَقالَ: ﴿وَقالَ المَسِيحُ يا بَنِي إسْرائِيلَ﴾ ؛ وهَذِهِ المَعانِي قَوْلُ المَسِيحِ بِألْفاظِ لُغَتِهِ؛ وهي بِعَيْنِها مَوْجُودَةٌ في تَبْلِيغِ مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: ٤٨] ؛ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ؛ وأخْبَرَهم عِيسى - عَلَيْهِ السَلامُ - أنَّ اللهَ تَعالى هو رَبُّهُ ورَبُّهُمْ؛ فَضَّلُوا هُمْ؛ وكَفَرُوا بِسَبَبِ ما رَأوا عَلى يَدَيْهِ مِنَ الآياتِ. والمَأْوى هو المَحَلُّ الَّذِي يَسْكُنُهُ المَرْءُ؛ ويَرْجِعُ إلَيْهِ؛ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ﴾ ؛ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن قَوْلِ عِيسى - عَلَيْهِ السَلامُ - لِبَنِي إسْرائِيلَ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ إخْبارًا مُسْتَأْنَفًا لِمُحَمَّدٍ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في تَفْسِيرِ لَفْظَةِ "اَلْمَسِيحِ"؛ في سُورَةِ "آلِ عِمْرانَ ".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب