الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَوْراةِ وآتَيْناهُ الإنْجِيلَ فِيهِ هُدًى ونُورٌ ومُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَوْراةِ وهُدًى ومَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ ﴿وَلْيَحْكم أهْلُ الإنْجِيلِ بِما أنْزَلَ اللهُ فِيهِ ومَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ ﴿وَأنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابَ ومُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ "وَقَفَّيْنا"؛ تَشْبِيهٌ؛ كَأنَّ مَجِيءَ عِيسى - عَلَيْهِ السَلامُ - كانَ في قَفاءِ مَجِيءِ النَبِيِّينَ؛ وذَهابِهِمْ؛ والضَمِيرُ في "آثارِهِمْ"؛ لِلنَّبِيِّينَ المَذْكُورِينَ في قَوْلِهِ: ﴿يَحْكُمُ بِها النَبِيُّونَ﴾ [المائدة: ٤٤] ؛ و"مُصَدِّقًا"؛ حالٌ مُؤْكِّدَهٌ؛ و"اَلتَّوْراةِ"؛ بَيْنَ يَدَيْ عِيسى؛ لِأنَّها جاءَتْ قَبْلَهُ؛ كَما أنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - بَيْنَ يَدَيِ الساعَةِ؛ وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في هَذا المَعْنى في غَيْرِ مَوْضِعٍ. و"اَلْإنْجِيلَ"؛ اِسْمٌ أعْجَمِيٌّ ذُهِبَ بِهِ مَذْهَبَ الِاشْتِقاقِ؛ مِن "نَجَلَ"؛ إذا اسْتَخْرَجَ؛ وأظْهَرَ؛ والناسُ عَلى قِراءَتِهِ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ؛ إلّا الحَسَنَ بْنَ أبِي الحَسَنِ؛ فَإنَّهُ قَرَأ "اَلْأنْجِيلَ"؛ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ؛ وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ عَلى ذَلِكَ في أوَّلِ سُورَةِ "آلِ عِمْرانَ ". (p-١٨٢)والهُدى: اَلْإرْشادُ؛ والدُعاءُ إلى تَوْحِيدِ اللهِ وإحْياءِ أحْكامِهِ؛ والنُورُ: ما فِيهِ مِمّا يُسْتَضاءُ بِهِ؛ و"مُصَدِّقًا"؛ حالٌ مُؤَكِّدَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلى مَوْضِعِ الجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ: "فِيهِ هُدًى"؛ فَإنَّها جُمْلَةٌ في مَوْضِعِ الحالِ؛ وقالَ مَكِّيٌّ ؛ وغَيْرُهُ: "مُصَدِّقًا"؛ مَعْطُوفٌ عَلى الأوَّلِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وفي هَذا قَلَقٌ مِن جِهَةِ اتِّساقِ المَعانِي؛ وقَرَأ الناسُ: "وَهُدًى ومَوْعِظَةً"؛ بِالنَصْبِ؛ وذَلِكَ عَطْفٌ عَلى "مُصَدِّقٌ"؛ وقَرَأ الضَحّاكُ: "وَهُدًى ومَوْعِظَةٌ"؛ بِالرَفْعِ؛ وذَلِكَ مُتَّجَهٌ؛ وخُصَّ المُتَّقُونَ بِالذِكْرِ لِأنَّهُمُ المَقْصُودُ بِهِ في عِلْمِ اللهِ ؛ وإنْ كانَ الجَمِيعُ يُدْعى؛ ويُوعَظُ؛ ولَكِنَّ ذَلِكَ عَلى غَيْرِ المُتَّقِينَ عَمًى وحَيْرَةٌ. وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: "وَأنْ لِيَحْكُمَ"؛ بِزِيادَةِ "أنْ"؛ وقَرَأ حَمْزَةُ وحْدَهُ: "وَلِيَحْكُمَ"؛ بِكَسْرِ اللامِ؛ وفَتْحِ المِيمِ؛ عَلى لامِ "كَيْ"؛ ونُصِبَ الفِعْلُ بِها؛ والمَعْنى: "وَآتَيْناهُ الإنْجِيلَ لِيَتَضَمَّنَ الهُدى والنُورَ والتَصْدِيقَ؛ لِيَحْكُمَ أهْلُهُ بِما أنْزَلَ اللهُ فِيهِ"؛ وقَرَأ باقِي السَبْعَةِ: "وَلْيَحْكُمْ"؛ بِسُكُونِ اللامِ الَّتِي هي لامُ الأمْرِ؛ وجُزِمَ الفِعْلُ؛ ومَعْنى أمْرِهِ لَهم بِالحُكْمِ أيْ: "هَكَذا يَجِبُ عَلَيْهِمْ"؛ وحَسُنَ عَقِبَ ذَلِكَ التَوْقِيفُ عَلى وعِيدِ مَن خالَفَ ما أنْزَلَ اللهُ ؛ ومِنَ القُرّاءِ مَن يَكْسِرُ لامَ الأمْرِ؛ ويَجْزِمُ الفِعْلَ؛ وقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ؛ وتَقْرِيرُهُ هَذِهِ الصِفاتِ لِمَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللهُ هو عَلى جِهَةِ التَأْكِيدِ؛ وأصْوَبُ ما يُقالُ فِيها أنَّها تَعُمُّ كُلَّ مُؤْمِنٍ وكُلَّ كافِرٍ؛ فَيَجِيءُ كُلُّ ذَلِكَ في الكافِرِ عَلى أتَمِّ وُجُوهِهِ؛ وفي المُؤْمِنِ عَلى مَعْنى كُفْرِ المَعْصِيَةِ؛ وظُلْمِها؛ وفِسْقِها. وأخْبَرَ تَعالى بَعْدُ بِنُزُولِ هَذا القُرْآنِ؛ وقَوْلُهُ: "بِالحَقِّ"؛ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: مُضَمَّنًا الحَقائِقَ مِنَ الأُمُورِ؛ فَكَأنَّهُ نَزَلَ بِها؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ أنَّهُ أنْزَلَهُ بِأنْ حُقَّ ذَلِكَ؛ لا أنَّهُ وجَبَ عَلى اللهِ ؛ ولَكِنْ حُقَّ في نَفْسِهِ؛ وأنْزَلَهُ تَعالى صَلاحًا لِعِبادِهِ؛ وقَوْلُهُ: "مِنَ الكِتابِ"؛ يُرِيدُ مِنَ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ؛ فَهو اسْمُ جِنْسٍ؛ واخْتَلَفَتْ عِبارَةُ المُفَسِّرِينَ في مَعْنى "مُهَيْمِنًا"؛ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: "وَمُهَيْمِنًا": شاهِدًا؛ وقالَ أيْضًا: مُؤْتَمَنًا؛ وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْناهُ: مُصَدِّقًا؛ وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: أمِينًا؛ وحَكى الزَجّاجُ: قَرِيبًا؛ ولَفْظَةُ المُهَيْمِنِ أخَصُّ مِن هَذِهِ الألْفاظِ؛ لِأنَّ المُهَيْمِنَ عَلى الشَيْءِ هو المَعْنِيُّ بِأمْرِهِ؛ (p-١٨٣)الشاهِدُ عَلى حَقائِقِهِ؛ الحافِظُ لِحاصِلِهِ؛ فَلا يُدْخِلُ فِيهِ ما لَيْسَ مِنهُ؛ واللهُ - تَبارَكَ وتَعالى- هو المُهَيْمِنُ عَلى مَخْلُوقاتِهِ؛ وعِبادِهِ؛ والوَصِيُّ مُهَيْمِنٌ عَلى مَحْجُورِيهِ؛ وأمْوالِهِمْ؛ والرَئِيسُ مُهَيْمِنٌ عَلى رَعِيَّتِهِ؛ وأحْوالِهِمْ؛ والقُرْآنِ جَعَلَهُ مُهَيْمِنًا عَلى الكُتُبِ؛ يَشْهَدُ بِما فِيها مِنَ الحَقائِقِ؛ وعَلى ما نَسَبَهُ المُحَرِّفُونَ إلَيْها؛ فَيُصَحِّحُ الحَقائِقَ؛ ويُبْطِلُ التَحْرِيفَ؛ وهَذا هو شاهِدٌ ومُصَدِّقٌ ومُؤْتَمَنٌ وأمِينٌ؛ ومُهَيْمِنٌ؛ بِناءَ اسْمِ فاعِلٍ؛ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: ولَمْ يَجِئْ في كَلامِ العَرَبِ عَلى هَذا البِناءِ إلّا أرْبَعَةُ أحْرُفٍ؛ وهِيَ: "مُسَيْطِرٌ"؛ و"مُبَيْطِرٌ"؛ و"مُهَيْمِنٌ"؛ و"مُجَيْمِرٌ"؛ وذَكَرَ أبُو القاسِمِ الزَجّاجُ - في شَرْحِهِ لِصَدْرِ "أدَبُ الكِتابِ" - و"مُبَيْقِرٌ"؛ يُقالُ: "بَيْقَرَ الرَجُلُ"؛ إذا سارَ مِنَ الحِجازِ إلى الشامِ؛ ومِن أُفُقٍ إلى أُفُقٍ؛ و"بَيْقَرَ"؛ أيْضًا: لَعِبَ البَيْقَرى؛ وهي لُعْبَةٌ يَلْعَبُ بِها الصِبْيانُ؛ وقالَ مُجاهِدٌ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ"؛﴾ يَعْنِي مُحَمَّدًا - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ هو مُؤْتَمَنٌ عَلى القُرْآنِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وغَلِطَ الطَبَرِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - في هَذِهِ اللَفْظَةِ عَلى مُجاهِدٍ ؛ فَإنَّهُ فَسَّرَ تَأْوِيلَهُ عَلى قِراءَةِ الناسِ: "وَمُهَيْمِنًا"؛ بِكَسْرِ المِيمِ الثانِيَةِ؛ فَبَعُدَ التَأْوِيلُ؛ ومُجاهِدٌ - رَحِمَهُ اللهُ - إنَّما يَقْرَأُ هو وابْنُ مُحَيْصِنٍ: "مُهَيْمَنًا عَلَيْهِ"؛ بِفَتْحِ المِيمِ الثانِيَةِ؛ فَهو بِناءُ اسْمِ المَفْعُولِ؛ وهو حالٌ مِنَ الكِتابِ؛ مَعْطُوفَةٌ عَلى قَوْلِهِ: "مُصَدِّقًا"؛ وعَلى هَذا يُتَّجَهُ أنَّ المُؤْتَمَنَ عَلَيْهِ هو مُحَمَّدٌ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ و"عَلَيْهِ"؛ في مَوْضِعِ رَفْعٍ؛ عَلى تَقْدِيرِ أنَّها مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ؛ هَذا عَلى قِراءَةِ مُجاهِدٍ ؛ وكَذَلِكَ مَشى مَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - وتَوَغَّلَ في طَرِيقِ الطَبَرِيِّ في هَذا المَوْضِعِ؛ قالَ أبُو العَبّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ المُبَرِّدُ - رَحِمَهُ اللهُ -: "مُهَيْمِنٌ" أصْلُهُ: "مُؤَيْمِنٌ" - مِن بَنِي أمِينٍ -؛ أُبْدِلَتْ هَمْزَتُهُ هاءً؛ كَما قالُوا: "أرَقْتُ الماءَ"؛ و"هَرَقْتُهُ"؛ قالَ الزَجّاجُ: وهَذا حَسَنٌ عَلى طَرِيقِ العَرَبِيَّةِ؛ وهو مُوافِقٌ لِما جاءَ في التَفْسِيرِ؛ مِن أنَّ مَعْنى "مُهَيْمِنٌ": "مُؤْتَمَنٌ"؛ وحَكى ابْنُ قُتَيْبَةَ هَذا الَّذِي قالَ المُبَرِّدُ في بَعْضِ كُتُبِهِ؛ فَحَكى النَقّاشُ أنَّ ذَلِكَ بَلَغَ ثَعْلَبًا؛ فَقالَ: "إنَّ ما قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ رَدِيءٌ"؛ وقالَ: "هَذا باطِلٌ؛ والوُثُوبُ عَلى القُرْآنِ شَدِيدٌ؛ وهو ما سَمِعَ الحَدِيثَ مِن قَوِيٍّ؛ ولا ضَعِيفٍ؛ وإنَّما جَمَعَ الكُتُبَ"؛ اِنْتَهى كَلامُ ثَعْلَبٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ويُقالُ مِن "مُهَيْمِنٌ": "هَيْمَنَ الرَجُلُ عَلى الشَيْءِ"؛ إذا حَفِظَهُ؛ وحاطَهُ؛ وصارَ قائِمًا عَلَيْهِ (p-١٨٤)أمِينًا؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ "مُصَدِّقًا"؛ و"وَمُهَيْمِنًا"؛ حالَيْنِ مِنَ الكافِ في "إلَيْكَ"؛ ولا يَخُصُّ ذَلِكَ قِراءَةَ مُجاهِدٍ وحْدَهُ؛ كَما زَعَمَ مَكِّيٌّ. *** قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿فاحْكم بَيْنَهم بِما أنْزَلَ اللهُ ولا تَتَّبِعْ أهْواءَهم عَمّا جاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنكم شِرْعَةً ومِنهاجًا ولَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكم أُمَّةً واحِدَةً ولَكِنْ لِيَبْلُوَكم في ما آتاكم فاسْتَبِقُوا الخَيْراتِ إلى اللهُ مَرْجِعُكم جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: هَذِهِ ناسِخَةٌ لِقَوْلِهِ: ﴿أو أعْرِضْ عنهُمْ﴾ [المائدة: ٤٢] ؛ وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ. وقالَ الجُمْهُورُ: إنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ؛ وإنَّ المَعْنى: "فَإنِ اخْتَرْتَ أنْ تَحْكُمَ فاحْكم بَيْنَهم بِما أنْزَلَ اللهُ ". ثُمَّ حَذَّرَ تَعالى نَبِيَّهُ مِنَ اتِّباعِ أهْوائِهِمْ؛ أيْ: شَهَواتِهِمْ؛ وإرادَتِهِمُ الَّتِي هي هَوًى ورَسُولٌ لِلنَّفْسِ؛ والنَفْسُ أمّارَةٌ بِالسُوءِ؛ فَهَواها مُرْدٍ لا مَحالَةَ؛ وحَسُنَ هُنا دُخُولُ "عن"؛ في قَوْلِهِ: ﴿عَمّا جاءَكَ مِنَ الحَقِّ﴾ ؛ لَمّا كانَ الكَلامُ بِمَعْنى: "لا تَنْصَرِفْ؛ أو لا تُزَحْزَحْ بِحَسَبِ أهْوائِهِمْ عَمّا جاءَكَ". واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في مَعْنى قَوْلِهِ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنكم شِرْعَةً ومِنهاجًا﴾ فَقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -؛ وقَتادَةُ ؛ وجُمْهُورُ المُتَكَلِّمِينَ: اَلْمَعْنى: لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنكم جَعَلْنا شِرْعَةً ومِنهاجًا؛ أيْ: لِلْيَهُودِ شِرْعَةٌ ومِنهاجٌ؛ ولِلنَّصارى كَذَلِكَ؛ ولِلْمُسْلِمِينَ كَذَلِكَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا عِنْدَهم في الأحْكامِ؛ وأمّا في المُعْتَقَدِ فالدِينُ واحِدٌ لِجَمِيعِ العالَمِ؛ تَوْحِيدٌ وإيمانٌ بِالبَعْثِ؛ وتَصْدِيقٌ لِلرُّسُلِ؛ وقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعالى في كِتابِهِ عَدَدًا مِنَ الأنْبِياءِ؛ شَرائِعُهم مُخْتَلِفَةٌ؛ ثُمَّ قالَ لِنَبِيِّهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠] ؛ فَهَذا عِنْدَ العُلَماءِ في المُعْتَقَداتِ فَقَطْ؛ وأمّا في الشَرائِعِ فَهَذِهِ الآيَةُ هي القاضِيَةُ فِيها: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنكم شِرْعَةً ومِنهاجًا﴾. (p-١٨٥)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: والتَأْوِيلُ الأوَّلُ عَلَيْهِ الناسُ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنكم شِرْعَةً ومِنهاجًا﴾ ؛ اَلْأُمَمَ؛ كَما قَدَّمْنا؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ الأنْبِياءَ؛ لا سِيَّما وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرَهم وذِكْرُ ما أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ؛ وتَجِيءُ الآيَةُ مَعَ هَذا الِاحْتِمالِ في الأنْبِياءِ تَنْبِيهًا لِمُحَمَّدٍ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ أيْ: فاحْفَظْ شِرْعَتَكَ ومِنهاجَكَ لِئَلّا يَسْتَزِلَّكَ اليَهُودُ؛ وغَيْرُهم في شَيْءٍ مِنهُ. والمُتَأوِّلُونَ عَلى أنَّ الشِرْعَةَ والمِنهاجَ في هَذِهِ الآيَةِ لَفْظانِ؛ بِمَعْنًى واحِدٍ؛ وذَلِكَ أنَّ الشِرْعَةَ والشَرِيعَةَ هِيَ: اَلطَّرِيقُ إلى الماءِ؛ وغَيْرِهِ مِمّا يُورَدُ كَثِيرًا؛ فَمِن ذَلِكَ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ وفي الشَرائِعِ مِن جَلّانَ مُقْتَنِصٌ ∗∗∗ بالِي الثِيابِ خَفِيُّ الصَوْتِ مَندُوبُ أرادَ: في الطُرُقِ إلى الماءِ؛ ومِنهُ: اَلشّارِعُ؛ وهي سِكَكُ المُدُنِ؛ ومِنهُ قَوْلُ الناسِ: "وَفِيها يُشْرَعُ البابُ"؛ والمِنهاجُ أيْضًا: اَلطَّرِيقُ؛ ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ مَن يَكُ في شَكٍّ فَهَذا نَهْجُ ∗∗∗ ∗∗∗ ماءٌ رَواءٌ وطَرِيقٌ نَهْجُ أرادَ: واضِحًا؛ والمِنهاجُ بِناءُ مُبالَغَةٍ في ذَلِكَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ؛ وغَيْرُهُ: ﴿شِرْعَةً ومِنهاجًا﴾ ؛ مَعْناهُ: سَبِيلًا؛ وسُنَّةً. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ويَحْتَمِلُ لَفْظُ الآيَةِ أنْ يُرِيدَ بِالشِرْعَةِ: الأحْكامَ؛ وبِالمِنهاجِ: المُعْتَقَدَ؛ أيْ: وهو واحِدٌ في جَمِيعِكُمْ؛ وفي هَذا الِاحْتِمالِ بُعْدٌ. والقُرّاءُ عَلى "شِرْعَةً"؛ بِكَسْرِ الشِينِ؛ وقَرَأ إبْراهِيمُ النَخَعِيُّ ؛ ويَحْيى بْنُ وثّابٍ: "شَرْعَةً"؛ بِفَتْحِ الشِينِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى بِأنَّهُ لَوْ شاءَ لَجَعَلَ العالَمَ أُمَّةً واحِدَةً؛ ولَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ؛ لِأنَّهُ أرادَ اخْتِبارَهم وابْتِلاءَهم فِيما آتاهم مِنَ الكُتُبِ؛ والشَرائِعِ؛ كَذا قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ ؛ وغَيْرُهُ؛ فَلَيْسَ (p-١٨٦)لَهم إلّا أنْ يَجِدُّوا في امْتِثالِ الأوامِرِ؛ وهو اسْتِباقُ الخَيْراتِ؛ فَلِذَلِكَ أمَرَهم بِأحْسَنِ الأشْياءِ عاقِبَةً لَهُمْ؛ ثُمَّ حَثَّهم تَعالى بِالمَوْعِظَةِ والتَذْكِيرِ بِالمَعادِ؛ في قَوْلِهِ: ﴿إلى اللهِ مَرْجِعُكم جَمِيعًا﴾ ؛ والمَعْنى: "فالبَدارَ البَدارَ"؛ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَيُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ ؛ مَعْناهُ: "يَظْهَرُ الثَوابُ والعِقابُ؛ فَتُخْبَرُونَ بِهِ إخْبارَ إيقاعٍ"؛ وإلّا فَقَدْ نَبَّأ اللهُ في الدُنْيا بِالحَقِّ فِيما اخْتَلَفَتِ الأُمَمُ فِيهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذِهِ الآيَةُ بارِعَةُ الفَصاحَةِ؛ جَمَعَتِ المَعانِيَ الكَثِيرَةَ في الألْفاظِ اليَسِيرَةِ؛ وكُلُّ كِتابِ اللهِ تَعالى كَذَلِكَ؛ إلّا أنّا بِقُصُورِ أفْهامِنا يَبِينُ في بَعْضٍ لَنا أكْثَرُ مِمّا يَبِينُ في بَعْضٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب