الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَلَقَدْ أخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ وبَعَثْنا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وقالَ اللهُ إنِّي مَعَكم لَئِنْ أقَمْتُمُ الصَلاةَ وآتَيْتُمُ الزَكاةَ وآمَنتُمْ بِرُسُلِي وعَزَّرْتُمُوهم وأقْرَضْتُمُ اللهُ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عنكم سَيِّئاتِكم ولأُدْخِلَنَّكم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكم فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَبِيلِ﴾ هَذِهِ الآياتُ المُتَضَمِّنَةُ الخَبَرَ عن نَقْضِهِمْ مَواثِيقَ اللهِ تَعالى تُقَوِّي أنَّ الآيَةَ المُتَقَدِّمَةَ في كَفِّ الأيْدِي إنَّما كانَتْ في أمْرِ بَنِي النَضِيرِ؛ واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في كَيْفِيَّةِ بِعْثَةِ هَؤُلاءِ النُقَباءِ؛ بَعْدَ الإجْماعِ عَلى أنَّ النَقِيبَ كَبِيرُ القَوْمِ؛ القائِمُ بِأُمُورِهِمْ؛ الَّذِي يُنَقِّبُ عنها؛ وعن مَصالِحِهِمْ فِيها؛ و"اَلنَّقّابُ": الرَجُلُ العَظِيمُ الَّذِي هو في الناسِ كُلِّهِمْ عَلى هَذِهِ الطَرِيقَةِ؛ (p-١٢٧)وَمِنهُ قِيلَ في عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -: إنَّهُ كانَ لَنَقّابًا؛ فالنُقَباءُ: اَلضُّمّانُ؛ واحِدُهُمْ: نَقِيبٌ؛ وهو شاهِدُ القَوْمِ وضَمِينُهُمْ؛ وقالَ قَوْمٌ: اَلنُّقَباءُ: اَلْأُمَناءُ عَلى قَوْمِهِمْ؛ وهَذا كُلُّهُ قَرِيبٌ بَعْضُهُ مِن بَعْضٍ؛ والنَقِيبُ أكْبَرُ مَكانًا مِنَ العَرِّيفِ؛ قالَ قَتادَةُ - رَحِمَهُ اللهُ -؛ وغَيْرُهُ: هَؤُلاءِ النُقَباءُ قَوْمٌ كِبارٌ مِن كُلِّ سِبْطٍ؛ تَكَفَّلَ كُلُّ واحِدٍ بِسِبْطِهِ بِأنْ يُؤْمِنُوا ويَتَّقُوا اللهَ تَعالى. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ونَحْوَ هَذا كانَ النُقَباءُ لَيْلَةَ بَيْعَةِ العَقَبَةِ مَعَ مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ وهي العَقَبَةُ الثالِثَةُ؛ بايَعَ فِيها سَبْعُونَ رَجُلًا وامْرَأتانِ؛ فاخْتارَ رَسُولُ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - مِنَ السَبْعِينَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا؛ وسَمّاهُمُ النُقَباءَ؛ وقالَ الرَبِيعُ؛ والسُدِّيُّ ؛ وغَيْرُهُما: إنَّما بُعِثَ النُقَباءُ مِن بَنِي إسْرائِيلَ أُمَناءَ عَلى الِاطِّلاعِ عَلى الجَبّارِينَ؛ والسَبْرِ لِقُوَّتِهِمْ؛ ومَنعَتِهِمْ؛ فَسارُوا حَتّى لَقِيَهم رَجُلٌ مِنَ الجَبّارِينَ؛ فَأخَذَهم جَمِيعًا فَجَعَلَهم في حُجُزَتِهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: في قَصَصٍ طَوِيلٍ ضَعِيفٍ؛ مُقْتَضاهُ أنَّهُمُ اطَّلَعُوا مِنَ الجَبّارِينَ عَلى قُوَّةٍ عَظِيمَةٍ؛ وظَنُّوا أنَّهم لا قِبَلَ لَهم بِهِمْ؛ فَتَعاقَدُوا بَيْنَهم عَلى أنْ يُخْفُوا ذَلِكَ عن بَنِي إسْرائِيلَ؛ وأنْ يُعْلِمُوا بِهِ مُوسى - عَلَيْهِ السَلامُ - لِيَرى فِيهِ أمْرَ رَبِّهِ؛ فَلَمّا انْصَرَفُوا إلى بَنِي إسْرائِيلَ خانَ مِنهم عَشَرَةٌ؛ فَعَرَّفُوا قَراباتِهِمْ؛ ومَن وثَّقُوهُ عَلى سِرِّهِمْ؛ فَفَشا الخَبَرُ حَتّى اعْوَجَّ أمْرُ بَنِي إسْرائِيلَ؛ وقالُوا: اذْهَبْ أنتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ. وأسْنَدَ الطَبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُما - قالَ: اَلنُّقَباءُ مِن بَنِي إسْرائِيلَ؛ بَعَثَهم مُوسى - عَلَيْهِ السَلامُ - لِيَنْظُرُوا إلى مَدِينَةِ الجَبّارِينَ؛ فَذَهَبُوا؛ ونَظَرُوا؛ فَجاؤُوا بِحَبَّةٍ مِن فاكِهَتِهِمْ وِقْرَ رَجُلٍ؛ فَقالُوا: اُقْدُرُوا قَدْرَ قُوَّةِ قَوْمٍ هَذِهِ فاكِهَتُهُمْ؛ فَكانَ ذَلِكَ سَبَبَ فِتْنَةِ بَنِي إسْرائِيلَ ونُكُولِهِمْ. وذَكَرَ النَقّاشُ أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَبَعَثْنا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ ؛ أيْ مَلِكًا؛ وأنَّ الآيَةَ تَعْدِيدُ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِمْ في أنْ بَعَثَ لِإصْلاحِهِمْ هَذا العَدَدَ مِنَ المُلُوكِ؛ قالَ: (p-١٢٨)فَما وفى مِنهم إلّا خَمْسَةٌ: داوُدُ - عَلَيْهِ السَلامُ - وابْنُهُ سُلَيْمانُ - عَلَيْهِ السَلامُ -؛ وطالُوتُ؛ وحِزْقِيا؛ وابْنُهُ؛ وكَفَرَ السَبْعَةُ؛ وبَدَّلُوا؛ وقَتَلُوا الأنْبِياءَ؛ وخَرَجَ خِلالَ الِاثْنَيْ عَشَرَ اثْنانِ وثَلاثُونَ جَبّارًا؛ كُلُّهم يَأْخُذُ المُلْكَ بِالسَيْفِ؛ ويَعِيثُ فِيهِمْ؛ والضَمِيرُ فِي: "مَعَكُمْ"؛ لِبَنِي إسْرائِيلَ جَمِيعًا؛ ولَهم كانَتْ هَذِهِ المَقالَةُ؛ وقالَ الرَبِيعُ: بَلِ الضَمِيرُ لِلِاثْنَيْ عَشَرَ؛ ولَهم كانَتْ هَذِهِ المَقالَةُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: والقَوْلُ الأوَّلُ أرْجَحُ؛ و"مَعَكُمْ"؛ مَعْناهُ: بِنَصْرِي وحِياطَتِي؛ وتَأْيِيدِي؛ واللامُ في قَوْلِهِ: "لَئِنْ"؛ هي المُؤْذِنَةُ بِمَجِيءِ لامِ القَسَمِ؛ ولامُ القَسَمِ هي قَوْلُهُ: "لَأُكَفِّرَنَّ"؛ والدَلِيلُ عَلى أنَّ هَذِهِ اللامَ إنَّما هي مُؤْذِنَةٌ أنَّها قَدْ يُسْتَغْنى عنها أحْيانًا؛ ويَتِمُّ الكَلامُ دُونَها؛ ولَوْ كانَتْ لامَ القَسَمِ فَلَنْ يَتَرَتَّبَ ذَلِكَ. وإقامَةُ الصَلاةِ: تَوْفِيَةُ شُرُوطِها؛ والزَكاةَ هُنا: شَيْءٌ مِنَ المالِ كانَ مَفْرُوضًا فِيما قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: "وَأعْطَيْتُمْ مِن أنْفُسِكم كُلَّ ما فِيهِ زَكاةٌ لَكُمْ؛ حَسْبَما نُدِبْتُمْ إلَيْهِ"؛ وقَدَّمَ هَذِهِ عَلى الإيمانِ تَشْرِيفًا لِلصَّلاةِ؛ والزَكاةِ؛ وإذْ قَدْ عُلِمَ وتَقَرَّرَ أنَّهُ لا يَنْفَعُ عَمَلٌ إلّا بِإيمانٍ؛ وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "بِرُسْلِي"؛ ساكِنَةَ السِينِ؛ في كُلِّ القُرْآنِ. "وَعَزَّرْتُمُوهُمْ"؛ مَعْناهُ: وقَّرْتُمُوهُمْ؛ وعَظَّمْتُمُوهُمْ؛ ونَصَرْتُمُوهُمْ؛ ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ وكَمْ مِن ماجِدٍ لَهُمُ كَرِيمٌ ∗∗∗ ومِن لَيْثٍ يُعَزَّرُ في النَدِيِّ وقَرَأ عاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ: "وَعَزَرْتُمُوهُمْ"؛ خَفِيفَةَ الزايِ حَيْثُ وقَعَ؛ وقَرَأ في سُورَةِ "اَلْفَتْحِ": "وَتَعْزُرُوهُ"؛ بِفَتْحِ التاءِ؛ وسُكُونِ العَيْنِ؛ وضَمِّ الزايِ؛ وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ "اَلْبَقَرَةِ" تَفْسِيرُ الإقْراضِ. وتَكْفِيرُ السَيِّئاتِ: تَغْطِيَتُها بِالمَحْوِ والإذْهابِ؛ فَهي اسْتِعارَةٌ؛ و"سَواءَ السَبِيلِ": وسَطُهُ؛ ومِنهُ: "سَواءُ الجَحِيمِ"؛ ومِنهُ قَوْلُ الأعْرابِيِّ: "قَدِ (p-١٢٩)انْقَطَعَ سِوائِي"؛ وأوساطُ الطُرُقِ هي المُعَظَّمُ اللاحِبُ مِنها؛ وسائِرُ ما في الآيَةِ بَيِّنٌ؛ واللهُ المُسْتَعانُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب