الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَإذا جاءُوكم قالُوا آمَنّا وقَدْ دَخَلُوا بِالكُفْرِ وهم قَدْ خَرَجُوا بِهِ واللهُ أعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ﴾ ﴿وَتَرى كَثِيرًا مِنهم يُسارِعُونَ في الإثْمِ والعُدْوانِ وأكْلِهِمُ السُحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَبّانِيُّونَ والأحْبارُ عن قَوْلِهِمُ الإثْمَ وأكْلِهِمُ السُحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ﴾ ﴿وَقالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أيْدِيهِمْ ولُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ولَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنهم ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ طُغْيانًا وكُفْرًا وألْقَيْنا بَيْنَهُمُ العَداوَةَ والبَغْضاءَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ كُلَّما أوقَدُوا نارًا لِلْحَرْبِ أطْفَأها اللهِ ويَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسادًا واللهُ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ﴾ اَلضَّمِيرُ في "جاؤُوكُمْ"؛ لِلْيَهُودِ المُعاصِرِينَ لِمُحَمَّدٍ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ وخاصَّةً لِلْمُنافِقِينَ؛ نَصَّ عَلى ذَلِكَ ابْنُ عَبّاسٍ ؛ وقَتادَةُ ؛ والسُدِّيُّ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى عنهم أنَّهم دَخَلُوا وهم كُفّارٌ؛ وخَرَجُوا كَذَلِكَ؛ لَمْ تَنْفَعْهُمُ المَوْعِظَةُ؛ ولا نَفَعَ فِيهِمُ التَذْكِيرُ؛ وقَوْلُهُ: "وَهُمْ"؛ تَخْلِيصٌ مِنَ احْتِمالِ العِبادَةِ أنْ يَدْخُلَ قَوْمٌ بِالكُفْرِ ثُمَّ يُؤْمِنُوا؛ ويَخْرُجَ قَوْمٌ وهم كَفَرَةٌ؛ فَكانَ يَنْطَبِقُ عَلى الجَمِيعِ: "وَقَدْ دَخَلُوا بِالكُفْرِ وقَدْ خَرَجُوا بِهِ"؛ فَأزالَ الِاحْتِمالَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَهم قَدْ خَرَجُوا بِهِ﴾ ؛ أيْ: هم بِأعْيانِهِمْ؛ ثُمَّ فَضَحَهم تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿واللهُ أعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ﴾ ؛ أيْ: مِنَ الكُفْرِ. وقَوْلُهُ تَعالى لِنَبِيِّهِ: "وَتَرى"؛ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن رُؤْيَةِ البَصَرِ؛ ويُحْتَمَلُ مِن رُؤْيَةِ القَلْبِ؛ ويَكُونَ المَفْعُولُ الثانِي: "يُسارِعُونَ"؛ وعَلى الِاحْتِمالِ الأوَّلِ "يُسارِعُونَ" حالٌ. و"فِي الإثْمِ"؛ مَعْناهُ: في مُوجِباتِ الإثْمِ؛ إذِ الإثْمُ إنَّما هو الحُكْمُ المُعَلَّقُ بِصاحِبِ المَعْصِيَةِ؛ والنِسْبَةُ الَّتِي يَصِيرُ إلَيْها إذا وقَعَ الذَنْبُ؛ وهو مِن هَؤُلاءِ: كُفْرُهُمْ؛ و"والعُدْوانِ"؛ مَصْدَرٌ مِن: "عَدا الرَجُلُ"؛ إذا ظَلَمَ؛ وتَجاوَزَ الحَدَّ؛ و"اَلسُّحْتَ"؛ هو الرِشا؛ (p-٢١٠)وَسائِرُ مَكْسَبِهِمُ الخَبِيثِ؛ واللامُ في "لَبِئْسَ"؛ لامُ قَسَمٍ؛ وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: "والعِدْوانِ" بِكَسْرِ العَيْنِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَبّانِيُّونَ والأحْبارُ﴾ ؛ تَخْصِيصٌ في ضِمْنِهِ تَوْبِيخٌ لَهُمْ؛ إذْ تَرَكُوا اللازِمَ؛ قالَ الطَبَرِيُّ: كُلُّ العُلَماءِ يَقُولُونَ: ما في القُرْآنِ آيَةٌ هي أشَدُّ تَوْبِيخًا لِلْعُلَماءِ مِن هَذِهِ الآيَةِ؛ ولا أخْوَفُ عَلَيْهِمْ مِنها؛ وقالَ الضَحّاكُ بْنُ مُزاحِمٍ: ما في القُرْآنِ آيَةٌ أخْوَفُ عِنْدِي مِنها؛ أنّا لا نَنْهى؛ وقالَ نَحْوَ هَذا ابْنُ عَبّاسٍ ؛ وقَرَأ الجَرّاحُ؛ وأبُو واقِدٍ: "اَلرَّبّانِيُّونَ"؛ بِكَسْرِ الراءِ؛ واحِدُهُمْ: رِبِّيٌ؛ إمّا مَنسُوبٌ إلى عِلْمِ الرَبِّ؛ وإمّا مِن تَرْبِيَةِ الناسِ بِصِغارِ العِلْمِ قَبْلَ كِبارِهِ؛ وزِيدَتِ النُونُ في نِسْبَتِهِ مُبالَغَةً؛ كَـ "شَعْرانِيٌّ"؛ و"مَنظَرانِيٌّ"؛ و"مَخْبَرانِيٌّ"؛ وقالَ الحَسَنُ: اَلرَّبّانِيُّ: عالِمُ الإنْجِيلِ؛ والحَبْرُ: عالِمُ التَوْراةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وقَوْلُهُ في "اَلرَّبّانِيُّ"؛ شاذٌّ بَعِيدٌ. و"اَلْأحْبارُ": واحِدُهم "حَبْرٌ"؛ بِكَسْرِ الحاءِ؛ وفَتْحِها؛ وهُمُ العُلَماءُ الَّذِينَ لا يُعْنُونَ لِإصْلاحِ الناسِ؛ ولا يَكْلُفُونَ ذَلِكَ؛ والرَبّانِيُّ هو العالِمُ المُدَبِّرُ المُصْلِحُ؛ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿عن قَوْلِهِمُ الإثْمَ﴾ ؛ ظاهِرٌ أنَّ الإثْمَ هُنا يُرادُ بِهِ الكُفْرُ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِهِ سائِرُ أقْوالِهِمُ المُنْكَرَةِ في النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - والمُؤْمِنِينَ؛ وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ: "بِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ"؛ بِغَيْرِ لامِ قَسَمٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقالَتِ اليَهُودُ﴾ ؛ إلى قَوْلِهِ: ﴿لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ﴾ ؛ هَذِهِ الآيَةُ تَعْدِيدُ كَبِيرَةٍ مِن أقْوالِهِمْ وكُفْرِهِمْ؛ أيْ: "فَمَن يَقُولُ هَذِهِ العَظِيمَةَ فَلا يُسْتَنْكَرُ عَلَيْهِ أنْ يُنافِقَ عَلَيْكَ يا مُحَمَّدُ؛ ويَسْعى في رَدِّ أمْرِ اللهِ الَّذِي أوحاهُ إلَيْكَ"؛ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ؛ وجَماعَةٌ مِنَ المُتَأوِّلِينَ: مَعْنى قَوْلِهِمُ التَبْخِيلُ؛ وذَلِكَ أنَّهم لَحِقَتْهم سِنَةٌ وجَهْدٌ؛ فَقالُوا هَذِهِ العِبارَةَ؛ يَعْنُونَ بِها أنَّ اللهَ بَخِلَ عَلَيْهِمْ بِالرِزْقِ؛ والتَوْسِعَةِ؛ وهَذا المَعْنى يُشْبِهُ ما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ﴾ [الإسراء: ٢٩] ؛ فَإنَّما المُرادُ: "لا تَبْخَلْ"؛ ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: « "مَثَلُ البَخِيلِ والمُتَصَدِّقِ..."؛» اَلْحَدِيثَ؛ وذَكَرَ الطَبَرِيُّ ؛ والنَقّاشُ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في "فِنْحاصٍ"؛ (p-٢١١)اَلْيَهُودِيِّ؛ وأنَّهُ قالَها؛ وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: قَوْلُهُمْ: ﴿يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ﴾ ؛ إنَّما يُرِيدُونَ: "عن عَذابِهِمْ"؛ فَهي - عَلى هَذا - في مَعْنى قَوْلِهِمْ: ﴿نَحْنُ أبْناءُ اللهِ وأحِبّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] ؛ وقالَ السُدِّيُّ: أرادُوا بِذَلِكَ أنَّ يَدَهُ مَغْلُولَةٌ حَتّى يَرُدَّ عَلَيْنا مُلْكَنا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: فَكَأنَّهم عَنَوْا أنَّ قُوَّتَهُ تَعالى نَقَصَتْ؛ حَتّى غُلِبُوا عَلى مُلْكِهِمْ؛ وظاهِرُ مَذْهَبِ اليَهُودِ -لَعَنَهُمُ اللهُ- في هَذِهِ المَقالَةِ: اَلتَّجْسِيمُ؛ وكَذَلِكَ يُعْطِي كَثِيرٌ مِن أقْوالِهِمْ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿غُلَّتْ أيْدِيهِمْ﴾ ؛ دُعاءٌ عَلَيْهِمْ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا؛ ويَصِحُّ عَلى كِلا الِاحْتِمالَيْنِ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ في الدُنْيا؛ وأنْ يُرادَ بِهِ الآخِرَةُ؛ وإذا كانَ خَبَرًا عَنِ الدُنْيا فالمَعْنى: "غُلَّتْ أيْدِيهِمْ عَنِ الخَيْرِ؛ والإنْفاقِ في سَبِيلِ اللهِ ؛ ونَحْوِهِ"؛ وإذا كانَ خَبَرًا عَنِ الآخِرَةِ فالمَعْنى: "غُلَّتْ في نارِ جَهَنَّمَ"؛ أيْ: "حُتِمَ هَذا عَلَيْهِمْ؛ ونَفَذَ بِهِ القَضاءُ؛ كَما حُتِمَتْ عَلَيْهِمُ اللَعْنَةُ بِقَوْلِهِمْ هَذا؛ وبِما جَرى مُجْراهُ"؛ وقَرَأ أبُو السَمّالِ: "وَلُعْنُوا"؛ بِسُكُونِ العَيْنِ؛ وذَلِكَ قَصْدٌ لِلتَّخْفِيفِ؛ لا سِيَّما هُنا لِلْهُبُوطِ مِن ضَمَّةٍ إلى كَسْرَةٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ﴾ ؛ اَلْعَقِيدَةُ في هَذا المَعْنى نَفْيُ التَشْبِيهِ عَنِ اللهِ تَعالى؛ وأنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ؛ ولا لَهُ جارِحَةٌ؛ ولا يُشَبَّهُ؛ ولا يُكَيَّفُ؛ ولا يُتَحَيَّزُ في جِهَةٍ كالجَواهِرِ؛ ولا تُحِلُّهُ الحَوادِثُ؛ تَعالى عَمّا يَقُولُ المُبْطِلُونَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ العُلَماءُ فِيما يَنْبَغِي أنْ يُعْتَقَدَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿بَلْ يَداهُ﴾ ؛ وفي قَوْلِهِ: ﴿بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥] ؛ ﴿عَمِلَتْ أيْدِينا﴾ [يس: ٧١] ؛ ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: ١٠] ؛ ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي﴾ [طه: ٣٩] ؛ ﴿تَجْرِي بِأعْيُنِنا﴾ [القمر: ١٤] ؛ ﴿واصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإنَّكَ بِأعْيُنِنا﴾ [الطور: ٤٨] ؛ و﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلا وجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨] ؛ ونَحْوِ هَذا؛ (p-٢١٢)فَقالَ فَرِيقٌ مِنَ العُلَماءِ - مِنهُمُ الشَعْبِيُّ ؛ وابْنُ المُسَيِّبِ ؛ وسُفْيانُ -: "يُؤْمَنُ بِهَذِهِ الأشْياءِ؛ وتُقْرَأُ كَما نَصَّها اللهُ ؛ ولا يُعَنُّ لِتَفْسِيرِها؛ ولا يُشَقَّقُ النَظَرُ فِيها". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا قَوْلٌ يَضْطَرِبُ؛ لِأنَّ القائِلِينَ بِهِ يُجْمِعُونَ عَلى أنَّها لَيْسَتْ عَلى ظاهِرِها في كَلامِ العَرَبِ؛ فَإذا فَعَلُوا هَذا فَقَدْ نَظَرُوا؛ وصارَ السُكُوتُ عَنِ الأمْرِ بَعْدَ هَذا مِمّا يُوهِمُ العَوامَّ؛ ويُتِيهُ الجَهَلَةَ. وقالَ جُمْهُورُ الأُمَّةِ: "بَلْ تُفَسَّرُ هَذِهِ الأُمُورُ عَلى قَوانِينِ اللُغَةِ؛ ومَجازِ الِاسْتِعارَةِ؛ وغَيْرِ ذَلِكَ مِن أفانِينِ كَلامِ العَرَبِ"؛ فَقالُوا في "اَلْعَيْنُ"؛ و"اَلْأعْيُنُ": إنَّها عِبارَةٌ عَنِ العِلْمِ؛ والإدْراكِ؛ كَما يُقالُ: "فُلانٌ مِن فُلانٍ بِمَرْأى ومَسْمَعٍ"؛ إذا كانَ يُعْنى بِأُمُورِهِ؛ وإنْ كانَ غائِبًا عنهُ؛ وقالُوا في "اَلْوَجْهُ": إنَّهُ عِبارَةٌ عَنِ الذاتِ؛ وصِفاتِها؛ وقالُوا في "اَلْيَدُ"؛ و"اَلْيَمِينُ"؛ و"اَلْأيْدِي": إنَّها تَأْتِي مَرَّةً بِمَعْنى "اَلْقُدْرَةُ"؛ كَما تَقُولُ العَرَبُ: "لا يَدَ لِي بِكَذا"؛ ومَرَّةً بِمَعْنى "اَلنِّعْمَةُ"؛ كَما يُقالُ: "لِفُلانٍ عِنْدَ فُلانٍ يَدٌ"؛ وتَكُونُ بِمَعْنى "اَلْمِلْكُ"؛ كَما تَقُولُ: "يَدُ فُلانٍ عَلى أرْضِهِ"؛ وهَذِهِ المَعانِي إذا ورَدَتْ عَنِ اللهِ - تَبارَكَ وتَعالى- عُبِّرَ عنها بِاليَدِ؛ أوِ الأيْدِي؛ أوِ اليَدَيْنِ؛ اسْتِعْمالًا لِفَصاحَةِ العَرَبِ؛ ولِما في ذَلِكَ مِنَ الإيجازِ؛ وهَذا مَذْهَبُ أبِي المَعالِي؛ والحُذّاقِ. وقالَ قَوْمٌ مِنَ العُلَماءِ - مِنهُمُ القاضِي ابْنُ الطَيِّبِ -: هَذِهِ كُلُّها صِفاتٌ زائِدَةٌ عَلى الذاتِ؛ ثابِتَةٌ لِلَّهِ دُونَ أنْ يَكُونَ في ذَلِكَ تَشْبِيهٌ ولا تَحْدِيدٌ؛ وذَكَرَ هَذا الطَبَرِيُّ وغَيْرُهُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ - في هَذِهِ الآيَةِ -: يَداهُ: نِعْمَتاهُ؛ ثُمَّ اخْتَلَفَتْ عِبارَةُ الناسِ في تَعْيِينِ النِعْمَتَيْنِ؛ فَقِيلَ: نِعْمَةُ الدُنْيا؛ ونِعْمَةُ الآخِرَةِ؛ وقِيلَ: اَلنِّعْمَةُ الظاهِرَةُ؛ والنِعْمَةُ الباطِنَةُ؛ وقِيلَ: نِعْمَةُ المَطَرِ؛ ونِعْمَةُ النَباتِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: والظاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ﴾ ؛ عِبارَةٌ عن إنْعامِهِ عَلى الجُمْلَةِ؛ وعَبَّرَ (p-٢١٣)عنهُ بِيَدَيْنِ جَرْيًا عَلى طَرِيقَةِ العَرَبِ في قَوْلِهِمْ: "فُلانٌ يُنْفِقُ بِكِلْتا يَدَيْهِ"؛ ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ - وهو الأعْشى -: ؎ يَداكَ يَدا مَجْدٍ فَكَفٌّ مُفِيدَةٌ ∗∗∗ وكَفٌّ إذا ما ضُنَّ بِالمالِ تُنْفِقُ ويُؤَيِّدُ أنَّ اليَدَيْنِ هُنا بِمَعْنى الإنْعامِ قَرِينَةُ الإنْفاقِ؛ قالَ أبُو عَمْرٍو الدانِيُّ: وقَرَأ أبُو عَبْدِ اللهِ: "بَلْ يَداهُ بَسْطَتانِ"؛ يُقالُ: "يَدٌ بَسْطَةٌ"؛ أيْ: مُطْلَقَةٌ؛ ورُوِيَ عنهُ: "بَسْطانِ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنهم ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ طُغْيانًا وكُفْرًا﴾ ؛ إعْلامٌ لِمُحَمَّدٍ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ فَإنَّ هَؤُلاءِ اليَهُودَ مِنَ العُتُوِّ والبُعْدِ عَنِ الحَقِّ بِحَيْثُ إذا سَمِعُوا هَذِهِ الأسْرارَ الَّتِي لَهُمْ؛ والأقْوالَ الَّتِي لا يَعْلَمُها غَيْرُهم تَنْزِلُ عَلَيْكَ؛ طَغَوْا وكَفَرُوا؛ وكانَ نَوْلُهم أنْ يُؤْمِنُوا؛ إذْ يَعْلَمُونَ أنَّكَ لا تَعْرِفُها إلّا مِن قِبَلِ اللهِ ؛ لَكِنَّهم مِنَ العُتُوِّ بِحَيْثُ يَزِيدُهم ذَلِكَ طُغْيانًا؛ وخَصَّ تَعالى ذِكْرَ الكَثِيرِ؛ إذْ فِيهِمْ مَن آمَنَ بِاللهِ ومَن لا يَطْغى كُلَّ الطُغْيانِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَألْقَيْنا بَيْنَهُمُ العَداوَةَ والبَغْضاءَ﴾ ؛ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وَقالَتِ اليَهُودُ﴾ ؛ فَهي قَصَصٌ يُعْطَفُ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ؛ والعَداوَةُ أخَصُّ مِنَ البَغْضاءِ؛ لِأنَّ كُلَّ عَدُوٍّ فَهو يُبْغِضُ؛ وقَدْ يُبْغِضُ مَن لَيْسَ بِعَدُوٍّ؛ وكَأنَّ العَداوَةَ شَيْءٌ مُشْتَهَرٌ يَكُونُ عنهُ عَمَلٌ وحَرْبٌ؛ والبَغْضاءُ قَدْ لا تُجاوِزُ النُفُوسَ؛ وقَدْ ألْقى اللهُ الأمْرَيْنِ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُلَّما أوقَدُوا نارًا لِلْحَرْبِ أطْفَأها اللهُ﴾ ؛ اِسْتِعارَةٌ بَلِيغَةٌ تُنْبِئُ عن فَضِّ جُمُوعِهِمْ؛ وتَشْتِيتِ آرائِهِمْ؛ وتَفْرِيقِ كَلِمَتِهِمْ؛ والآيَةُ تَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ إخْبارًا عن حالِ أسْلافِهِمْ؛ أيْ: مُنْذُ عَصَوْا؛ وعَتَوْا؛ وهَدَّ اللهُ مُلْكَهُمْ؛ رَماهم بِهَذِهِ الأُمُورِ؛ فَهم لا تَرْتَفِعُ لَهم رايَةٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ؛ ولا يُقاتِلُونَ جَمِيعًا إلّا في قُرًى مُحَصَّنَةٍ؛ هَذا قَوْلُ الرَبِيعِ؛ والسُدِّيِّ ؛ وغَيْرِهِما؛ وقالَ مُجاهِدٌ: مَعْنى الآيَةِ: كُلَّما أوقَدُوا نارًا لِحَرْبِ مُحَمَّدٍ أطْفَأها اللهُ ؛ فالآيَةُ عَلى هَذا تَبْشِيرٌ لِمُحَمَّدٍ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - والمُؤْمِنِينَ؛ وإشارَةٌ إلى حاضِرِيهِ مِنَ اليَهُودِ. (p-٢١٤)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "وَيَسْعَوْنَ"؛﴾ مَعْنى السَعْيِ في هَذِهِ الآيَةِ: اَلْعَمَلُ؛ والفِعْلُ؛ وقَدْ يَجِيءُ السَعْيُ بِمَعْنى الِانْتِقالِ عَلى القَدَمِ؛ وذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعالى:﴿فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللهِ﴾ [الجمعة: ٩] ؛ وإنْ كانَ مالِكٌ - رَحِمَهُ اللهُ - قَدْ قالَ في "اَلْمُوَطَّأُ": "إنَّ السَعْيَ في قَوْلِهِ: ﴿فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللهِ﴾ [الجمعة: ٩] ؛ إنَّهُ العَمَلُ؛ والفِعْلُ"؛ ولَكِنَّ غَيْرَهُ مِن أهْلِ العِلْمِ جَعَلَهُ: عَلى الأقْدامِ؛ وهو الظاهِرُ بِقَرِينَةِ ضِيقِ الوَقْتِ؛ وبِالتَعْدِيَةِ بِـ "إلى"؛ ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ: "فامْضُوا إلى ذِكْرِ اللهِ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللهُ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ﴾ ؛ أيْ: لا يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِن أفْعالِهِ في الدُنْيا والآخِرَةِ ما يَقْتَضِي المَحَبَّةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب