الباحث القرآني
قالَ اللهُ - عَزَّ وجَلَّ -:
﴿قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِما ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البابَ فَإذا دَخَلْتُمُوهُ فَإنَّكم غالِبُونَ وعَلى اللهُ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿قالُوا يا مُوسى إنّا لَنْ نَدْخُلَها أبَدًا ما دامُوا فِيها فاذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا إنّا ها هُنا قاعِدُونَ﴾ ﴿قالَ رَبِّ إنِّي لا أمْلِكُ إلا نَفْسِي وأخِي فافْرُقْ بَيْنَنا وبَيْنَ القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ ﴿قالَ فَإنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ في الأرْضِ فَلا تَأْسَ عَلى القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾
قَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ ؛ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ؛ ومُجاهِدٌ: "يُخافُونَ"؛ بِضَمِّ الياءِ؛ وقَرَأ الجُمْهُورُ: "يَخافُونَ"؛ بِفَتْحِ الياءِ؛ وقالَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ: اَلرَّجُلانِ: يُوشَعُ بْنُ نُونٍ؛ وهو ابْنُ أُخْتِ مُوسى ؛ وكالِبُ بْنُ يُوقَنا؛ ويُقالُ فِيهِ: "كِلابٌ"؛ ويُقالُ: "كالُوثُ" بِثاءٍ (p-١٣٩)مُثَلَّثَةٍ؛ ويُقالُ في اسْمِ أبِيهِ: "قافِيا"؛ وهو صِهْرُ مُوسى عَلى أُخْتِهِ؛ قالَ الطَبَرِيُّ: اِسْمُ زَوْجَتِهِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرانَ ؛ ومَعْنى "يَخافُونَ"؛ أيْ: اَللَّهَ؛ وأنْعَمَ عَلَيْهِما بِالإيمانِ الصَحِيحِ؛ ورَبْطِ الجَأْشِ؛ والثُبُوتِ في الحَقِّ؛ وقالَ قَوْمٌ: اَلْمَعْنى: يَخافُونَ العَدُوَّ؛ لَكِنْ أنْعَمَ اللهُ تَعالى عَلَيْهِما بِالإيمانِ؛ والثُبُوتِ؛ مَعَ خَوْفِهِما؛ ويُقَوِّي التَأْوِيلَ الأوَّلَ أنَّ في قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ اللهَ أنْعَمَ عَلَيْهِما"؛ وأمّا مَن قَرَأ بِضَمِّ الياءِ فَلِقِراءَتِهِ ثَلاثَةُ مَعانٍ؛ أحَدُها: ما رُوِيَ مِن أنَّ الرَجُلَيْنِ كانا مِنَ الجَبّارِينَ؛ آمَنا بِمُوسى واتَّبَعاهُ؛ فَكانا مِنَ القَوْمِ الَّذِينَ يُخافُونَ؛ لَكِنْ أنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِما بِالإيمانِ بِمُوسى؛ فَقالا: نَحْنُ أعْلَمُ بِقَوْمِنا؛ والمَعْنى الثانِي أنَّهُما يُوشَعُ؛ وكالُوثُ؛ لَكِنَّهُما مِنَ الَّذِينَ يُوَقَّرُونَ ويُسْمَعُ كَلامُهُمْ؛ ويُهابُونَ لِتَقْواهُمْ؛ وفَضْلِهِمْ؛ فَهم يُخافُونَ بِهَذا الوَجْهِ؛ والمَعْنى الثالِثُ أنْ يَكُونَ الفِعْلُ مِن "أخافَ"؛ والمَعْنى: مِنَ الَّذِينَ يُخافُونَ بِأوامِرِ اللهِ ونَواهِيهِ؛ ووَعِيدِهِ؛ وزَجْرِهِ؛ فَيَكُونَ ذَلِكَ مَدْحًا لَهم عَلى نَحْوِ المَدْحِ في قَوْلِهِ تَعالى:﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهم لِلتَّقْوى﴾ [الحجرات: ٣] ؛ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِما﴾ صِفَةٌ لِلرَّجُلَيْنِ.
والبابُ: هو بابُ مَدِينَةِ الجَبّارِينَ؛ فِيما ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ؛ والمَعْنى: "اِجْتَهِدُوا؛ وكافِحُوا؛ حَتّى تَدْخُلُوا البابَ"؛ وقَوْلُهُ: ﴿فَإنَّكم غالِبُونَ﴾ ؛ ظَنٌّ مِنهُما؛ ورَجاءٌ وقِياسٌ؛ أيْ: إنَّكم بِذَلِكَ تَفُتُّونَ في أعَضادِهِمْ؛ ويَقَعُ الرُعْبُ في قُلُوبِهِمْ؛ فَتَغْلِبُونَهُمْ؛ وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "عَلَيْهِما ويْلَكُمُ ادْخُلُوا"؛ وقَوْلُهُما: ﴿وَعَلى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ؛ يَقْتَضِي أنَّهُما اسْتَرابا بِإيمانِهِمْ حِينَ رَأياهم يَعْصُونَ الرَسُولَ؛ ويَجْبُنُونَ؛ مَعَ وعْدِ اللهِ تَعالى لَهم بِالنَصْرِ.
ثُمَّ إنَّ بَنِي إسْرائِيلَ لَجُّوا في عِصْيانِهِمْ؛ وسَمِعُوا مِنَ العَشَرَةِ النُقَباءِ الجَواسِيسِ الَّذِينَ خَوَّفُوهم أمْرَ الجَبّارِينَ؛ ووَصَفُوا لَهم قُوَّةَ الجَبّارِينَ؛ وعِظَمَ خَلْقِهِمْ؛ فَصَمَّمُوا عَلى خِلافِ أمْرِ اللهِ تَعالى: ﴿قالُوا يا مُوسى إنّا لَنْ نَدْخُلَها أبَدًا ما دامُوا فِيها فاذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا إنّا ها هُنا قاعِدُونَ﴾ ؛ وهَذِهِ عِبارَةٌ تَقْتَضِي كُفْرًا؛ وذَهَبَ بَعْضُ الناسِ إلى أنَّ المَعْنى: "اِذْهَبْ أنْتَ؛ ورَبُّكَ يُعِينُكَ"؛ وأنَّ الكَلامَ مَعْصِيَةٌ؛ لا كُفْرٌ.
(p-١٤٠)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وقَوْلُهُمْ: "فَقاتِلا"؛ يَقْطَعُ بِهَذا التَأْوِيلِ؛ وذَكَرَ النَقّاشُ عن بَعْضِ المُفَسِّرِينَ أنَّ المُرادَ بِالرَبِّ - هُنا - هارُونُ؛ لِأنَّهُ كانَ أسَنَّ مِن مُوسى؛ وكانَ مُعَظَّمًا في بَنِي إسْرائِيلَ؛ مُحَبَّبًا لِسَعَةِ خُلُقِهِ؛ ورَحْبِ صَدْرِهِ؛ فَكَأنَّهم قالُوا: "اِذْهَبْ أنْتَ وكَبِيرُكَ".
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ؛ وهارُونُ إنَّما كانَ وزِيرًا لِمُوسى؛ وتابِعًا لَهُ في مَعْنى الرِسالَةِ؛ ولَكِنَّهُ تَأْوِيلٌ يُخَلِّصُ بَنِي إسْرائِيلَ مِنَ الكُفْرِ؛ وذَكَرَ الطَبَرِيُّ عن قَتادَةَ أنَّهُ قالَ: «بَلَغَنا أنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - لَمّا عَزَمَ عَلى قِتالِ قُرَيْشٍ في عامِ الحُدَيْبِيَةِ جَمَعَ العَسْكَرَ؛ وكَلَّمَ الناسَ في ذَلِكَ؛ فَقالَ لَهُ المِقْدادُ بْنُ الأسْوَدِ: لَسْنا نَقُولُ لَكَ كَما قالَتْ بَنُو إسْرائِيلَ: ﴿فاذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا إنّا ها هُنا قاعِدُونَ﴾ ؛ لَكِنّا نَقُولُ: "اِذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا؛ إنّا مَعَكُما مُقاتِلُونَ"؛» وذَكَرَ النَقّاشُ أنَّ الأنْصارَ قالَتْ هَذِهِ المَقالَةَ لِلنَّبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وجَمِيعُ هَذا وهْمٌ؛ غَلِطَ قَتادَةُ - رَحِمَهُ اللهُ - في وقْتِ النازِلَةِ؛ وغَلِطَ النَقّاشُ في قائِلِ المَقالَةِ؛ والكَلامُ إنَّما وقَعَ في غَزْوَةِ بَدْرٍ؛ حِينَ نَزَلَ رَسُولُ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: ذَفِرانَ؛ فَكَلَّمَ الناسَ وقالَ لَهُمْ: أشِيرُوا عَلَيَّ أيُّها الناسُ؛ فَقالَ لَهُ المِقْدادُ هَذِهِ المَقالَةَ في كَلامٍ طَوِيلٍ؛ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ إسْحاقَ وغَيْرُهُ؛ ثُمَّ تَكَلَّمَ مِنَ الأنْصارِ سَعْدُ بْنُ مُعاذٍ بِنَحْوِ هَذا المَعْنى؛ ولَكِنْ سَبْقَهُ المِقْدادُ إلى التَمْثِيلِ بِالآيَةِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وتَمَثُّلُ المِقْدادِ بِها؛ وتَقْرِيرُ النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - لِذَلِكَ؛ يَقْتَضِي أنَّ الرَبَّ إنَّما أُرِيدَ بِهِ اللهُ تَعالى؛ ويُؤْنِسُ أيْضًا في إيمانِ بَنِي إسْرائِيلَ؛ لِأنَّ المِقْدادَ قَدْ قالَ: اِذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا؛ ولَيْسَ لِكَلامِهِ مَعْنًى إلّا أنَّ اللهَ تَعالى يُعِينُكَ؛ ويُقاتِلُ مَعَكَ مَلائِكَتُهُ ونَصْرُهُ؛ فَعَسى أنَّ بَنِي إسْرائِيلَ أرادَتْ ذَلِكَ؛ أيْ: "اِذْهَبْ أنْتَ؛ ويُخْرِجُهُمُ اللهُ بِنَصْرِهِ وقُدْرَتِهِ مِنَ المَدِينَةِ؛ وحِينَئِذٍ نَدْخُلُها"؛ لَكِنْ قَبُحَتْ عِبارَتُهم لِاقْتِرانِ النُكُولِ بِها؛ وحَسُنَتْ عِبارَةُ المِقْدادِ لِاقْتِرانِ الطاعَةِ والإقْدامِ بِها.
ولَمّا سَمِعَ مُوسى - عَلَيْهِ السَلامُ - قَوْلَهُمْ؛ ورَأى عِصْيانَهُمْ؛ تَبَرَّأ إلى اللهِ تَعالى (p-١٤١)مِنهُمْ؛ وقالَ داعِيًا عَلَيْهِمْ: ﴿رَبِّ إنِّي لا أمْلِكُ إلا نَفْسِي وأخِي﴾ ؛ يَعْنِي هارُونَ؛ وقَوْلُهُ: "وَأخِي"؛ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ إعْرابُهُ رَفْعًا؛ إمّا عَلى الِابْتِداءِ؛ والتَقْدِيرُ: وأخِي لا يَمْلِكُ إلّا نَفْسَهُ؛ وإمّا عَلى العَطْفِ عَلى الضَمِيرِ الَّذِي في "أمْلِكُ"؛ تَقْدِيرُهُ: "لا أمْلِكُ أنا"؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ إعْرابُهُ نَصْبًا؛ عَلى العَطْفِ عَلى "نَفْسِي"؛ وذَلِكَ لِأنَّ هارُونَ كانَ يُطِيعُ مُوسى؛ فَلِذَلِكَ أخْبَرَ أنَّهُ يَمْلِكُهُ؛ وقَرَأ الحَسَنُ: "إلّا نَفْسِيَ وأخِيَ"؛ بِفَتْحِ الياءِ فِيهِما؛ وقَوْلُهُ: "فافْرُقْ بَيْنَنا"؛ دُعاءُ حَرَجٍ؛ قالَ السُدِّيُّ: هي عَجَلَةٌ عَجِلَها مُوسى - عَلَيْهِ السَلامُ -؛ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ؛ والضَحّاكُ ؛ وغَيْرُهُما: اَلْمَعْنى: "اِفْصِلْ بَيْنَنا وبَيْنَهم بِحُكْمٍ؛ وافْتَحْ"؛ فالمَعْنى: "اُحْكم بِحُكْمٍ يُفَرِّقُ هَذا الِاخْتِلافَ؛ ويَلُمُّ الشَعَثَ".
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وعَلى هَذا التَأْوِيلِ فَلَيْسَ في الدُعاءِ عَجَلَةٌ؛ وقالَ قَوْمٌ: اَلْمَعْنى: "فافْرُقْ بَيْنَنا وبَيْنَهم في الآخِرَةِ؛ حَتّى تَكُونَ مَنزِلَةُ المُطِيعِ مُفارِقَةً لِمَنزِلَةِ العاصِي الفاسِقِ"؛ ويَحْتَمِلُ الدُعاءُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ: "فُرِّقَ بَيْنَنا وبَيْنَهُمْ"؛ بِمَعْنى أنْ يَقُولَ: "فَقَدْنا وُجُوهَهُمْ؛ وفُرِّقَ بَيْنَنا وبَيْنَهم حَتّى لا نَشْقى بِفِسْقِهِمْ"؛ وبِهَذا الوَجْهِ تَجِيءُ العَجَلَةُ في الدُعاءِ؛ وقَرَأ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: "فافْرِقْ" بِكَسْرِ الراءِ.
﴿قالَ فَإنَّها مُحَرَّمَةٌ﴾ ؛ اَلْمَعْنى: "قالَ اللهُ "؛ وأُضْمِرَ الفاعِلُ في هَذِهِ الأفْعالِ كُلِّها إيجازًا؛ لِدَلالَةِ مَعْنى الكَلامِ عَلى المُرادِ؛ وحَرَّمَ اللهُ تَعالى عَلى جَمِيعِ بَنِي إسْرائِيلَ دُخُولَ تِلْكَ المَدِينَةِ أرْبَعِينَ سَنَةً؛ وتَرَكَهم خِلالَها يَتِيهُونَ في الأرْضِ؛ أيْ: في أرْضِ تِلْكَ النازِلَةِ؛ وهو فَحْصُ التِيهِ؛ وهو - عَلى ما يُحْكى - طُولَ ثَمانِينَ مِيلًا؛ في عَرْضِ سِتَّةِ فَراسِخَ؛ وهو ما بَيْنَ مِصْرَ والشامِ؛ ويُرْوى أنَّهُ اتَّفَقَ أنَّهُ ماتَ كُلُّ مَن كانَ قالَ: ﴿إنّا لَنْ نَدْخُلَها أبَدًا﴾ ؛ ولَمْ يَدْخُلِ المَدِينَةَ أحَدٌ مِن ذَلِكَ الجِيلِ إلّا يُوشَعُ؛ وكالُوثُ؛ ويُرْوى أنَّ هارُونَ - عَلَيْهِ السَلامُ - ماتَ في فَحْصِ التِيهِ؛ في خِلالِ هَذِهِ المُدَّةِ؛ ولَمْ يُخْتَلَفْ في هَذا؛ ورُوِيَ أنَّ (p-١٤٢)مُوسى - عَلَيْهِ السَلامُ - ماتَ فِيهِ بَعْدَ هارُونَ بِثَمانِيَةِ أعْوامٍ؛ وقِيلَ: بِسِتَّةِ أشْهُرٍ ونَصْفٍ؛ وأنَّ يُوشَعَ نُبِّئَ بَعْدَ كَمالِ الأرْبَعِينَ سَنَةً؛ وخَرَجَ بِبَنِي إسْرائِيلَ؛ وقاتَلَ الجَبّارِينَ؛ وفَتَحَ المَدِينَةَ؛ وفي تِلْكَ الحَرْبِ وقَفَتْ لَهُ الشَمْسُ ساعَةً حَتّى اسْتَمَرَّ هَزْمُ الجَبّارِينَ؛ ورُوِيَ أنَّ مُوسى - عَلَيْهِ السَلامُ - عاشَ حَتّى كَمُلَتِ الأرْبَعُونَ؛ وخَرَجَ بِالناسِ؛ وحارَبَ الجَبّارِينَ؛ ويُوشَعُ وكالَبُ عَلى مُقَدِّمَتِهِ؛ وأنَّهُ فَتَحَ المَدِينَةَ؛ وقَتَلَ بِيَدِهِ عُوجَ بْنَ عِناقٍ؛ يُقالُ: كانَ في طُولِ مُوسى عَشَرَةَ أذْرُعٍ؛ وفي طُولِ عَصاهُ عَشَرَةَ أذْرُعٍ؛ وتَرامى مِنَ الأرْضِ في السَماءِ عَشَرَةَ أذْرُعٍ؛ وحِينَئِذٍ لَحِقَ كَعْبَ عُوجٍ فَضَرَبَهُ بِعَصاهُ في كَعْبِهِ فَخَرَّ صَرِيعًا؛ ويُرْوى أنَّ عُوجًا اقْتَلَعَ صَخْرَةً لِيَطْرَحَها عَلى عَسْكَرِ بَنِي إسْرائِيلَ؛ فَبَعَثَ اللهُ هُدْهُدًا بِحَجَرِ الماسِ؛ فَأدارَهُ عَلى الصَخْرَةِ فَتَقَوَّرَتْ؛ ودَخَلَتْ في عُنُقِ عُوجٍ؛ وضَرَبَهُ مُوسى؛ فَماتَ؛ وحَكى الطَبَرِيُّ أنَّ طُولَ عُوجٍ ثَمانِمِائَةِ ذِراعٍ؛ وحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُما - أنَّهُ قالَ: لَمّا خَرَّ كانَ جِسْرًا عَلى النِيلِ سَنَةً.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: والنِيلُ لَيْسَ في تِلْكَ الأقْطارِ؛ وهَذا كُلُّهُ ضَعِيفٌ؛ واللهُ أعْلَمُ؛ وحَكى الزَجّاجُ عن قَوْمٍ أنَّ مُوسى وهارُونَ لَمْ يَكُونا في التِيهِ؛ والعامِلُ في "أرْبَعِينَ"؛ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ "مُحَرَّمَةٌ"؛ أيْ: "حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً؛ ويَتِيهُونَ في الأرْضِ هَذِهِ المُدَّةَ ثُمَّ تُفْتَحُ عَلَيْهِمْ؛ أدْرَكَ ذَلِكَ مَن أدْرَكَهُ؛ وماتَ قَبْلَهُ مَن ماتَ"؛ وخَطَّأ أبُو إسْحاقَ أنْ يَكُونَ العامِلُ "مُحَرَّمَةٌ"؛ وذَلِكَ مِنهُ تَحامُلٌ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ العامِلُ "يَتِيهُونَ"؛ مُضْمَرًا؛ يَدُلُّ عَلَيْهِ "يَتِيهُونَ"؛ اَلْمُتَأخِّرُ؛ ويَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿فَإنَّها مُحَرَّمَةٌ﴾ ؛ إخْبارٌ مُسْتَمِرٌّ؛ تَلَقَّوْا مِنهُ أنَّ المُخاطَبِينَ لا يَدْخُلُونَها أبَدًا؛ وأنَّهم - مَعَ ذَلِكَ - يَتِيهُونَ في الأرْضِ أرْبَعِينَ سَنَةً؛ يَمُوتُ فِيها مَن ماتَ.
(p-١٤٣)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: والخِطابُ عَلى هَذا التَأْوِيلِ أصْعَبُ مَوْقِفًا؛ وأحْضَرُ يَأْسًا؛ ورُوِيَ أنَّ مَن كانَ قَدْ جاوَزَ عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ يَعِشْ إلى الخُرُوجِ مِنَ التِيهِ؛ وأنَّ مَن كانَ دُونَ العِشْرِينَ عاشُوا.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: كَأنَّهُ لَمْ يَعِشِ المُكَلَّفُونَ؛ أشارَ إلى ذَلِكَ الزَجّاجُ.
والتِيهُ: اَلذَّهابُ في الأرْضِ إلى غَيْرِ مَقْصِدٍ مَعْلُومٍ؛ ويُرْوى أنَّ بَنِي إسْرائِيلَ كانُوا يَرْحَلُونَ بِاللَيْلِ ويَسِيرُونَ لَيْلَهم أجْمَعَ في تَحْلِيقٍ؛ ونَحْوِهِ؛ مِنَ التَرَدُّدِ؛ وقِلَّةِ اسْتِقامَةِ السَيْرِ؛ حَتّى إذا أصْبَحُوا وجَدُوا جُمْلَتَهم في المَوْضِعِ الَّذِي كانُوا فِيهِ أوَّلَ اللَيْلِ؛ قالَ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ: كانُوا يَسِيرُونَ النَهارَ أحْيانًا؛ واللَيْلَ أحْيانًا؛ فَيُمْسُونَ حَيْثُ أصْبَحُوا؛ ويُصْبِحُونَ حَيْثُ أمْسَوْا؛ وذَلِكَ في مِقْدارِ سِتَّةِ فَراسِخَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ تِيهُهم بِافْتِراقِ الكَلِمَةِ؛ وقِلَّةِ اجْتِماعِ الرَأْيِ؛ وأنَّ اللهَ تَعالى رَماهم بِالِاخْتِلافِ؛ وعَلِمُوا أنَّها قَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً؛ فَتَفَرَّقَتْ مَنازِلُهم في ذَلِكَ الفَحْصِ؛ وأقامُوا يَنْتَقِلُونَ مِن مَوْضِعٍ إلى مَوْضِعٍ؛ عَلى غَيْرِ نِظامٍ واجْتِماعٍ؛ حَتّى كَمُلَتْ هَذِهِ المُدَّةُ؛ وأذِنَ اللهُ بِخُرُوجِهِمْ؛ وهَذا تِيهٌ مُمْكِنٌ؛ مُحْتَمَلٌ؛ عَلى عُرْفِ البَشَرِ؛ والآخَرُ الَّذِي ذَكَرَ مُجاهِدٌ إنَّما هو خَرْقُ عادَةٍ؛ وعَجَبٌ مِن قُدْرَةِ اللهِ تَعالى.
وفِي ذَلِكَ التِيهِ ظُلِّلَ عَلَيْهِمُ الغَمامُ؛ ورُزِقُوا المَنَّ والسَلْوى؛ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا رُوِيَ مِن مَلابِسِهِمْ؛ وقَدْ مَضى ذَلِكَ في سُورَةِ "اَلْبَقَرَةِ".
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا تَأْسَ عَلى القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ ؛ مَعْناهُ: فَلا تَحْزَنْ؛ يُقالُ: "أسِيَ الرَجُلُ؛ يَأْسى؛ أسًى"؛ إذا حَزِنَ؛ ومِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ:
؎ وُقُوفًا بِها صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيِّهِمْ ∗∗∗ يَقُولُونَ لا تَهْلِكْ أسًى وتَجَمَّلِ
(p-١٤٤)وَمِنهُ قَوْلُ مُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ:
؎ فَقُلْتُ لَهم إنَّ الأسى يَبْعَثُ الأسى ∗∗∗ ∗∗∗ دَعُونِي فَهَذا كُلُّهُ قَبْرُ مالِكِ
والخِطابُ بِهَذِهِ الآيَةِ لِمُوسى - عَلَيْهِ السَلامُ -؛ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُما - نَدِمَ مُوسى عَلى دُعائِهِ عَلى قَوْمِهِ؛ وحَزِنَ عَلَيْهِمْ؛ فَقالَ لَهُ اللهُ - تَبارَكَ وتَعالى-: ﴿فَلا تَأْسَ عَلى القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ ؛ وقالَ قَوْمٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: اَلْخِطابُ بِهَذِهِ الألْفاظِ لِمُحَمَّدٍ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ ويُرادُ بِالفاسِقِينَ مُعاصِرُوهُ؛ أيْ: هَذِهِ أفْعالُ أسْلافِهِمْ؛ فَلا تَحْزَنْ أنْتَ بِسَبَبِ أفْعالِهِمُ الخَبِيثَةِ مَعَكَ؛ ورَدِّهِمْ عَلَيْكَ؛ فَإنَّها سَجِيَّةٌ خَبِيثَةٌ مَوْرُوثَةٌ عِنْدَهم.
{"ayahs_start":23,"ayahs":["قَالَ رَجُلَانِ مِنَ ٱلَّذِینَ یَخَافُونَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِمَا ٱدۡخُلُوا۟ عَلَیۡهِمُ ٱلۡبَابَ فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَـٰلِبُونَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤا۟ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ","قَالُوا۟ یَـٰمُوسَىٰۤ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَاۤ أَبَدࣰا مَّا دَامُوا۟ فِیهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـٰتِلَاۤ إِنَّا هَـٰهُنَا قَـٰعِدُونَ","قَالَ رَبِّ إِنِّی لَاۤ أَمۡلِكُ إِلَّا نَفۡسِی وَأَخِیۖ فَٱفۡرُقۡ بَیۡنَنَا وَبَیۡنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَـٰسِقِینَ","قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَیۡهِمۡۛ أَرۡبَعِینَ سَنَةࣰۛ یَتِیهُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَـٰسِقِینَ"],"ayah":"قَالَ رَبِّ إِنِّی لَاۤ أَمۡلِكُ إِلَّا نَفۡسِی وَأَخِیۖ فَٱفۡرُقۡ بَیۡنَنَا وَبَیۡنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَـٰسِقِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق