الباحث القرآني

(p-٢١٩)قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والصابِئُونَ والنَصارى مَن آمَنَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ ﴿لَقَدْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ وأرْسَلْنا إلَيْهِمْ رُسُلا كُلَّما جاءَهم رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أنْفُسُهم فَرِيقًا كَذَّبُوا وفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾ "اَلَّذِينَ"؛ لَفْظٌ عامٌّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِن مِلَّةِ مُحَمَّدٍ ؛ ومِن غَيْرِها مِنَ المِلَلِ؛ فَكَأنَّ ألْفاظَ الآيَةِ حُصِرَ بِها الناسُ كُلُّهُمْ؛ وبَيَّنَتِ الطَوائِفَ عَلى اخْتِلافِها؛ وهَذا تَأْوِيلُ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ؛ وقالَ الزَجّاجُ: اَلْمُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ؛ اَلْمُنافِقُونَ؛ فالمَعْنى: "إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِأفْواهِهِمْ؛ ولَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: فَكَأنَّ ألْفاظَ الآيَةِ عَدَّتِ الطَوائِفَ الَّتِي يُمْكِنُ أنْ تَنْتَقِلَ إلى الإيمانِ؛ ثُمَّ نَفى عنهُمُ الخَوْفَ والحُزْنَ؛ بِشَرْطِ انْتِقالِهِمْ إلى الإيمانِ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ؛ وعَلى التَأْوِيلِ الأوَّلِ يَكُونُ قَوْلُهُ: "مَن آمَنَ"؛ في حَيِّزِ المُؤْمِنِينَ؛ بِمَعْنى: ثَبَتَ؛ واسْتَمَرَّ؛ وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: "هادُوا"؛ وتَفْسِيرُ "اَلصّابِئِينَ"؛ وتَفْسِيرُ "اَلنَّصارى"؛ في سُورَةِ "اَلْبَقَرَةِ". واخْتَلَفَ القُرّاءُ في إعْرابِ "اَلصّابِئِينَ"؛ في هَذِهِ الآيَةِ؛ فَقَرَأ الجُمْهُورُ: "والصابِئُونَ"؛ بِالرَفْعِ؛ وعَلَيْهِ مَصاحِفُ الأمْصارِ؛ والقُرّاءُ السَبْعَةُ؛ وقَرَأ عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -؛ وعائِشَةُ - رَضِيَ اللهُ عنها -؛ وأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ؛ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ؛ والجَحْدَرِيُّ: "والصابِئِينَ"؛ وهَذِهِ قِراءَةٌ بَيِّنَةُ الإعْرابِ؛ وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ؛ والزُهْرِيُّ: "والصابِيُونَ"؛ بِكَسْرِ الباءِ؛ وضَمِّ الياءِ؛ دُونَ هَمْزٍ؛ وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ "اَلْبَقَرَةِ". وأمّا قِراءَةُ الجُمْهُورِ: "والصابِئُونَ"؛ فَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ ؛ والخَلِيلِ ؛ ونُحاةِ البَصْرَةِ؛ أنَّهُ مِنَ المُقَدَّمِ الَّذِي مَعْناهُ التَأْخِيرُ؛ وهو المُرادُ بِهِ؛ كَأنَّهُ قالَ: "إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا مَن آمَنَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ؛ ولا هم يَحْزَنُونَ؛ والصابِئُونَ والنَصارى كَذَلِكَ"؛ وأنْشَدَ الزَجّاجُ نَظِيرًا في ذَلِكَ: ؎ وإلّا فاعْلَمُوا أنّا وأنْتُمْ ∗∗∗ بُغاةٌ ما بَقِينا في شِقاقِ (p-٢٢٠)فَقَوْلُهُ: "وَأنْتُمْ"؛ مُقَدَّمٌ في اللَفْظِ؛ مُؤَخَّرٌ في المَعْنى؛ أيْ: "وَأنْتُمْ كَذَلِكَ". وحَكى الزَجّاجُ عَنِ الكِسائِيِّ ؛ والفَرّاءِ أنَّهُما قالا: "والصابِئُونَ"؛ عُطِفَ عَلى "والَّذِينَ"؛ إذِ الأصْلُ في "اَلَّذِينَ"؛ اَلرَّفْعُ؛ وإذْ نَصْبُ "إنَّ" ضَعِيفٌ؛ وخَطَّأ الزَجّاجُ هَذا القَوْلَ؛ وقالَ: "إنَّ" أقْوى النَواصِبِ؛ وحُكِيَ أيْضًا عَنِ الكِسائِيِّ أنَّهُ قالَ: "والصابِئُونَ"؛ عُطِفَ عَلى الضَمِيرِ في "هادُوا"؛ والتَقْدِيرُ: "هادُوا هم والصابِئُونَ"؛ وهَذا قَوْلٌ يَرُدُّهُ المَعْنى: لِأنَّهُ يَقْتَضِي أنَّ الصابِئِينَ هادُوا؛ وقِيلَ: "إنَّ"؛ بِمَعْنى "نِعْمَ"؛ وما بَعْدَها مَرْفُوعٌ بِالِابْتِداءِ؛ ورُوِيَ عن بَعْضِهِمْ أنَّهُ قَرَأ: ["والصابُونَ"؛ بِلا هَمْزَةٍ]. واتِّصالُ هَذِهِ الآيَةِ بِالَّتِي قَبْلَها هو أنْ قِيلَ لَهُمْ: لَيْسَ الحَقُّ في نَفْسِهِ عَلى ما تَزْعُمُونَ مِن أنَّكم أبْناءُ اللهِ وأحِبّاؤُهُ؛ بَلْ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ مُسْتَقِيمٍ حَتّى تُؤْمِنُوا وتُقِيمُوا الكُتُبَ المُنَزَّلَةَ؛ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الإخْبارَ عَنِ الحَقِّ في نَفْسِهِ بِأنَّهُ مَن آمَنَ في كُلِّ العالَمِ فَهو الفائِزُ الَّذِي لا خَوْفٌ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿لَقَدْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ اسْتِئْنافُ خَبَرٍ بِفِعْلِ أوائِلِهِمْ؛ وما نَقَضُوا مِنَ العُهُودِ؛ واجْتَرَحُوا مِنَ الجَرائِمِ؛ أيْ: "إنَّ العَصا مِنَ العُصَيَّةِ"؛ وهَؤُلاءِ يا مُحَمَّدُ مِن أُولَئِكَ؛ فَلَيْسَ قَبِيحُ فِعْلِهِمْ بِبِدْعٍ. و"كُلَّما"؛ ظَرْفٌ؛ والعامِلُ فِيهِ: "كَذَّبُوا"؛ و"يَقْتُلُونَ"؛ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِما لا (p-٢٢١)تَهْوى أنْفُسُهُمْ﴾ ؛ يَقْتَضِي أنَّ هَواهم كانَ غَيْرَ الحَقِّ؛ وهو ظاهِرُ هَوى النَفْسِ مَتى أُطْلِقَ؛ فَمَتى قُيِّدَ بِالخَيْرِ ساغَ ذَلِكَ؛ ومِنهُ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عنهُ - في قِصَّةِ أُسارى بَدْرٍ: «فَهَوى رَسُولُ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - ما قالَ أبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -؛ ولَمْ يَهْوَ ما قُلْتُ أنا.» وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَرِيقًا كَذَّبُوا﴾ ؛ مَعْناهُ: كَذَّبُوهُ فَقَطْ؛ يُرِيدُ: اَلْفَرِيقُ مِنَ الرُسُلِ؛ ولَمْ يَقْتُلُوهُ؛ وفَرِيقًا مِنَ الرُسُلِ كَذَّبُوهُ؛ وقَتَلُوهُ؛ فاكْتَفى بِذِكْرِ القَتْلِ؛ إذْ هو يَسْتَغْرِقُ التَكْذِيبَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب