الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿مِن أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إسْرائِيلَ أنَّهُ مِن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أو فَسادٍ في الأرْضِ فَكَأنَّما قَتَلَ الناسَ جَمِيعًا ومَن أحْياها فَكَأنَّما أحْيا الناسَ جَمِيعًا ولَقَدْ جاءَتْهم رُسُلُنا بِالبَيِّناتِ ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنهم بَعْدَ ذَلِكَ في الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ جُمْهُورُ الناسِ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿مِن أجْلِ ذَلِكَ﴾ ؛ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: "كَتَبْنا"؛ أيْ: "بِسَبَبِ هَذِهِ النازِلَةِ؛ ومِن جَرّاها كَتَبْنا"؛ وقالَ قَوْمٌ: بَلْ هو مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿مِنَ النادِمِينَ﴾ [المائدة: ٣١] ؛ أيْ: نَدِمَ مِن أجْلِ ما وقَعَ؛ والوَقْفُ - عَلى هَذا - عَلى "ذَلِكَ"؛ والناسُ عَلى أنَّ الوَقْفَ: "مِنَ النادِمِينَ"؛ يُقالُ: "أجَلَ الأمْرَ؛ أجَلًا؛ وأجْلًا"؛ إذا جَناهُ؛ وجَرَّهُ؛ ومِنهُ قَوْلُ خَوّاتٍ:(p-١٥١) ؎ وأهْلِ خِباءٍ صالِحٍ ذاتُ بَيْنِهِمْ ∗∗∗ قَدِ احْتَرَبُوا في عاجِلٍ أنا آجِلُهْ ويُقالُ: "فَعَلْتُ ذَلِكَ مِن أجْلِكَ" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ؛ و"مِن إجْلِكَ"؛ بِكَسْرِها؛ وقَرَأ أبُو جَعْفَرِ بْنُ القَعْقاعِ: "مِنِ اجْلِ ذَلِكَ"؛ بِوَصْلِ الألِفِ؛ وكَسْرِ النُونِ قَبْلَها؛ وهَذا عَلى أنْ ألْقى حَرَكَةَ الهَمْزَةِ عَلى النُونِ؛ كَما قالُوا: "كَمِ ابِلُكَ؟"؛ بِكَسْرِ المِيمِ؛ ووَصْلِ الألِفِ؛ و"مِنِ ابْراهِيمَ"؛ بِكَسْرِ النُونِ. و"كَتَبْنا"؛ مَعْناهُ: كُتِبَ بِأمْرِنا في كُتُبٍ مُنَزَّلَةٍ عَلَيْهِمْ؛ تَضَمَّنَتْ فَرْضَ ذَلِكَ؛ وخَصَّ اللهُ تَعالى بَنِي إسْرائِيلَ بِالذِكْرِ؛ وقَدْ تَقَدَّمَتْهم أُمَمٌ كانَ قَتْلُ النَفْسِ فِيهِمْ مَحْظُورًا؛ لِوَجْهَيْنِ: أحَدُهُما فِيما رُوِيَ أنَّ بَنِي إسْرائِيلَ أوَّلُ أُمَّةٍ نَزَلَ الوَعِيدُ عَلَيْهِمْ في قَتْلِ النَفْسِ في كِتابٍ؛ وغُلِّظَ الأمْرُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ طُغْيانِهِمْ؛ وسَفْكِهِمُ الدِماءَ؛ والآخَرُ لِتَلُوحَ مَذَمَّتُهم في أنْ كُتِبَ عَلَيْهِمْ هَذا؛ وهم مَعَ ذَلِكَ لا يَرْعَوُوُنَ؛ ولا يَنْتَهُونَ؛ بَلْ هَمُّوا بِقَتْلِ النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - ظُلْمًا؛ فَخُصُّوا بِالذِكْرِ لِحُضُورِهِمْ مُخالِفِينَ لِما كُتِبَ عَلَيْهِمْ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "بِغَيْرِ نَفْسٍ"؛﴾ مَعْناهُ: بِغَيْرِ أنْ تَقْتُلَ نَفْسًا فَتَسْتَحِقَّ القَتْلَ؛ وقَدْ حَرَّمَ اللهُ تَعالى نَفْسَ المُؤْمِنِ؛ إلّا بِإحْدى ثَلاثِ خِصالٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إيمانٍ؛ أو زِنًا بَعْدَ إحْصانٍ؛ أو قَتْلِ نَفْسٍ ظُلْمًا؛ وتَعَدِّيًا؛ وهُنا يَنْدَرِجُ المُحارِبُ. والفَسادُ في الأرْضِ يَجْمَعُ الزِنا؛ والِارْتِدادَ؛ والحِرابَةَ؛ وقَرَأ الحَسَنُ: "أو فَسادًا في الأرْضِ"؛ بِنَصْبِ الفَسادِ؛ عَلى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ؛ وتَقْدِيرُهُ: "أو أتى فَسادًا"؛ أو "أحْدَثَ فَسادًا"؛ وحُذِفَ الفِعْلُ الناصِبُ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَكَأنَّما قَتَلَ الناسَ جَمِيعًا﴾ ؛ اِضْطَرَبَ لَفْظُ المُفَسِّرِينَ في تَرْتِيبِ هَذا التَشْبِيهِ؛ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: اَلْمَعْنى: مَن قَتَلَ نَبِيًّا؛ أو إمامَ عَدْلٍ؛ فَكَأنَّما قَتَلَ الناسَ جَمِيعًا؛ ومَن أحْياهُ بِأنْ شَدَّ عَضُدَهُ ونَصَرَهُ؛ فَكَأنَّما أحْيا الناسَ جَمِيعًا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا قَوْلٌ لا تُعْطِيهِ الألْفاظُ. (p-١٥٢)وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا أنَّهُ قالَ: اَلْمَعْنى: مَن قَتَلَ نَفْسًا واحِدَةً؛ وانْتَهَكَ حُرْمَتَها؛ فَهو مِثْلُ مَن قَتَلَ الناسَ جَمِيعًا؛ ومَن تَرَكَ قَتْلَ نَفْسٍ واحِدَةٍ؛ وصانَ حُرْمَتَها؛ واسْتَحْيا مِن أنْ يَقْتُلَها؛ فَهو كَمَن أحْيا الناسُ جَمِيعًا. وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: اَلْمَعْنى: فَكَأنَّما قَتَلَ الناسَ جَمِيعًا عِنْدَ المَقْتُولِ؛ ومَن أحْياها واسْتَنْقَذَها مِن هَلَكَةٍ؛ فَكَأنَّما أحْيا الناسَ جَمِيعًا عِنْدَ المُسْتَنْقَذِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا؛ وغَيْرُهُ: اَلْمَعْنى: مَن قَتَلَ نَفْسًا فَأوبَقَ نَفْسَهُ فَكَأنَّهُ قَتَلَ الناسَ جَمِيعًا؛ إذْ يَصْلى النارَ بِذَلِكَ؛ ومَن سَلِمَ مِن قَتْلِها فَكَأنَّهُ سَلِمَ مِن قَتْلِ الناسِ جَمِيعًا. وقالَ مُجاهِدٌ: اَلَّذِي يَقْتُلُ النَفْسَ المُؤْمِنَةَ مُتَعَمِّدًا جَعَلَ اللهُ جَزاءَهُ جَهَنَّمَ؛ وغَضِبَ عَلَيْهِ؛ ولَعَنَهُ؛ وأعَدَّ لَهُ عَذابًا عَظِيمًا؛ يَقُولُ: لَوْ قَتَلَ الناسَ جَمِيعًا لَمْ يَزِدْ عَلى ذَلِكَ؛ ومَن لَمْ يَقْتُلْ أحَدًا فَقَدْ حَيِيَ الناسُ مِنهُ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: اَلْمَعْنى أنَّ مَن قَتَلَ نَفْسًا فَيَلْزَمُهُ مِنَ القَوَدِ والقِصاصِ ما يَلْزَمُ مَن قَتَلَ الناسَ جَمِيعًا؛ قالَ: ومَن أحْياها؛ أيْ: مَن عَفا عَمَّنْ وجَبَ لَهُ قَتْلُهُ؛ وقالَهُ الحَسَنُ أيْضًا؛ أيْ: هو العَفْوُ بَعْدَ القُدْرَةِ؛ وقالَ مُجاهِدٌ: ومَن أحْياها: أنْقَذَها مِن حَرْقٍ أو غَرَقٍ. وقالَ قَوْمٌ: لَمّا كانَ المُؤْمِنُونَ كُلُّهم يَطْلُبُونَ القاتِلَ؛ كانَ كَمَن قَتَلَ الناسَ جَمِيعًا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا قَوْلٌ مُتَداعٍ؛ ولَمْ يَتَخَلَّصِ التَشْبِيهُ إلى طَرَفٍ في شَيْءٍ مِن هَذِهِ الأقْوالِ؛ والَّذِي أقُولُ: إنَّ الشَبَهَ بَيْنَ قاتِلِ النَفْسِ؛ وقاتِلِ الكُلِّ لا يَطَّرِدُ مِن جَمِيعِ الجِهاتِ؛ لَكِنَّ الشَبَهَ قَدْ تَحَصَّلَ مِن ثَلاثِ جِهاتٍ: إحْداها: اَلْقَوَدُ؛ فَإنَّهُ واحِدٌ؛ والثانِيَةُ: اَلْوَعِيدُ؛ فَقَدْ تَوَعَّدَ اللهُ قاتِلَ النَفْسِ بِالخُلُودِ في النارِ؛ وتِلْكَ غايَةُ العَذابِ؛ فَإنْ فَرَضْناهُ يَخْرُجُ مِنَ النارِ بَعْدُ بِسَبَبِ التَوْحِيدِ فَكَذَلِكَ قاتِلُ الجَمِيعِ إنْ لَوِ اتَّفَقَ ذَلِكَ؛ والثالِثَةُ انْتِهاكُ الحُرْمَةِ؛ فَإنَّ نَفْسًا واحِدَةً في ذَلِكَ؛ وجَمِيعَ الأنْفُسِ سَواءٌ؛ والمُنْتَهِكُ في واحِدَةٍ مَلْحُوظٌ بِعَيْنِ مُنْتَهِكِ الجَمِيعِ؛ ومِثالُ ذَلِكَ: رَجُلانِ حَلَفا عَلى شَجَرَتَيْنِ ألّا يَطْعَما مِن ثَمَرِهِما شَيْئًا؛ فَطَعِمَ أحَدُهُما واحِدَةً مِن ثَمَرِ شَجَرَتِهِ؛ وطَعِمَ الآخَرُ ثَمَرَ شَجَرَتِهِ كُلَّهُ؛ فَقَدِ اسْتَوَيا في الحِنْثِ. (p-١٥٣)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "وَمَن أحْياها"؛﴾ فِيهِ تَجَوُّزٌ؛ لِأنَّها عِبارَةٌ عَنِ التَرْكِ والإنْقاذِ؛ وإلّا فالإحْياءُ حَقِيقَةً؛ الَّذِي هو الِاخْتِراعُ؛ إنَّما هو لِلَّهِ تَعالى؛ وإنَّما هَذا الإحْياءُ بِمَنزِلَةِ قَوْلِ نَمْرُودَ: ﴿ "أنا أُحْيِي"؛﴾ [البقرة: ٢٥٨] سَمّى التَرْكَ إحْياءً؛ ومُحْيِي نَفْسٍ كَمُحْيِي الجَمِيعِ في حِفْظِ الحُرْمَةِ؛ واسْتِحْقاقِ الحَمْدِ. ثُمَّ أخْبَرَ اللهُ تَعالى عن بَنِي إسْرائِيلَ أنَّهم جاءَتْهُمُ الرُسُلُ مِنَ اللهِ بِالبَيِّناتِ في هَذا؛ وفي سِواهُ؛ ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الكَثِيرُ مِنهم بَعْدَ ذَلِكَ في كُلِّ عَصْرٍ يُسْرِفُونَ؛ ويَتَجاوَزُونَ الحُدُودَ؛ وفي هَذِهِ الآيَةِ إشارَةٌ إلى فِعْلِ اليَهُودِ في هَمِّهِمْ بِقَتْلِ النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وغَيْرِهِ؛ إلى سائِرِ ذَلِكَ مِن أعْمالِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب